صحيفة المثقف

ضياء نافع: عن تشيخوف وشوارعه

ضياء نافع..لأنه لا توجد شوارع وساحات في بغداد تحمل اسم بدر شاكر السياب او نازك الملائكة او غائب طعمه فرمان او..او..او..، قررت ان اكتب هذه السطور، كي اهديها، اولا، الى ...من يهمّه الامر.. (كما تعوّدنا ان نكتب في عرائضنا غير المجدية !!!) انطلاقا من مبدأ – ... فذكّر ان نفعت الذكرى... رغم اني أعرف مسبقا، ان  عملية التذكير هذه (لم تنفع في حينها ولن تنفع لاحقا !!!).. واكتب هذه السطور، ثانيا، كي اخفف الوطأ (كما اوصانا المعرّي العظيم) عن روحي وقلبي وعقلي، بعد ان اطلعت على احصائية (غريبة وطريفة جدا!) تتحدث عن عدد الشوارع في روسيا (وبعض دول الاتحاد السوفيتي سابقا)، التي تحمل اسم الكاتب الروسي انطون تشيخوف، بل ان عالمية تشيخوف واطلاق اسمه على الشوارع تخطّت حدود روسيا ودول المجموعة السوفيتية السابقة، ووصلت الى دول اوربية اخرى، وليس فقط  دول المعسكر الاشتراكي السابق، والتي كانت تسير ضمن المدار الفكري السوفيتي كما هو معلوم، بل وصلت عالمية تشيخوف الى دول اوربية غربية بعيدة جدا جدا عن التأثير الروسي و السوفيتي سياسيا وفكريا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فهناك الان شوارع وساحات تحمل اسم تشيخوف في المانيا وايطاليا وفرنسا ...، وكل هذا يعدّ طبعا ظاهرة حضارية متقدّمة و مدهشة و تستحق التأمّل العميق بلا شك ...

تقول ارقام تلك الاحصائية الطريفة، ان تشيخوف يشغل المكان رقم واحد بين الادباء الروس، الذين تمّ اطلاق اسمائهم على الشوارع في روسيا، وكذلك المدن السوفيتية سابقا، عندما كان الاتحاد السوفيتي قائما آنذاك، و على الرغم من تغيير معظم التسميات في تلك الدول بعد الغاء دولة الاتحاد السوفيتي عام 1991 كما هو معروف، الا ان اسم تشيخوف لم يتغيّر، وقد علّق احد اصدقائي العراقيين على ذلك قائلا وهو يضحك – ... لأن تشيخوف (فوق الميول والاتجاهات !)، وكان هذا (المصطلح السياسي العراقي البحت !) موضوعا لحديثنا وتعليقاتنا المتنوعة المرحة والعميقة الحزن في آن، نحن العراقيين، الذين التقينا آنذاك - وبمحض الصدفة - في موسكو . قال الاول، ان تشيخوف لم يكن بالنسبة للعراقيين (فوق الميول والاتجاهات)، والدليل على ذلك، ان مجلس السلم العالمي طلب من انصاره في العالم الاحتفال عام 1954 بذكرى مرور خمسين عاما على وفاة تشيخوف، وقد (لبّى!) هذا النداء الحزب الشيوعي العراقي، وأصدر اول كتاب عن تشيخوف في العراق، وهو كتاب شاكر خصباك الشهير . اعترض الثاني قائلا، ان كتاب خصباك كان فعلا متناسقا مع نداء مجلس السلم العالمي، وهو منظمة تابعة للحركة الشيوعية العالمية بقيادة الاتحاد السوفيتي آنذاك، وبالتالي، فانه جاء ضمن نشاط الحزب الشيوعي العراقي، الا ان كتاب خصباك عن تشيخوف تخطى ذلك (الحاجز!) ان صح التعبير، واصبح – وبمرور الزمن – كتابا عراقيا جميلا ومفيدا ورائدا وقائما بذاته عن تشيخوف، يرتبط باسم خصباك فقط، ولم يعد عملا فكريا، جاء نتيجة نداء مجلس السلم العالمي ليس الا، والدليل على ذلك، ان خصباك نفسه أعاد طبع هذا الكتاب في اليمن نهاية القرن العشرين، وذلك باعتبار هذا الكتاب واحدا من المصادر المهمة لتعريف القارئ العربي بالكاتب الروسي تشيخوف، وبغض النظر عن موقف الحزب الشيوعي العراقي تجاهه عند صدوره في الخمسينيات ببغداد عندئذ . قال الثالث، ان كل الادباء الروس في العراق الملكي وبداية العراق الجمهوري كانوا يُعتبرون (بضم الياء) ضمن (الميول والاتجاهات اليسارية) وليس فوقها، لانهم فقط روس ليس الا، بغض النظر عن مواقفهم الفكرية و نوعية كتاباتهم ومضامينها واهدافها (بما فيهم حتى بوشكين وغوغول ودستويفسكي وتورغينيف وتولستوي وتشيخوف)، وان هذه النظرة الساذجة جدا (التي كانت سائدة في شعاب المجتمع العراقي كافة آنذاك) دليل اكيد على سذاجة الساحة الفكرية العراقية عموما في تلك الفترة، وهي اثبات مادي ملموس ليس فقط لسذاجة السلطة الحاكمة وحدها، وانما لسذاجة كل القوى الاخرى في ذلك المجتمع، بما فيها القوى السياسية المعارضة للسلطة والمضادة لها .

 اتفقنا في نهاية دردشتنا الطريفة تلك، ان ظاهرة (شوارع تشيخوف !) العالمية ترتبط بابداع تشيخوف الانساني الهادئ والعذب بعمق وابتسامته الجميلة والحزينة، وان (عطسة موظفه الروسي، التي ادّت الى موته رعبا !) مفهومة جدا لكل انسان، بغض النظر عن قومية هذا الانسان وجنسيته ودينه وبقية خصائصة المتنوعة الاخرى، واتفقنا ايضا، ان بغداد ستشهد يوما ما ميلاد شارع يحمل اسم بدر شاكر السياب او غائب طعمه فرمان او نازك الملائكة او. ..او.. الخ، ولكن لن يكون فيها شارع يحمل اسم تشيخوف الروسي، او حتى شكسبير الانكليزي، والحليم تكفيه الاشارة....     

 

 ا.د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم