صحيفة المثقف

علي رسول الربيعي: رأيً في استغراب حسن حنفي

علي رسول الربيعييحاول حنفي تجاوز الممارسات النقدية لاقتراح استراتيجيات للخطاب تتناول ما يراه التحدي الأساس الذي يواجه الأمة الإسلامية اليوم وهو معضلة الحفاظ على الهوية-الاسلامية في عملية التلقي من الثقافات والحضارات الأخرى. لقد اقترح بديلًا منهجيًا يتمثل فيما أطلق عليه " الاستغراب" الذي يعبر عن طريقة أدراكه للمشاكل المتعارضة التي ينطوي عليها التسلسل الهرمي المعرفي. كان هدف حنفي المباشر هو وقف وعكس عملية التغريب التي تبدو بلا عوائق في تغلبها على العالم الإسلامي وذلك من خلال محاولة إعادة بناء الهوية الإسلامية للتغلب على اغترابها، حيث تتعرض الطبقات العليا في المجتمعات الإسلامية الى حالة من الاغتراب لم تعد قادرة معها على التعرف على نفسها من خلال تراث وتقليد يُنظر إليه على أنه راكد ومتحجر. فقد اختاروا بدلاً من تحمل مسؤوليتهم تجاه تراثهم من خلال تغيير تكويناته، وإعادة ضبط محاوره، والاختيار من بين مقولاته الانغماس الأسهل وغير المقيد في نظام فكري غريب. يهدف الاستغراب، وفقًا لحنفي، إلى إعادة تلك الفئات الاجتماعية المنفصلة إلى حيث تنتمي. إنه يشكل خطوة أولى ضرورية نحو تقييد الحضارة الغربية والتخفيف من ثقلها الكبير الذي يلقي بظلاله على الإبداعات البديلة.

يعكس تعقيد هذا الموقف السيولة القطبية المرتبطة بالتركيز على الذات والرفض من جهة، والانهيار في حدود الاعتماد على المحاكاة من جهة أخرى. يشكل حل هذه المفارقة، بحسب حنفي، المهمة الحضارية للمسلمين المعاصرين. فمطلوب ضمن هذه المهمة، تقييم التراث الإسلامي والغربي بشكل نقدي وموضوعي من وجهة نظر تتجنب الاعتذار أو الإدانة. تظل هذه عملية قابلة للتطبيق على كل من التراث والتقليد. يحرض حنفي في هذا السياق على الابتكار المنهجي بوصفه ذو أهمية كبرى حيث تفقد بدونه الديناميات الحضارية الداخلية حيويتها خلافا للتقليد، الذي يؤكد بشكل صحيح أنه "ليس مصدرًا للمعرفة".[1] إن هذا الجهد لإعادة البناء كعمل إبداعي قادر على تلبية هذه المتطلبات لا يسمح فقط بالتفاعل الحضاري المثبت والمحدد من قبل الذات، ولكن أيضًا من أجل النقل المجدي وتكييف عناصر التجربة مع الاحتياجات والمتطلبات الأخرى. يمكن بعد ذلك فهم الحضارة الغربية السائدة في سياق تطورها التاريخي الخاص. ويمكن، بالتوازي مع ذلك، تطوير مقاربة تفصل منهجيا الترابط الذي يبدو مستعصًا على الحل بين الحداثة والغرب.

على الرغم من مقاربته للتيارات الفلسفية واعترافها بالأبعاد الذاتية المرجعية غير الخطية للتاريخ الإسلامي، إلا أن حنفي لا يتعمق بما فيه الكفاية في الآثار الكاملة لهذا التاريخ، أو في القوانين الدائرية للاكتفاء. وبقدر ما يتعلق الأمر بهذه القوانين، فهو يتعامل معها إما بشكل سطحي أو محدود لدمجها بالشروط اللازمة للنهضة الإسلامية؛ أو يتوقف عن تحديدها بشكل صريح في أحسن الأحوال. وبذلك، فإنه يحد من الإمكانات الكاملة لنهجه "الاستغرابي". تعتبر شروط الاكتفاء ذات أهمية خاصة حتى لا نغفل عن حقيقة أن الموقف المخيب للآمال الحالي للمسلمين لم يتأتى لهم بسبب التفوق الفكري للغرب ومنه الاستشراق. ولكنه بالأحرى، قد تم إلى حد كبير كنتيجة للقوة المادية المتاحة لهم والتي بدونها ربما أصبح العديد من اتجاهاتهم غير مؤثرة أو غير ضارة. إن مواجهة الغرب على مستوى "الاستغراب" في ظل غياب العديد من القدرات التي جعلت الاستشراق فاعلًا قد يقلل من التحدي إلى مجرد فضول فكري. قد يساهم الاستغراب عند حنفي، على مستوى الضرورة في إيقاف حالة الانكسار من أن تصبح غزوًا ذاتيًا داخليًا.  لكنه يبقى، بهذا المعنى، مجرد  رد فعل دفاعي. يظل التفاعل عملية تكيفية، يتم تحديدها إلى حد كبير من خلال تصرفات قوة مستقلة، وتخضع لمقتضياتها البيئية. وبالتالي، يظل ما قد يفعله أو لا يفعله المثقفون العرب والمسلمون نتيجة لمقررات الآخرين وانعكاسًا لمفهومهم الخاص.

لا يتوقف الإحياء على هذا النحو على مسائل العقلانية والتراث والثقافة فقط، ولكن عما ينتج من لقاء عدد لا يحصى من المصادفات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، التي توسع أو تحد من الآفاق التي تواجه الأمم التي تتطلع إلى التجديد. بعبارة أخرى، لا يوجد مخطط أو برنامج عمل أو إسقاط خطي محسوب كميًا لـ "النهضة". قد تتمكن التدرجات الخطية من تحديد النتائج (العلاقات بين السبب والنتيجة) ولكن لا تحدد العواقب في أحسن الأحوال.  فالعواقب هي نتاج الأحداث غير الخطية التي "لا يمكن التنبؤ بها بشكل حتمي".[2]  فبينما قد تعتمد الأحداث جزئيًا على الظروف المادية الموضوعية، إلا إنها ليست مقيدة فيهم بأي حال من الأحوال.  تفشل الخطية التاريخية، كتوجه أيديولوجي، بالضرورة، في الوفاء بوعود التقدم أو قول الكثير عن الأحداث التاريخية المستقبلية. لم يكن من الممكن أبدًا من خلال افتراضاتها نفسها، التفكير في شيء مثل الثورات، ولا يمكن أن يكون ممكنًا في هذا الصدد.  فإذا تم النظر إلى هيمنة الغرب، مثلا، في ضوء محاولات النهضة العربية/ الاسلامية على أنها حدث وليس كتقدم محدد خطيًا، هذا من شأنه أن يضع نظامها الحضاري في سياقه باعتباره محتملًا تاريخيًا بدلاً من كونه ضرورة عالمية. لن تكون الحضارة الغربية قادرة بعد الآن على المطالبة بالسيطرة على التاريخ وستصبح بدلاً من ذلك خاضعة لتقلبات الأحداث اللاحقة. على هذا النحو، يتوقف عن وضع قوانين للتاريخ، أو أن يكون قادرًا على إصدار إعلانات انتصارية حول نهاية التاريخ. وبالتالي، فإن فشل محاولات النهضة في العالم العربي، أكثر من كونها مجرد مسألة مصلحة غربية موضوعية، بل تشكل ضرورة ذاتية لا غنى عنها.

ومع ذلك، فإن عمل حنفي، على الرغم من كونه فلسفيًا بشكل عام ويريد ان يظل يحافظ على الدقة المنهجية، الا أنه عبر ايضًا عن محاولة لتوضيح وصياغة أبعاد المعارضة هذه. والأكثر من ذلك، أنه يساهم في عكس ترتيب الذاتي / الموضوعي الذي كان يحكم حتى الآن الكثير من التصورات الغربية والعربية/ الإسلامية المتبادلة. تكمن أهميته الرئيسة في الآفاق التي يفتحها لإدخال بعد معياري من خلال تقليص الجانب المعرفي إلى حدوده الطبيعية مما يسمح بفك اندماج هيمنة الحضارة الغربية عن المفاهيم المصاحبة للعالمية.  إن النهج المعرفي الذي يستوعب معايير نظام الأدراك الخارجي الذي أنتجه، في غياب الإغلاق المعياري، من شأنه أن يجعل الهيمنة مترادفة والعالمية. وبالتالي، فإن الطابع التاريخي للأول مرتبط بتاريخ الأخير. إن هذه العملية، كما في عمليات الإنتاج، والانحدار، والاتساق، والتناقضات في تجربة تاريخية نسبية تُظهر نفسها على أنها ديناميات الحتمية المطلقة والخطية. يستجيب الاستغراب، في هذا الصدد، الى الحاجة المتزايدة لخطاب تأسيسي يمكن من خلاله إطلاق النقد والارتباطات المضادة للخطاب. يهدف الاستغراب ومن خلال الانعكاس البنيوي لمنطقه إلى تغيير شروط التفاعل بشكل كبير.[3]

ومع ذلك، فإن التوسع إلى ما بعد تحديداته يظل ضروريًا من أجل تجنب الوقوع في "الفخ التفاعلي" الذي قد يقودنا الاستغراب إليه، ولإعادة تأسيس الاستقلال التاريخي غير الخطي للتاريخ الإسلامي. يتطلب تجنب هذا الفخ نظامًا منهجيًا وعمليًا للفعل، غير مثقل بالأمراض داخل الإسلام، أو أعباء النظريات البالية التاريخية. يجب أن يكون هذا مؤهلًا ولائقًا بالطبع من خلال الالتزام الضروري والكامل بالمقتضيات والأسس التي لا يمكن المساس بها للمبادئ الإسلامية وبنى الهوية. وطبعا كل ما تقدم هو حسب راي حنفي.

بناءً على تفاعل العناصر المكونة للاختلاف والاختيار الاجتهاد، والأبعاد الزمنية المقابلة لها - المستقبل والحاضر والماضي - قد يتطور التاريخ الإسلامي بعد ذلك. لم يعد الاجتهاد يعكس حالات منفصلة من الابتكار، ويصبح بدلاً من ذلك عملية توسع مستمرة. يجب أن يكون هذا النمط غير الخطي من النمو دائريًا، للسماح للمستقبل بأن يكون إلى حد كبير انعكاسًا للماضي. "وفقًا لهذا التكرار المبتكر، هناك بعض الحداثة في التكرار؛ كل دورة تحرك المجتمع على طول محور معين، كما قد يكون مصير الدورات المستقبلية غير محدد".[4] طبقًا لهذه المصطلحات، تفقد المفاهيم الخطية "الرجعية" و "التقدمية" للديناميكيات التاريخية الكثير من ملاءمتها ومعناها. عندما يتم استعادة الارتباط بين الماضي والمستقبل، والاستمرارية، فإن الانقسامات "التقليدية - الحديثة" لا معنى لها. وبالتالي، يجب إعادة العمل والقدرات الإسلامية على مستوى الاكتفاء من خلال تحول أولي غير خطي (دائري) من شأنه أن يسمح بالديناميات اللاحقة للفعل المستقل والمعنى. يترتب من هذا، أنه في حين أن قوانين الضرورة قد تكون معرفية، فإن مقدار الاكتفاء يجب أن يكون معياريًا مع تحديد الافتراضات المسبقة المطبقة على كليهما. وسيشكل الفاصل "الخطي" بين الاثنين فرقًا.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...........................

[1]  حنفي، حسن، (1991) مقدمة في علم الاستغراب، دار الفنية، القاهرة، ص 26-27، 83.

[2] Lazio, Ervin )1991) The Age of Bifurcation (Reading: Gordon and Breach). x.

[3]  حنفي، حسن، ( 1991)  مقدمة في علم الاستغراب، دار الفنية ، القاهرة ، ص 9 فمابعد

[4] Lazio, Ervin,(1991) The Age of Bifurcation .50.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم