صحيفة المثقف

محمود محمد علي: علي شريعتي بين مطرقة النباهة وسنديان الإستحمار (1)

محمود محمد عليفي عُرف الإنسانية الممتد لآماد سحيقة  لا يمكن لمجتمع ولا لفكرة، ولا لرمز، أن يستمر أن يستمر إلا بوجود صدق وتفان والتزام، يحفها ويحيطها بالرعاية والاحتضان، وإلا كان الأمر حبيس المجردات التي لا صلة لها بواقع الناس وهمومهم، بل وتكون من قبيل الأثقال والأوزار التي ينوء كاهل الناس علي حملها أو حمايتها، واعتبار ذلك؛ كالنهر إن لم يجد سبيلاً سلك، كذلك الفكرة إن لم تُحتضن هنا، بحثت عمن يخلص لها هناك، فتحيطه بهالة من التوقير والرمزية، واستمرار الذكر، وفي المقابل يمنحها هو حياة من دمه وعرقه وتأمله، فيتسنى لها أن تشع بتأثيرها وألقها؛ فتصنع إرهاصاً يتحول بعد أمد لواقع ثم إلي تاريخ، وتتعاقب الوقائع وتتداول الأيام، فتكون جدلية بين الفكرة والإنسان، وليس كل إنسان يبلغ أن تتولاه الفكرة وتواليه ؛ فكم من مفكر طواه ليل النسيان، ولم يُعد له من ذكر، أو سرعان ما افتضح وبانت خيانته، وظهر ليه لعنق الحقيقة لحساب المفسدين في الأرض، المتظاهرين بالإصلاح، الجاثمين علي صدر الوعي والحقيقة أن يصدحا ؛ فليس كل من فكر قد تأمل، ومن دعا قد صدق، ومن حمل هما كان مهموماً به، فقد يستحيل الحال إلي ترف متصنع متكلف، يخلو من لوعة الإيمان، وحرقة الفهم، وأنين العجز (1).

ولذلك فإن الفكرة في تواصل دائم مع صاحبها وليس مالكها، تدعوه وتستحثه التبليغ، وتستجديه البذل، ليس بذل المراءاة والمراوغة، وإنما بذل الغِراس الذي يثمر أجيالاً من الناس الحبلى، بوعي يرفعهم إلي مصاف القديسين الذين نفقوا تحت سنابك الجهل والتخلف والفقر، وقد كان ” علي شرعيتي”، واحداً من هؤلاء مفكري الشيعة الذين نبذوا الجمود والتخلف، ورأي أن عمل المفكر هو إيقاظ ضمير المجتمع , ومنح العوام الوعي الذاتي وتقديم تفسير وتحليل إيدلوجيين وعمليين للظروف الاجتماعية الموجودة وبيان المثل وخطوط السير ونقل الواقعيات المتناسبة والمتناقضة في الحياة الأخلاقية والثقافية والاجتماعية إلى إحساس الناس ووعيهم واستخراج المنابع المدفونة والمواد الخام للطاقات المعنوية والفكرية في تاريخ الأمة وثقافتها” (2)

وقد كان “علي محمد تقي شريعتي” (23 نوفمبر 1933 – 18 يونيو 1977 م) م المفكر الإيراني المعروف،  قائدًا كاريزميًا غير تقليدي بصورة تثير القلق، مفكرًا إسلاميًا عظيم التأثير إلى حد مثير للشحناء، منظرًا شديد الأصالة بدرجة تغري بالتشويه. رغم أن شريعتي لم يكمل الخمسة وأربعين عامًا في هذه الدنيا، إلا أنه استطاع تطوير وجهة نظر جديدة حول تاريخ وعلم اجتماع الإسلام، وخلق حراك ثوري رهيب، وشحذ عقول جمع غفير من الشباب، سيكون له دور رئيسي في الثورة الإيرانية التي ستعقب وفاته بعامين (3) .

كما يعد من أبرز الشخصيات التي أدت أفكاره وجهوده دوراً كبيراً في إعداد الشعب الإيراني فكرياً وسياسياً، في المدة التي سبقت قيام الثورة الإيرانية عام 1979م، مما دفع الجماهير إلي تسميته بـ " معلم الثورة"، و" مبلور هويتها الفكرية".

قدم "علي شريعتي" فكراً جوهرياً بالمطالبة بالحرية، والديمقراطية، والثورة علي المؤسسات التقليدية، والنضال ضد الهيمنة الأجنبية، والتخلف، والاستبداد، والتغريب، والذي أدي دوراً حاسماً في تعبئة قطاع واسع من الجماهير الإيرانية، وتحديداً الشباب المثقف، علي طريق الثورة ضد الشاة " محمد رضا البهلوي".

وقد قال عنه الأستاذ إبراهيم مشارة:” كنت أسمع به من خلال بعض الكتاب الذين أقرأ لهم وكنت حينها غارقا في قراءات الإحيائيين كالأفغاني ومحمد عبده والعقاد ثم العقلانيين كزكي نجيب محمود وبرهان غليون وعلي حرب ومحمد أركون ونصر حامد أبي زيد، والحقيقة أنني كنت ضحية الخطاب الدغمائي الذي يحذر من هذا الكاتب بسبب شيعيته، ولكنني منذ بدأت في شق عصا الطاعة والخروج على ثقافة المجموع، وقراءة أول كتاب “النباهة والاستحمار” والتي تقابل مصطلح “القابلية للاستعمار” عند “مالك بن نبي” ثم كتابه العظيم “دين ضد الدين”، وكتابه “مسؤولية المثقف”، حتى رحت أفرح بقدوم الليل وسكون الأشياء لأتفرغ لنصوص هذا الشاب العبقري أستمتع بالقراءة استمتاع العاشق بطيف محبوبه، وجدت روحاً إنسانية تدين بالإبراهيمية على الرغم من الاعتقاد بالمذهب الإثني عشري.. رجل لا يكره أهل السنة بل يستشهد بكتبهم في بعض كتاباته ككتاب “محمد من الهجرة إلى الوفاة”، ولا يضيق ذرعا بالصحابة ولا ينال منهم ومن حقه أن يحب حد العشق أبا ذر الغفاري، فقد سمعت “جارودي” يثني عليه ثم هو حين يحلل التاريخ الإسلامي يثبت أنه تاريخ كتبته السلطة، فأبقت ما يوافق ميولها وأقصت ما يخالف أفكارها التي تتمركز في الاحتفاظ بالسلطة وتوريثها.. وأكثر ما شدني في الدكتور “علي شريعتي” انفتاحه على الثقافة الغربية فقد نال الدكتوراه في علم الاجتماع الديني وجالس الفيلسوف “جون بول سارتر”، وتبادل رسائل مع “فرانس فانون” و”إيمي سيزار” وساند الثورة الجزائرية، لقد آمن “شريعتي” بالمقولة الخالدة “من لا معاش له لا معاد له”، أي أن الفوز في الآخرة مشروط بالفوز في الدنيا اختراعاً واكتشافاً ومدنية وعدلاً، وهذا للأسف ما أخفق فيه المسلمون ونجح فيه الغربيون (4).

ولذلك يعد “علي شريعتي” من بين مفكرين قلائل تجردوا من ضيق التمذهب، فكان أحد أبرز منتقدي ما سماه “التشيع الصفوي” و “التسنن الأموي”، داعياً إلى التقريب بين المذاهب بما يخدم وحدة الصف الإسلامي في وجه الأخطار المحدقة به وتجاوز ونبذ الخلافات التي لا تستفيد منها سوى بعض الأطراف المعينة التي تغذي روح الانقسام (كعادة المفكرين السابقين لعصورهم بأفكارهم المختلفة)، ولا دليل على بعد نظره سوى الحرائق التي تغذي بنيرانها الآن منطقة الشرق الأوسط (5).

كما يعد الدكتور “علي شريعتي” من بين أهم المفكرين المسلمين الذين ظهروا في القرن العشرين، لجهة كون أدبياته وأفكاره كانت محل تأثير وقبول واسعَيْن من السُّنَّة والشيعة، وكونه أحد المنظِّرين الأساسيين للثورة الإيرانية (6).

ولد “علي شريعتي في قرية “مزينان” قرب مدينة مشهد بمحافظة خوراسان في كانون الأول 1933م . تأثره الأكبر كان بوالده المفكّر والمناضل المعروف الذي شكل بداية معالم شخصيّته وهويّته العلميّة والدينيّة “اللامنتمية” لمذهب، فقد كان والده ضمن جماعة من المثقفين الإيرانيين المتأثرين بالأفكار اليسارية، والتي كانت تجد صدى واسعاً في ذلك الحين، وهي حركة “الاشتراكيون الذين يخشون الله” (7).

كان “شريعتي” يرى نفسه فرعًا عن سلالة شريفة كريمة مناضلة، يجد في حكاياتها ما ينبؤه بأن وجوده كان أسبق على مولده، مثلما كان يؤمن بـ”وراثة الأمانة” عقيدة وفلسفة إسلامية أصيلة، تمتد منذ الجد الأول – آدم – مرورًا بالحسين “وارث الدم”، ما يعني أن جميع الحوادث الماضية والآتية غائية وذات ترابط موضوعي تام سيستمر إلى نهاية الزمان ؛ وتتلمذ شريعتي على يد عمه الذي أورثه علوم أجداده الحكماء، لكن الشعلة الحقة التي استمد منها شريعتي وهجه كانت الأب العالم الديني ذا التوجه اليساري محمد تقي شريعتي، مؤسس “مركز نشر الحقائق الإسلامية” في مشهد وصاحب الجهود في تفسير القرآن، الذي تلقى عنه ولده علوم العربية والشريعة أيضًا (8).

أنهي " علي شريعتي " دراسته الثانوية في مشهد، ثم التحق بمعهد إعداد المعلمين، وتخرج في عام 1952م، ليصبح وهو بعمر الثامنة عشر معلماً ابتدائياً في احدي القري الإيرانية، والتحق في عام 1955م بكلية الآداب في جامعة مشهد، إذ نشط في الكلية من خلال لإدارته العديدة من النقاشات الأدبية والسياسية، تزوج في عام 1956م من زميلته في الدراسة، " بوران شريعت رضوي"، التي تنحدر من عائلة معروفة بنشاطها في الجبهة الوطنية، وفي معارضة سياسات الشاة " محمد رضا البهلوي" ( 1941-1979م) (9).

بعد تخرجه من الجامعة بدرجة الامتياز في الأدب عام 1958م، أُرسل في بعثة دراسية إلي جامعة السوربون في فرنسا عام 1959م، التي وصلها عام 1960م، إذ درس الأديان، وعلم الاجتماع، والأدب، وحصل في عام 1964م علي شهادتين للدكتوراه في تاريخ الإسلام وعلم الاجتماع (10).

عاد " علي شريعتي" إلي إيران بعد حصوله علي شهادة الدكتوراه، إلا أنه أُعتقل فور وصوله إلي الحدود التركية – الإيرانية، بتهمة تهديد الأمن الوطني، واستجواب بشأن نشاطه الطلابي في فرنسا، وبعد اعتقال دام ستة أشهر تم إطلاق سراحه، ثم سُمح له في عام 1965م بالتدريس في ثانويات مشهد، كما درس في جامعة مشهد، إذ قام  بتدريس مقرر " تاريخ إيران بعد الإسلام"، ومقرر " تاريخ الحضارة"، وشكلت هذه الموضوعات بؤرة لاهتمام الطلاب في جامعة مشهد، إذ قدم في محاضراته تحليلات  فلسفية واجتماعية للمفاهيم الإسلامية، الأمر الذي زاد من شعبية محاضراته، ومثل خطابه في تلك المحاضرات ثورة علي الموروث الديني التقليدي من جهة، وكذلك علي الاكاديمية علي مستوي المنهجية والفلسفة التعليمية من جهة أخري، ولم تخل محاضراته من توجيه النقد للحكومة وللأجهزة الأمنية الإيرانية، التي وصلت إليها بعض التقارير عن محتوي محاضراته، ولذلك  وجه جهاز "السافاك" (وهو جهاز مخابراتي)، رسالة لإدارة الجامعة بشأن نشاط شريعتي، إذ تم بعد ذلك منعه من مواصلة التدريس في الجامعة، ومما يدل علي مدي شعبية محاضرات شريعتي، إن عدد الطلاب المسجلين في بعضها وصل إلي أكثر مئتين وخمسين طالبا (11).

وفي خلال تلك الفترة ترجم شريعتي إلى الفارسية كتاب “أبي ذر الغفاري” للكاتب المصري عبد الحميد جودة السحار عن العربية، كما ترجم كتابًا معنون بـ”الدعاء” عن الفرنسية؛ وفي 1952م أسس شريعتي في اتحاد الطلبة المسلمين، وانضم بقوة إلى الحراك الاجتماعي والسياسي الغاضب عقب انقلاب 1953 على حكومة محمد مصدق – المنتخب ديمقراطيًا – بتدبير من عناصر المخابرات البريطانية والأمريكية، ما أدى إلى اعتقاله مرتين؛ في عام 1956 انضم شريعتي محب الأدب والشعر إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة مشهد بنفس الروح الثائرة، حيث أسس جمعية أدبية ونشر المقالات، كما التقى بالسيدة “بوران شريعت رضوي” ستجمعهما زيجة تثمر عن ولد وثلاث بنات (12)... وللحديث بقية..

 

أ.د محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................

1- الحاج أبو حمنه دواق : جدلية الوعي والحرية في فكر علي شريعتي، مؤمنون بلا حدود ، ص 3.

2- نفس المرجع، ص 4.

3-محمد أسامة: علي شريعتي رفقة زوجته بوران وصديق لهما، 16/01/2020.

4-إبراهيم مشارة: علي شريعتي بين محبيه والمتحاملين عليه، الأربعاء 2020/04/29.

5-الحسن الرويجل: قراءة في كتاب النباهة.. والاستحمار.. 22‏/06‏/2012.

6-نفس المرجع.

7-منى شكري: علي شريعتي: إنسانية الفكر والإصلاح،  23/11/2017.

8-محمد أسامة: نفس المرجع .

9-م . د . فراس صالح خضر الجبوري، م . د . حسن علي خضير العبيدي: دور المفكرين في قيام الثورة الإيرانية عام 1979 م "علي شريعتي أنموذجاً"، مجلة الملوية للدراسات الآثارية والتاريخية  المجلد الثالث  العدد الرابع  السنة الثالثة  شباط 2016 م، ص 183.

10- نفس المرجع، ص 184-185.

11- نفس المرجع، ص 186-187.

12- محمد أسامة: نفس المرجع .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم