صحيفة المثقف

صلاح حزام: الرأسماليون الاقحاح والشيوعيون راهنوا على أخلاق الفرد وفشلوا

صلاح حزاممن مظاهر الحيرة والارتباك التي عاشها مؤسس علم الاقتصاد آدم سمث، هو التناقض الذي شهده بين دعواته النظرية الى تحجيم دور الحكومة (طالب بحكومة صغيرة) لاتتدخل في كل شيء، وبين سلوك الناس في اقتصاد السوق وقيامهم بكل شيء من أجل المال والثروة دون روادع اخلاقية غالباً.

كونه اساساً استاذاً جامعياً يدرّس علم الاخلاق وعنده مؤلفات في هذا الحقل، كان يراهن على الفطرة الطيبة والنزعة الأخلاقية المتأصلة في النفس البشرية، التي تضمن ان لايتحول المجتمع الانساني الى غابة تتصارع فيها الوحوش من أجل البقاء، في ظل سيادة آلية السوق الحرة التنافسية (الاقتصاد الطبيعي كما اسماه سمث)

والذي يترافق مع وجود حكومة صغيرة محدودة المهام لاتتدخل في كل شيء.

أذن هي الاخلاقية الفردية التي سوف تضمن عدم الانجرار الى مجتمع الغابة.

لكنه اكتشف ان الأمور على الارض لاتسير كما كان يتوقع.

هنا ادرك انه لابد من دور ما للحكومة في اعادة ضبط الامور . بل انه نفسه وافق على شغل منصب مفتش الكمارك في اسكتلندا لسنوات طويلة لمحاربة المهربين وفرض التعريفة الكمركية وكان يحاسب ويطارد بقسوة

مع انه كان يدعو الى فتح الحدود ومنح الحرية الكاملة للتبادل التجاري الحر مع العالم بدون كمارك ودون تدخل حكومي (فلسفة دَعهُ يعمل).

وهنا كان السؤال يدور في اذهان الباحثين: هل هو إغراء الوظيفة وراتبها الكبير الذي جعل سمث يعمل على عكس ماكان يدعو اليه، ام انه معرفة حقيقة الامور وماكان يجب على الحكومة عمله؟

لم تكف الحكومات عن التدخل في مختلف جوانب الحياة وبدرجات مختلفة ..

الشيوعيون من الناحية الأخرى، كان شعارهم الغاء الدولة ولدى فلاسفتهم الكثير من الكتب بهذا المعنى.

كانت الدولة في نظرهم: حارساً للمصالح الطبقية، واذا زالت الطبقات في ظل الشيوعية، لايعود هناك من داعٍ لوجود الدولة.. استدرك فردريك انجلز في أحد كتبه قائلاً: لابد من وجود قوة صغيرة من الشرطة للتصدي لبعض بقايا العصبية والانانية الشخصية!!

عندما سألهم خصومهم عن كيفية تمشية الامور بدون جبروت وسلطة الدولة ؟ قالوا ان الرهان هو على خلق وتربية " الفرد الشيوعي" الناكر لذاته والذي تذوب مصلحته في مصلحة الجماعة والذي ليس لديه مايدعو الى ان يتصارع مع أخيه الفرد الآخر ..فكل شيء وافر وكله للجميع !!

روى لي احد الاساتذة (رحمه الله) وكان قد درس وعاش لسنوات في الاتحاد السوفيتي السابق، انه قد جرت دراسة من قبل أحدى الجامعات لمعرفة مدى النجاح الذي تم احرازه في خلق وتنشأة الفرد الشيوعي الناكر لذاته والخالي من الانانية.

من المعروف ان الفكر الشيوعي يتضمن قانونين للتوزيع، الاول يطبّق خلال مرحلة الاشتراكية وهو: من كلٍّ حسب قدرته ولكلٍ حسب عمله.

والثاني يطبّق خلال المرحلة الشيوعية وهو: من كلٍّ حسبَ قدرته ولكلٍّ حسب حاجته.

لاختبار طبيعة الناس قرر فريق البحث الاعلان عن توفير ازرار المعاطف المصنوعة من الخشب دون مقابل في مكان معَّين ودعوا الناس الى أخذ مايحتاجونه من تلك الازرار الخشبية.

الصدمة كانت كبيرة عندما هرع الجميع لأخد كميات كبيرة من الازرار لغرض استخدامها كوقود في المدافيء

لكونها خشبية !!!

طبعاً كان ذلك يعني ان المسافة لازالت بعيدة بينهم وبين خلق الفرد الناكر لذاته والمجرد من الانانية وحب المصلحة الشخصية.

الرهان على نزاهة ونبل الافراد ووعيهم الذاتي فقط دون سلطة وقوة القانون، يبدو أمراً غير واقعي.

ليس فقط الافراد هم من يحتاجون الى قوة لضبط السلوك العام وتأمين المصلحة العامة , بل الدول قد تتنافس الى حد الحرب والقتال من أجل تأمين مصالحها، وكما يفعل الافراد دون سلطة ..

كان السبب من وراء اقامة منظمة الامم المتحدة هو جعلها كشكل من اشكال الحكومة العالمية التي يشارك فيها كل العالم وتضع القوانين والقواعد للسياسة الدولية، وذلك لضبط سلوك الدول والتدخل لمنع الخروقات وتحديد ماهو جائز وماهو غير جائز .

لكن التطبيق للأسف أخذ تلك المنظمة الى وضع مختلف وكما هو معروف للجميع.

الملاحظة والمفارقة الملفتة للنظر، هي ان الرأسمالية المتطرفة والشيوعية يلتقيان فكرياً في قضيتين اساسيتين وهما : الغاء او تصغير حجم الدولة والحكومة، والاعتماد على دور الفرد النزيه الذي يتحلى بالأخلاق العالية والشعور بالمسؤولية الاجتماعية.

هذه المفارقة سوف أعود لتناولها من خلال مناقشة افكار لويس كالدور صاحب نظرية الالتقاء.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم