صحيفة المثقف

محمود محمد علي: علي شريعتي بين مطرقة النباهة وسنديان الإستحمار (3)

محمود محمد علينعود وننهي حدبثنا عن قراءتنا التحليلية النقدية لكتاب النباهة والاستحمار لعلي شريعتي وهنا نقول: أما (النباهة الاجتماعية) فهي أن يكون الإنسان واعيا بدوره في مجتمعه. ودون هاتين النباهتين لا نجاة لأى أمة من التخلف والانحطاط، والعكس صحيح؛ إذ إنه على مرّ العصور قامت جماعات وأنظمة بإلهاء وتخدير الإنسان عن النباهتين، وعن مطالبته بالحقوق الأساسية التي تكفل إنسانيته، كالحرية والاستقلال، من أجل أن تتمكن من تسخير طاقاته لمصلحتها، وهذا ما يسميه شريعتي (الاستحمار)، أى تحويل الإنسان إلى حمار تسهل السيطرة عليه. يستغل التسخير أدوات جوهرية وحداثية فى حياتنا، كالتربية والتعليم والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وغيرها من الصور التى نراها ملاذنا الأوحد من الاستحمار، مع أنها تكون أحيانا الاستحمار بعينه (26).

ثم يعطينا “علي شريعتي” عن أشكال  الإستحمار وأنواعه، فنوع قديم ونوع حديث، وأما أشكاله فهي : استحمار مباشر وغير مباشر، فأما المباشر منه فيقصد به تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو إلى الانحراف والخروج عن الهدف . وأما الإستحمار الغير مباشر فيقصد به إلهاء الفرد وذهنه بحقوق جزئية وأشياء تافهة فقط لكي ينسوه في الحقوق الرئيسة والتي ترفع به وبالمجتمع (27).

ثم يقسم “علي شريعتي” الاستعمار تقسيمه أخري ومنها الإستحمار القديم، والاستحمار الحديث، فأما القديم فيعطينا علي شريعتي أمثلة ونماذج عن هذا الإستحمار القديم؛ حيث أنه يقوم على الدين ومن صوره : الزهد الذي هو عبارة عن وسيلة تخدير للفرد وتخلصه من الواقع المعاش والدنيا والحقوق وكل هذا لصالح الأعداء، والشكر لله وهو شكر الفرد على كل شيء وحتى التافه منها وقبول كل الواقع كما هو والشكر عليه بكل سيئاته وسلبياته وعدم التغيير، والشعر في ذلك الزمن والذي خرج عن رسالته الاجتماعية والإنسانية، وأيضا الفخر والاعتزاز بالماضي وبأشياء تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع (28).

أما الإستحمار الحديث : وأعطى أيضا علي شريعتي هنا نماذج عن هذا الإستحمار الذي يعتمد على الإلهاء والتناحر والتشاجر وخلق الطائفية ومن صوره : التخصص والذي يجعل الفرد ينغمس في جزء وإطار صغير جدا بعيدا عن شمولية المجتمع، حيث لا يقصد هنا علي شريعتي التخصص بصفة عامة وإلغائه ولكنه طلب من الفرد المتخصص على أن لا ينظر من زاوية واحدة بل عليه أن ينظر بشمولية وان تتعدد أبعاده وان تخصص في مجال معين وان ينظر للحقيقة بكلها لا بجزئها .. التجدد والحضارة المدنية فهذا في نظره نوع من الإستحمار؛ حيث أن المجتمع هنا ما هو إلا مستهلك ويستورد كل شيء ولا يصنع رغم تحضره المدني وهكذا فهو تابع لحضارة غيره لا حضارة لديه … الحرية الفردية وهي ايضا شكل من أشكال القضاء على النباهة الاجتماعية وحتى الفردية يتلهى فقط بنفسه واهما بهذه الحرية … وحتى حرية المرأة والحرية الجنسية ماهي إلا تلهيات لنا لننسى هذه النباهة الفردية والاجتماعية وننشغل بالتوافه وعليه فإن كل من الإستحمار القديم أو الحديث يسلب من الفرد والمجتمع نباهته (29).

وهنا يحاول بعض الباحثين أن يجدوا أيضاً قواسم مشتركة بين علي شريعتي ومالك بن نبي ولعل في مقدمة ذلك أن أسباب هاتين الظاهرتين (ونقصد بهما الاستعمار والاستحمار) تكمن في التخلف الحضاري بما يتضمنه من جهل وعدم وعي عند مالك وفي غياب النباهة، أي الوعي الفردي والاجتماعي المؤدي إلى التخلف الحضاري عند شريعتي. وكلتا الظاهرتين القابلية للاستعمار والقابلية للاستحمار تؤديان إلى نفس النتيجة وهي قبول الاستبداد والاستعباد وفي النهاية قبول الاستعمار الذي هو نتيجة وسبب في آن واحد، نتيجة لتعطيل الوعي والنباهة ولوضعية التخلف الحضاري الفردي والجمعي وسبب في تكريس ديمومة هذه الحالة الى أمد طويل (30).

ولهذا يعد كتاب ” النباهة والاستحمار” بمثابة تعميق لطرحه لبعض القضايا في كتابه مسؤولية مثقف، حيث إنه توسع في القضيَّة الثقافيَّة التي تُطرح بطابع اجتماعي، تلك القضيَّة التي تؤدي إلى تقدم المجتمع وحل مشاكله المستعصيَّة، أو قد تؤدي إلى فقدان الأوليّة والدافع الاجتماعي، وذلك كله يعتمد على طريقة الطرح، ويبرز مصطلح الاستحمار ذلك، حيث أنه مضاد للفطنة والنباهة، فالنباهة هي الصفة التي تجعل المجتمع كيانًا مستعصيًا على الاستبداد والاستعمار، وحين تختفي صفة النباهة يظهر الاستحمار والذي هو يُهيئ الطقوس لنشوء الاستبداد ودمار المجتمع، فالاستحمار هو المصطلح الذي يُعبّر عن سياسة أو نمط تاريخي يتم استخدامه لصرف المثقف والذات الثوريّة عن التفاعل مع المجتمع وقضاياه، وينطلق هذا الاستحمار من أرضيَّة أخلاقيَّة، أي أنه يطرح قضايا أخلاقيَّة ودينيَّة ولكنها ليست ذات أولويَّة اجتماعيَّة تلك الدعوة التي تنطوي على شر كامن، وفي ذلك كأنما يقول لك أحدهم قم إلى الصلاة بينما الأرض تهب بالحريق، وبذلك شرح علي الشريعتي في كتاب النباهة والاستحمار تلك القضايا ووضح دور المثقف الصائب في تجنب الاستحمار وفي اكتسابه للنباهة(31)، يقول شريعتي: الإستحمار هو تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن النباهة الاجتماعية فرداً كان أم جماعة. وأيّ دافع عمل على تحريف هاتين النباهتين أو فرد أو جيل أو مجتمع عنهما فهو دافع استحمار، وإن كان من أكثر الدوافع قدسية وأقدسها اسما. ومن سوء الحظ، لا ندرك ما يراد بنا، فيصرفوننا عما ينبغي أن نفكر فيه كمصير مجتمعنا، أو أفكر أنا بمصيري كإنسان إلى أن نفكر بأشياء نحسبها راقية جداً وعظيمة ومشرفة فيصيبون الهدف دون أن نشعر! ومن أجل هذا قلت إذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف فكن أينما أردت (32).

فمعنى الاستحمار إذن في تزييف فكر الإنسان وشعوره وتغيير مسيره عن الوعي الإنساني والاجتماعي. إنه لمن سوء الحظ أن لا ندرك ما يراد بنا، فنُصرف عما ينبغي أن نفكر فيه كأفراد ومجتمعات فيصيب عدوُنا الهدفَ ويسخر طاقاتنا وقدراتنا في سبيل خدمته كما يُسخَّر الحمار ونحن لا نشعر!!. ومن أجل هذا قلتُ: إنك إذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف فكن أينما شئت” كن واقفاً للصلاة أو جالساً لمطالعة أحد الكتب العلمية أو راكضاً خلف الكرة في ملعب كرة القدم أو منكباً على تأليف رسالة في الفقه أو على حفظ أحد التفاسير… فالمهم أنك لم تكن حاضراً في الموقف. إن المستعمرين ـ من أجل صرفك عن الحقيقة التي يشعرون بخطرها ـ قد لا يدعونك دائماً إلى القبائح والانحراف حتى لا يثيروا انتباهك فتفر منهم إلى المكان الذي ينبغي أن تصير إليه، بل هم يختارون دعوتك حسب حاجتهم، فيدعونك أحياناً إلى ما تعتقده أمراً طيباً من أجل القضاء على حق كبير، حق إنسان أو مجتمع؛ فعندما يشبُّ حريق بيت جارك ويدعوك أحد للصلاة والتضرع إلى الله في هذا الوقت ينبغي أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق والانصراف عنه إلى عمل آخر هو “الاستحمار” وإن كان عملاً مقدساً، وإن أي جيل ينصرف عن التفكير في الدراية الإنسانية كعقيدة واتجاه فكري ومسير حياتي وتحرك مداوم إلى أي شيء حتى ولو كان مقدساً هو الاستحمار بعينه (33).

كذلك يعرض كتاب النباهة والاستحمار القضيَّة الثقافيَّة، تلك القضيَّة التي تنهض بالمجتمع وبالدولة ككل، فقارن الكتاب بين المثقف النبيه، والمثقف المستحمر، فقدَّم الأمثلة التي توضح مصير المجتمع الذي يقوده مثقف نبيه، والمجتمع الذي يقوده مثقف مستحمر، مثل قوله :” إن المجتمع الذي يرتبط بهدف عالٍ، بعقيدة وإيمان، يتفوق على كل قدرة حتى ولو كانت القوة التي تسيطر على المنظومة الشمسيَّة، وإن مجتمعًا كهذا ستكون له بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة حضارة، كما ستكون له صناعة. لا أريد أن أنصح أخلاقيًا؛ فالإنسان يمضي ليصير إلى الفناء، أما قيمة الإنسانيَّة فتزداد دمارًا بمرور الأيام. نحن لا نستقيم إلا بعد ان تعلونا يد قويَّة، أو يظلل علينا بسوطٍ قاسٍ. إن الشيء الذي يدفعني إلى نفسي، ويدعوني دائمًا من خارج هذه المشاغل، التي غالبًا ما تجعلني ضحية لها، هو النباهة الفرديَّة، أو النباهة النفسيَّة. نحتاج إلى جيل يرفض الشكل القديم للحياة، وينكره، ذي فكر جديد، لكن، بالقدر المعتاد لا أكثر (34).

الكتاب جاء في ستة فصول، تناول كلٌّ منها قضية بعينها في عملية إعادة صناعة وعي الأجيال الجديدة، وبالرغم من أنها قد تبدو قضايا منفصلة، ولكن هناك خيط واحد يجمع بينها جميعها، وهو قضية المصير. مصير الفرد والمجتمع المسلمَيْن، وصولاً إلى مصير الأمة بالكامل، وكيفية تحقيق عوامل النهوض، بعيدًا عن هيمنة المستعمر.

والكتاب في هذا الإطار، تناول دور الاستعمار والأنظمة الموالية له في عالمنا الإسلامي، في تحقيق تخلف وتبعية الأمة، وأهمية التغيير والإصلاح على مختلف المستويات الموضوعية، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع والأمة بالكامل، وسواء في المجال الاقتصادي، أو السياسي، في إحداث حالة النهضة المنشودة.

في الكتاب فقرات وفصول كاملة يمكن أن تصلح لمجال التنمية البشرية؛ حيث أفرد فصلاً عن التخصص، وفقرات في فصول أخرى عن تنمية الذات، وكيفية خروج الإنسان عن المألوف في طرائق تفكيره وحياته.

وهنا يتوصل “علي شريعتي” لحقيقة مهمة، وهي أن هذا هو الإسلام في حقيقته، عقيدة فكرية سياسية ينبثق عنها نظام لكل شؤون الحياة: نباهة فكرية وسياسية ينتج عنها التزام متين بالأوامر والنواهي، هذا هو الإسلام الواعي أما الدين الاستحماري فهو الذي يقول لك: «لأي شيء تتحمل ثقل المسؤولية الاجتماعية ولأي شيء تحارب الظلم والطغيان؟ يكفيك أن تفتح كتاب الأدعية وتقرأ هذا الورد ست مرات وبعدها لا يبقى عليك شيء وستغفر ذنوبك كلها!! أو يكفيك أن تحفظ ما تستطيع من آيات القرآن غيباً فإنك سترقى بكل حرف درجة في الجنة!! أو يكفيك أن تدخل السرور إلى قلب واحد أو تقضي حاجة آخر حتى تبدل سيئاتك حسنات وتقضي عنك كل المسؤوليات الاجتماعية (35).

كما يؤكد ” شريعتي ” علي أن للإنسان قيمة عليا، لا قيمة له لا في الديانات ولا في الفلسفات إن لم نعمل على النهوض بوعيه وتنمية شعوره بقيمته الإنسانية، “إن أكبر قيم الإنسان هي التي يبدأ منها بـ “الرفض” و “عدم التسليم” اللذين يتلخصان بكلمة “لا”، ومنها بدأ آدم أبو البشر”، بل وكل الأنبياء والفلاسفة المصلحين الذين كان أصل تميزهم وإصلاحهم قائم على تبنيهم لفعل “التمرد”، فالتمرد والنباهة هما صفتان تليق بالأنبياء والأوصياء والفلاسفة الكبار (36).

ويقول أيضا: إن الإنسان لا يستطيع أن يبقى مخلصًا وصادقًا في ثورة اجتماعية حتى النهاية ووفيًا لها، إلا إذا كان ثوريًا قبلها ومتناسقًا معها، فليس الإنسان الثورى هو الإنسان الذي يشترك في ثورة اجتماعية فحسب، فما أكثر الانتهازيين والمغامرين والنفعيين الذين يشتركون فيها، وهم جرثومة الانحراف في كل الانتفاضات، وفشل كل الانتفاضات من جراء اشتراكهم فيها، لأن الثوري قبل كل شىء جوهر أعيدت صياغة ذاته (37) ؛  كما انتقد ” شريعتي” رجال الدين قائلًا: لقد كان دين “الملأ” ينتج الأفيون للمجتمع، بإنتاجه لمواعظ من هذا القبيل: “أنتم لستم مسئولين لأن كل ما يحصل هو حاصل بإرادة الله ومشيئته.. لا تشكوا من الحرمان ولا تتألموا فإنكم ستجزون في مكان آخر.. اصبروا على كل شيء لكى يضاعف الله لكم الأجر”. هكذا كانوا يخمدون احتجاج الفرد ويجمدون حركته الإرادية.. إن دين عبادة الطاغوت الذي كان يتمتع بكل شىء طوال التاريخ، كان بدوره آلةً في يد الطبقة الحاكمة لاستثمار الطبقات السحيقة وقمعها وإقناعها، ولقد ظهر هذا الدين بشكليه الجلي والخفي في كل حقبة من حقب التاريخ.. كان الجبابرة يستخدمون العنف في مواجهة الناس وإخماد ثوراتهم، لكن الدين كان ينتهج طريقة أخرى في وأد النهضة، وردّ الانتقاد، وإخماد ثائرة الغضب والاحتجاج (38).

إن الإنسان لا يستطيع أن يبقي مخلصاً وصادقاً في ثورة اجتماعية حتي النهاية ووفياً لها إلا إذا كان ثوريا قبلها ومتناسقاً معها فليس الإنسان الثوري هو الإنسان الذي يشترك في ثورة اجتماعية فحسب فما أكثر الانتهازيين والمغامرين والنفعيين الذين يشتركون فيها وهم جرثومة الانحراف في كل الانتفاضات وفشل كل الانتفاضات من جراء اشتراكهم فيها لأن الثوري قبل كل شئ جوهر أعيدت صياغة ذاته إنسان جعل ذاته التي بُنيت أيديولوجيا وفكرياً خليفة لذاته الموروثة عن التقاليد والغريزة (39).

وخلاصة الكتاب عموما هي أن الإستحمار ما جاء إلا ليقضي على النباهة بشتى الطرق والوسائل وحتى بالعلم والمعرفة واعطاء بعض الحقوق، وللقضاء على الإستحمار يلزمنا الكثير والكثير من النباهة الفردية والاجتماعية لأن اشكال وانواع الإستحمار تعددت ولم تدع لنا مجالا للقضاء عن هذا الإستحمار … وللحديث بقية مع موضوعات أخري..

 

أ.د محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

......................

26- د. محمد حسين أبوالحسن: النباهة.. والاستحمار!، الأهرام المصرية، 28 أغسطس 2019.

27- علي شريعتي: النباهة والاستحمار، ص 55.

28- نفس المصدر، ص 59.

29-   نفس المصدر، ص 64.

30- عبد الرحمن خالد الطوره: المرجع السابق.

31- د. محمد حسين أبو الحسن: نفس المرجع.

32- علي شريعتي: النباهة والاستحمار، ص 67.

33- محمد أبو وائل : النباهة والاستحمار 1989/12/06م

34- د. محمد حسين أبو الحسن: نفس المرجع.

35- نفس المرجع.

36- علي شريعتي: النباهة والاستحمار، ص 69؛ وأنظر أيضا ا.د. علي المرهج: الدين بين النباهة والاستحمار، صحيفة المثقف، العدد: 3420 المصادف: 15-01-2016.

37- علي شريعتي: نفس المصدر، ص 85.

38- نفس المصدر، ص 88.

39- نفس المصدر، ص 92.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم