صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في عوالم سرديات لطفية الدليمي: رواية: حديقة حياة

حيدر عبدالرضاالوقائع الروائية بين الرؤية من خلف ودليل قرائن الغياب الذكوري

الفصل الرابع ـ المبحث (1)

توطئة:

ينفرد الأسلوب الروائي في أحداث وزمن شخوص رواية (حديقة حياة) بما يمكن لنا فهمه بذلك الإطار المنصوص عليه عبر وظيفة المونولوج أو تيار الوعي، مع الملاحظة بأن طبيعة اعتماد الضمائر السردية في النص جاءتنا على هيئة تداعيات وايهامات تبنتها إمكانية العلاقة المتداولة سردا بين ضمير السارد والشخصية حياة والشخصية ميساء البنت الوحيدة للشخصية الأم حياة، وقد تناوبت متواليات السرد ضمن مؤثرات ومؤشرات داخلية وخارجية عبر وسائل السارد وبطرائق تقنيات الاسترجاع والاستعادة المتداخلتان في حدود متواترة من انتقالات خيوط الأحداث المحكية مع بعضها البعض صعودا نحو مسار من الرؤية السردية المكثفة .

ـ اللغة الروائية بين ذاتية السرد وموضوعية البناء النصي .

منذ بداية الرواية ونحن نواجه مأزومية المرأة، كوحدة إشكالية موضوعية إزاء تقاطعات وتفارقات الحياة والقدر والمصير وسوء الطالع . فالعلاقة ما بين الشخصية حياة وأبنتها ميساء تشكل بهذا الاعتبار الصورة الاغترابية الناتجة من منغصات الظروف الحياتية في ظل الحروب وغياب الذكورة، كحقيقة تشاركت في سيرورتها عوامل وعناصر تلقائية وعشوائية ومشيئية ودكتاتورية هي من صنيع الحروب وأربابها وإلتباس المواقف العاطفية وتخاذلها من قبل حيوات عالم النساء الوحيدات في مدن الدخان والشظايا: (تعرف المرأتان أن لا سبيل للتراجع، فقد قالت الحياة حكمتها ورضخ القلب، لا مجال للتراجع، فمهما يحدث للإنسان لابد أن يمضي قدما / ومثل من يسحب خيط ضوء من كتلة ظلام صلدة تسحب ميساء بإصبعين راعشين حلم عودته المستحيلة وتضع الحلم مثل تعويذة عتيقة أمامها.. تفتح النافذة وتناديه لعله ضجيج الحياة وحركة الريح في أشجار الشارع تحمل نداءها: عد.. ألا تعود؟.. تعال.. دع الصيف يسهر على يدي.. تعال ليفتتح المضيع في جسدي.. عد.. أين أنت؟. / ص6 الرواية) وفي هذا الإطار من قابلية المونولوج ـ الإطراد السردي الداخلي، تفصح لنا محكيات السارد عن منجاة الشخصية ميساء إلى ذلك النوع من الرجال ممن يحسنون لعبة اللامبالاة أو التنكر في لبوس عواطفهم نحو المرأة . فقد نتعرف على شخصية ـ زياد ـ دالا على هذا النوع في سياق الذكر الغائب في أسفاره الدائمة بعيدا عن موقعية التلاحم والحضور إلى جانب الشخصية الهائمة بحبه ميساء: (لا يستعاد شيء تهاوى ؟ هذه عبارة أمها التي لم تقلها، أنما تبلغها بهذا الصمت والتجاهل الذي تقابلها به كلما أشارت إلى قصتها مع زياد.. تسمع ميساء أو لعلها كانت تستعيد بإيحاءات من يئسها.. تسمع بلبلة لغات مختلطة تتشابك فيها الغايات بالأهواء بالقسوة والأمنيات والوقائع الصادمة . / ص7 الرواية).

1ـ الفاعل الشخوصي وأوهام مؤولات الفراغ العاطفي:

تسعى الشخصية ميساء إلى محاولة أبتداع لذاتها القامطة مناخات خاصة من مؤولات كاذبة، واهمة، مصدرها فعالية العاطفة المتوقة إلى مساحة منسجمة مع سراب ذلك الآخر ـ زياد ـ وعلى هذا الاعتبار بأن الأم حياة تستنزف في حالها ذات العلاقة من الفقد والفقدان، إذ إنها تشقى كثيرا من شعورها بالحرمان من فقدان زوجها الذي غدا مفقودا في ساحات الحرب، إذن فإن الحكاية الروائية بهذا المسار، تعرض لنا مواجهات قاسية من طرف المرأة إزاء غيابات الذكورة في مواقع مدينة تتنفس الدخان والموت والأوصال المبعثرة هنا وهناك من قتلى الحروب: (رجال المدينة ما عادوا يرون الزهور ولا بوسعهم التمايل مع الريح أو إيقاع موسيقى ولا يستطيعون ترديد كلمة عذبة لتتوغل موسيقاها في نبراتهم الجافة . / ص8 الرواية) إن حالة استقصائية أحاسيس النساء في زمن غياب الرجال في خنادق الحرب أو المعتقلات، صار دليلا شاخصا على أن المرأة مادة حكائية متفردة في ذاتها الناسجة لأهم وأسمى مشاهد حكايا الفراغ العاطفي لديها، وقد وضعت المبدعة الكبيرة لطفية الدليمي، مصائر شخصياتها النسوية كعادتها في مجمل رواياتها وقصصها القصيرة من معاناة هي حصيلة حساسية الأنوثة البالغة والمفرطة في حرمانها العاطفي واضطهادها من قبل مجتمع القمع الرجولي والسياسي إلى أقصى درجة ما من مستويات العمق المعنوي والمادي . نجد في فصول الرواية الأولى مدى احباطات الشخصية الأم حياة مع أبنتها ميساء من جراء فقد الحبيب والزوج في دوامة الظروف غير المعلنة في الرواية ودوامة الحروب: (أصابع الأم تأخذ الزهرة بحنان حذر.. تمسكها من ساقها النحيل المبلول وتضعها في قدح ماء: أعجوبة.. أليست أعجوبة يا أمي ؟؟ عندما فقد أبوها في الحرب.. أمضت ميساء عامين في ذهول وغياب وهي تتعذب في كوابيس مروعة، طحنت طفولتها وسممت حياة الأم.. كانت تسمع أصوات وصرخات تنبت من الجدران أو تتعالى من الأثاث.. أصوات مجسدة ضخمة لها حجم منتفخ كموجات الضباب.. تتطاول أو تكبر وتملأ الغرفة والهواء . / ص9 الرواية) .

2 ـ الفضاء الشخوصي بين الاستعادة الزمنية ومحاور الإيهام:

عالجت الكاتبة لطفية الدليمي في دلالات أحداث الفصول الأولى من روايتها، ثمة تمظهرات نفسانية معادلة إلى حجم موضوعة الفقدان والقنوط من جراء غيابات الزوج مفقودا في الحرب، وهذا الأمر ما ضاعف تصوير الجوانب التحتانية من وقائع الشخوص الداخلية، لذا وجدنا الأم حياة تشغل ذاتها المثقلة بأورام ومخلفات الفقد الزوجي من خلال معاينة نمو فسائل حديقتها وثمار أشجارها وتفتح أزهارها، فيما أخذت ميساء تترأى لها جملة أصوات منبعثة من مفاصل الأثاث المنزلي وزوايا وسقف الغرفة، وهذا المعادل النصي يخبرنا عن فداحة أصوات القتلى في ساحات الحرب وذكراهم المتجسدة بمحور وظيفة فقدان الحياة المادية إلى أولئك الجنود القتلى والمغيبون، إذ وجدنا صورة البراعم من جهة ما في حديقة الأم حياة، بمثابة المعادل الموضوعي للأرواح الشاردة والنافرة من شوارع الجبهات حيث الخنادق والموت المتكاثر: (تتساقط مياه غزيرة على أشجار التين والنارنج في الحديقة وتنساب قطرات المطر على الأوراق الخضراء وتتقطر من جديد.. وعندما تسكن العاصفة.. تتحرك أضواء بعيدة في الأفق.. ثم يلوح لها وجه أبيها ويصطبغ العالم بلون وردي ويضاء المكان وينحل الظلام إلى غمائم والأصوات إلى نغمات غناء: أبي.. أبي؟ تناديه ولا تحرك شفتيها المضمومتين على الرغبة المستحيلة: أبي؟ . / ص9 الرواية) من هنا يمكننا معاينة مستوى شيفرات العلاقة المتداعية ما بين حياة وأبنتها المهووسة بأحلام وأوهام مناجاة تواتر أصوات الأمنيات من مظهر عودة ذلك الحبيب ـ زياد ـ وإلى مستوى لهفتها إلى محاورة موقع والدها وهو في أشد مواقع المتشظى والمنشطر في مسار خبر العدم، وهذا الأمر ما جعل من الشخصية رازحة تحت عبء عقار المهدئات وتداعيات الذاكراتية، كمواضعة مونولوجية داخلية تحكي لذاتها عبر أصداء مجموعة من الأصوات والصوت الواحد من محورية الغياب وتفاصيل المغيب .

ـ كائنات الآخر من الحلم وخصوصية ما وراء الواقع

أن ما يميز الفضاء الخارجي عبر رواية وأحداثها هو ذلك المجترح من خلال (الآخر المجرد) إي أننا نصادف في أحلام الشخصية ميساء في أثناء غفوتها اليقظة من جراء المهدئات، ذات الملامح من العوالم المتخيلة، التي تبدو لنا للوهلة الأولى وكأنها تبئيرات معادلة موضوعية للأمكنة والأزمنة المفقودة في واقع حياة الشخصيتان (حياة + ميساء) فالواقع الحلمي للشخصية ميساء عبارة عن تشخيصات وهمية للأمكنة الخارجية والأشياء الواقعةة خارج أفق تحركات الشخصية، ومن هذا المنطلق الإبهامي، نعاين هذه المقتطفات من وحدات السرد: (ترى جنات وروابي معشبة، ترى أشجارا مثقلة بالثمار، ترى النهر يفيض على الأجراف وتبلغ مياهه الرائقة التي لها ألق البلور عتبات الأبواب / تسير وحدها في الماء البلوري الرائق الذي يغمر بلاطات رصيف المشاة.. تغترف منه وتغسل وجهها وترشه على صدرها.. وعندما ترفع عينيها ترى مبان شامخة في مدينة خيالها / ميساء تسمع همسا رقيقا.. تسمع أنفاسا تحس دفئا يلامس وجهها: هل استيقظت يا حبيبتي ؟.. هيا.. تحس بالنهر يجذبها إليه، جسدها الذي يسح عرقا يعوم في بلورة الماء السائل.. والنجوم لا تزال تنهمر على بغداد . / ص10 . / ص 11 الرواية) .

1ـ الفضاء المغلق والمفتوح في شعرية الأحوال:

و ينتقل السرد عبر لسان السارد والشخوص غالبا إلى نقطة من إمكانية استعادة الأحداث ضمن فضاء من التعضيد (مغلق ـ المفتوح ـ مكامن الذات) ويستبيح المجال الأنثوي لذاته أشد مسارات المتصل الذاكراتي وحدود وقائع خارج زمن حكاية النص بدءا منها نحو علاقة استعادية ـ استرجاعية، من شأنهما تشكيل وجها حلميا خاصا من معطيات شعرية تفاصيل راصدة لغرض استكمال حلقات الكشف عن دلالات عضوية في التفاصيل المفقودة من أجزاء حياة الأب حاضرا معاينا في سياق السرد: (عنقها يتيبس ويزداد تشنجه، تنهض وتمسده بزيت الخزامى حتى يلين وترتخي العضلات وتتمدد.. تلقي رأسها على الوسادة جوار صوت الرجل الذي يتنفس عبر السنوات الغاربة.. تمد يدها تحت الوسادة لعلها ترتاح في الظلمة الباردة الممتدة بين الوسادة والمفرش.. يحدثها الصوت عن زمن طاعن في القدم، يحدثها عن زمن سيأتي بعد شموس كثيرة.. كانت فيما مضى تدس يدها في يده وتنام.. ويضحكان وهما يتصوران لأبنتهما الوحيدة تأريخا حافلا بالفوز.. أريدها عالمة آثار تنقب عن العشرة آلاف مدينة التي لم يكتشفها أحد.. أنا أريدها عالمة فيزياء، لعلها تخترع شيئا يوقف تدهور الزمن في أجساد الناس . / ص11 . / ص12 الرواية) هكذا وجدنا أحلام الشخصية حياة في استعادة وتصور الحوارات والأمنيات والأحلام المعاشة مع شبح زوجها المفقود واقعا، ويعتبر هذا الفضاء المغلق من دائرة تخيلات الشخصية، بمثابة الموقع والشكل والدليل المنزاح عن قسمات الواقع المرير بحرفيته وتقريريته . فالشخصية تمظهر لنا الأبعاد في فضاء مستعاد عبر قابلية الحلم واليقظة المتصلان تعددا بذلك المجال المعادل من حقيقة أفعال وصياغة حياة ناقصة ومفككة في أوصالها وأبعادها ألا متحققة في هيئة تفاصيل الحاضر الزمني من النص . تتميز الفصول الأولى من الرواية على خلق وبث مسار الأفعال السردية ضمن وحدات من الحلم والذكرى والوهم، وبذلك تعد أفعال الشخصية في مجال حلمها، تأكيدا معادلا وتعويضا موضوعيا عن تفاصيل مفقودة من أحوال الشخصية: (تبتسم المرأة إلى جانبه وتتسع ابتسامتها وهي تمسك بيده.. ما بك؟.. ألا تراها؟ أنها على سرير المخاض.. أنت تحمل المولود وأنا أنظف عنه بقايا الدم وألبسه ثيابا أعددتها له.. أتسمعه إنه يبكي.. والله أنه يبكي.. تنسحب من القول.. تتكىء على حلمها وحدها وتدعه يضحك من أشواقها لحفيد سيأتي بعد سنين لا يعرفانها . / ص13 الرواية) .

ـ مأزق الوقوع بين واقع الإمكان وملاعبات الوهم .

يشعر القارىء للفصول الأولى من رواية (حديقة حياة) وكأنه يعاين سردا استبداليا متخيلا في محاولة من الكاتبة إلى جعل ماهية ومؤهلات عوالم نساءها، كصورة محفوفة بمصائر النأي والمأزومية ـ ابتعادا عبر زمن الأرتداد نحو رهانات المرأة مع مرارة واقعها القهري . وهذا الأمر ما وجدناه في أحوال ودلالات رواية (سيدات زحل) ورواية (عالم النساء الوحيدات) والآن الأمر ذاتها مع رواية (حديقة حياة) موضع مباحث دراسات كتابنا، وعبر الانغمار للشخصية حياة في مسار المرأة العارفة والمتبصرة التي تتصادى فيها مجمل المؤثرات التخييلية في النص، وتتساند من خلالها نواة الملامح والتقاسيم والصفات للمرأة التي تصارع الزمن عبر شرنقة مأزق الواقع والإمكان بالتواصل العيشي عبر خلجات الحلم وأوهام تصورات ماضيها مع زوجها كبدائل تعويضية تحكمها حسية الانتماء وعشق الذاكرة الدفينة في سواحل مخيلتها الراجحة نحو الإمساك بذاكرة امرأة تستهويها لعبة التمادي في الحلم واللاحلم، الواقع واللاواقع، الزمن واللازمن: (بعد سنوات عندما تكبر ميساء ويهجرها زياد إلى بلد بعيد، سوف تستعيد حياة ذكرلا هذه الليالي وأغنية فيروز والكلمات التي كانت تتكىء عليها في لحظات الضعف الإنساني.. وسوف تردد في أمسية الغد كلها.. الريح تبكي.. تبكي في ساحتي الحزينة . / ص30 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

من خلال ما قرأناه وعايناه في مسار أحداث الفصول الأولى من الرواية، إذ لاحظنا موضوعية اشتغال الروائية الدليمي على ثيمات النسيج السردي المستعاد، الذي راح متفاعلا وحدود تشكلات اللوحة السردية المشخصة من مسار حياة الشخصية المحورية في النص مع ابنتها ميساء، بالإضافة إلى وجود أطراف أخرى من الشخوص في الفصول الأولى تحديدا، كحادث مجيء أقارب الزوج المفقود إلى بيتها للمعالجة من مرض السرطان المتمثل في الشخصية أنيسة، وما أخذت تعززه الأحداث من متواليات ملتبسة ومأزومة في عاطفة الشخصية حياة.. وبعيدا عن أي مؤولات إضافية منا، نقول أن دلالات الفصول الأولى من النص الروائي، جاءتنا مقامات مدلولية مسوغة في صياغاتها التشخيصية الثمينة لأشد وأصعب الأوصاف والمواقف من بناء حكاية التشاكل والتمثيل الترتيبي في زمن محكيات الرواية التي أخذت تشتغل على الواقعي والمخيالي ضمن موضوعة الأشياء والمخزون الذاكراتي المترسب في دخيلة مقصدية روائية ذات مواقع متراكبة وأشكال دلالية مؤثرة وعنيفة على مستويات كبيرة من فاعليات الذات والهوية وأسئلة المصير الشخوصي .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم