صحيفة المثقف

محمود محمد علي: علي شريعتي بين مطرقة النباهة وسنديان الإستحمار (2)

محمود محمد عليفي عام 1964، عاد علي شريعتي إلى مسقط رأسه، حيث عُيّن مدرّساً بجامعة مشهد بعد أن اعتقل لفترة عقب إلقاء القبض عليه عند الحدود الإيرانيّة. يقول عنه الدكتور “إبراهيم الدسوقي شتا” في تقديمه لترجمة كتابه “العودة إلى الذات”: “كان شريعتي يستطيع آنذاك أن يكون أستاذاً مثل بقيّة الأساتذة، مفكّراً مزيّفاً.. ودليلاً متطوّعاً للتنوير والتغريب… عاد شريعتي وبدلاً من أن يقوم بترجمة “الوجود والعدم” لسارتر… ترجم “سلمان الفارسي” لماسينيون. وبدلاً من أن يكتب عن أقطاب الغرب، كتب عن أبي ذر الغفاري …”(13).

بعد عودته من باريس عام 1965 ساهم “شريعتي” في تعبئة الجماهير الإيرانيّة، من أجل تحقيق الاستقلال والعدالة الاجتماعيّة والحرية. جماهير مؤمنة بالثورة، لا جمهور مسالم من المؤمنين الصالحين. كان طرحه السياسيّ يتلخّص في أنّ بلاد العالم الثالث ومن ضمنها إيران بحاجة إلى ثورتين مترابطتين ومتزامنتين هما: ثورة وطنيّة تنهي كل أشكال السيطرة الإمبرياليّة، وأخرى اجتماعيّة تُنهي كل أشكال الفقر وتجتثّ الفقر والرأسماليّة (14).

تجسدت جرأة علي شريعتي في النأي بنفسه عن “النضال الآمن” خارج بلده مفضلاً محاربة نظام الشاه في عقر داره من خلال حسينية الإرشاد التي أسسها عام 1969 إلى جانب مجموعة من المفكرين والمثقفين المتنورين، مثل مرتضى مطهّري، وتمكن من خلالها من نشر أفكاره التصحيحية عن الأفكار السائدة عن الإسلام والتشيع في صفوف طلابه، حتى وصلت إلى قطاعات واسعة من المجتمع الإيراني الذي أخذت آراؤه الجريئة في وجه التغريب والفكر الديني المزيف تنمو فيه بسرعة، واستعدت عليه الكهنوت السلطوي والديني على السواء “إن إسلامنا بدون رجال الدين هؤلاء، سيرجع أصيلاً سليماً، كما هو اقتصادنا بدون نفط”.…”(15).

لقد مات “شريعتي” مقتولاً في لندن في أواخر السبعينيات شهيد الحق والعدل والكرامة، ولو عاش إلى اليوم لأنكر هجوم الشيعة على السنة ونعتهم لهم بالنواصب، ولأنكر على السنة رفضهم للتشيع الجعفري المعتدل الذي لا ينكر خلافة أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا يجوز الاعتداء على كرامة الصحابة، وقد كان الشيخ الأكبر “محمود شلتوت”- شيخ الأزهر قد أفتى بجواز التعبد بالمذهب الجعفري (16).

ترك “شريعتي” العديد من الكتب المختصّة بدراسة الفكر الإسلامي، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والأدب، حتى بلغ مجموع أعماله أكثر من مئةٍ وخمسين كتابا، وترجم معظمها إلى العديد من اللغات الأجنبية؛ كما أنّ العديد منها كان محاضرات ارتجاليّة ألقاها في حسينية الإرشاد وتم تسجيلها وتفريغها دون زيادة أو نقصان أو تعديل، ومن أبرزها: طريق معرفة الإسلام، العودة إلى الذات، والحسين وإرث آدم، والإسلام والإنسان، والتشيع العلوى والتشيع الصفوي، والنباهة والاستحمار، ومسئولية المثقف، وبناء الذات الثورية، وسيماء محمد، ودين ضد دين… وهلم جرا (17).

في هذه الكتابات دعا “علي شريعتي” إلي إسلام لا مركزي يتجاوز سلطة رجال الدين، ويحرر المؤمن من سلطة الوسيط بينه وبين ربه؛ كما انتقد النزعة الشعوبية لدى رجال التشيع الصفوي، وعُد واحدًا من القلائل الذين استطاعوا التجرد بعيدا عن هوى المذاهب والتمذهب (18)، حيث “شريعتي” رأي أن الإسلام الذي يقدمه رجال الدين يختلف تمامًا عن الإسلام الصافي، ويقول: منذ زمان السيد “جمال الدين الأفغاني” التفتنا إلى أن الإسلام ليس كما هو مطروح في الميدان، وعرفنا أن هناك في أذهاننا الكثير من القواعد العقائدية والكثير من الشعائر والمرتكزات مبهم – كما هي الحال في الوقت الحاضر- أو ملفق مع عناصر أجنبية، أو أنه مجهول من الأساس، وعلى أي حال فقد اذعنّا جميعًا – في القرن الأخير – بحاجتنا نحن المسلمين إلى إصلاح عميق وطراز تفكير ديني سليم (19).

كما انتقد “شريعتي” سعى رجال الدين إلى احتكار الحق في تفسير الإسلام، وهو ما وصفه بأنه : أسوأ وأكثر أنواع الاستبداد قمعًا، لهذا دعا إلى إصلاح بروتستانتي، أو نهضة للإسلام، وفيه يتاح لأى فرد تفسير النص المقدس بنفسه، مسترشدا بعقله وبروح الإسلام الثورية المناهضة لكل أشكال الظلم والاستعباد ؛ ففي كتابه (العودة إلى الذات) كتب قائلًا: كل مصائبنا حدثت من أن جيلنا القديم ابتلى بالتحجر، وابتلى جيلنا الجديد بالعبث والخواء أي لا إلى دين ولا إلى إلحاد فهو جيل دون اتجاه دون أيديولوجية، ودون مبدأ عقائدي ودون شخصية، ودون تعصب ودون هدف، وعمل المفكر الآن هو إيقاظ ضمير المجتمع، ومنح العوام الوعى الذاتي، وتقديم تفسير وتحليل أيديولوجي للظروف الاجتماعية الموجودة، وبيان المثل وخطوط السير ونقل الواقعيات المتناسبة والمتناقضة في الحياة الأخلاقية والثقافية والاجتماعية إلى إحساس الناس (20).

وهنا نجد بين أيدينا كتاب يتكلَّم فيها شريعتي عن قضية مهمة، وهي قضية الوعي، وهو كتاب “النباهة والاستحمار”، (وهو موضوع ورقتنا) والكتاب كان صدر عن “الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع” البيروتية، في العام 1984م، فقد كان في الأصل محاضرة ألقاها علي شريعتي في قاعة: حسينية الإرشاد، بطهران، سجلت على أشرطة ثم نقلت كتابة على الورق دون زيادة أو نقصان فجمعت بين دفتي كتاب أتى تحت عنوان: (النباهة والاستحمار)؛  وعلى الرغم من غزارة الإنتاج الفكري لشريعتي وتعدد مصطلحاته الملهمة، إلا أن مصطلح (النباهة والاستحمار) يبقى أكثرها انتشاراً بينها وأعظمها نفعاً وأجداها قيمة (21).

وكان هدف الكتاب هو التحذير من غسل الأدمغة وتزييف الوعى على مستوى الأفراد والشعوب، من أجل ألا يقعوا ضحايا للخداع، والعبث بعقولهم وصرفهم عن التفكير في وجودهم، من خلال إشغالهم بأشياء براقة زائفة، فيصيب المتلاعبون بالعقول أهدافهم، دون أن يدرى المخدوعون بما جرى (22).

يناقش الدكتورشريعتي في كتابه النباهة والاستحمار وضعية التخلف في العالم الاسلامي ويرجعها الى غياب النباهة أي الوعي النفسي والاصالة والابداع وهي الصفات التي تكّون الذات الفاعلة في المجتمع وتجعله كيانا مستعصيا على الاستبداد والاستعمار وحين تختفي هذه الصفات أي الوعي والأصالة والأبداع تبرز عندئذ ظاهرة الاستحمار أي تزييف الوعي الفردي والاجتماعي وتسخير الانسان لخدمة أغراض الاستعمار واستبداد الفئات الحاكمة كما يسخّر الحمار (23).

ويحتوي الكتاب على ستة فصول مع خلاصة في نهاية الفصل الأخير؛ وهذا الكتاب هو أساس نظرية الدكتور شريعتي في “الاستحمار” فلقد كشف النقاب عن أسس هذا العلم الذي ابتكره المستعمر ليتم له عن طريق استحمار الشعوب الأخرى: شرقية وعربية وإسلامية. الخ. وفي هذا الكتاب يبين لنا الدكتور شريعتي أساليب “المستعمر” في تطبيق الاستحمار وكيف يتم هذا التطبيق وما هي أسسه ومبادئه.

ويقوم الكتاب على فرضية أن الإنسان له قيمة ومسئولية كبيرتان، وعليه أن يعرف نفسه وطاقاته وإمكانياته جيدا، وهذا ما سماه شريعتى (النباهة الذاتية)، ومن أهم ثمارها تيقظ الفرد وإنتباهه وشعوره بذاته ومعرفتها معرفة تامة وأنه خليفة الله في الأرض، وقد بين أن هذه المعرفة والوعي والنباهة تفوق وتتجاوز العلم والفلسفة والفن والصنعة، فالإنسان مهما علا وارتقى وتدرج في هذه العلوم دون نباهة فلن يصل إلى صيرورته الذاتية، لأن النباهة يقع مكانها في فكر وشعور الفرد لا في العلم والفلسفة، وتأتي هذه النباهة بالضبط من فكر وإيمان وعقيدة الفرد (24).

كما وضح “علي شريعتي” أن كل حضارة تريد أن تقوم أو تبنى يجب أن تنطلق من غاية محددة ضمن إيمان وعقيدة راسخة، وعليه فالنباهة تسبق الحضارة، وجميع المجتمعات والدول التي حاولت الوصول للحضارة دون عقيدة وفكر (نباهة ) فقد فشلت في ذلك وحققت فقط نوع من العصرية الاستهلاكية  وبقيت تابعة كليا للحضارة التي انتهلت منها هذه العصرية (25).

وهنا يلتقي “علي شريعتي مع “مالك بن نبي” (كما يري البعض) بضرورة وجود فكرة او نظرية أو ايديولوجيا (أي وعي مسبق فردي وجمعي) تتأسس عليها النهضة اذ الواقع والوقائع يؤكدان أن كل المجتمعات التي بدأت من نقطة عقائدية وتحركت بعد تحقيق وعيها الفردي والاجتماعي تمكنت من بناء الحضارة . فمثلاً ألمانيا التي تمتلك الفكر أي الايديولوجيا، تمكنت بعد الحرب العالمية الثانية من تدارك وجودها الحضاري، أما دول الخليج العربي – مثلاً – فقد ظلت مستهلكة على الدوام، رغم مرور أكثر من نصف قرن وهي في عالم الاستهلاك والتمدن (26)... وللحديث بقية..

 

أ.د محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................................

13- أنظر مقدمة إبراهيم الدسوقي شتا لترجمة كتاب علي شريعتي : العودة إلي الذات،، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الأولي، 1986، ص 27-29.

14- عريب أبو صليح: علي شريعتي… مفكر الثورة الإيرانية.. 24‏/03‏/2019.

15- منى شكري: علي شريعتي: إنسانية الفكر والإصلاح،  23/11/2017.

16- إبراهيم مشارة: علي شريعتي بين محبيه والمتحاملين عليه، الأربعاء 2020/04/29..

17-عبد الرازق الجبران: علي شريعتي وتجديد التفكير الديني  بين العودة إلي الذات وبناء الايديولوجيا، دار الأمير، بيروت، لبنان، 2002م، ص 25-28.

18-  ماهر فرغلي: على شريعتى فيلسوف الثورة الإيرانية، البوابة نيوز، 22‏/07‏/2016 .

19- نفس المرجع.

20- علي شريعتي : العودة إلي الذات، ترجمة د. إبراهيم الدسوقي شتا، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الأولي، 1986، ص 27-29.

21-علي شريعتي: النباهة والاستحمار، دار الأمير، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان،  2007، ص 92-98.

22-عبدالمحسن سلامةعلاء ثابت: النباهة.. والاستحمار!.. 28 أغسطس 2019.

23- علي شريعتي: النباهة والاستحمار، ص 17.

24-نفس المصدر، ص 25.

25- نفس المصدر، ص 28.

26- عبد الرحمن خالد الطوره: الدكتور علي شريعتي وأطروحته (النباهة والاستحمار) 15/04/2019 21:57.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم