صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: مقام الإحسان

مجدي ابراهيممقامات الدين في الإسلام ثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، وشواهدها في أحوال الصادقين هي المراقبة، تستند إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمّا أن جاءه جبريل عليه السلام في صورة رجل فقال: يا محمد ما الإيمان؟ قال:" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره "، قال صدقت؛ وتعجب الصحابة من رجل يصدق النبي عليه السلام وهو يسأله. ثم قال: أخبرني ما الإسلام؟ قال الإسلام:" أن تقيم الصلاة وتوتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت "؛ قال صدقت. قال: فأخبرني ما الإحسان؟ قال الإحسان:" أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإنْ لم تكن تراه فهو يراك ".

إنما يجئ الأصل والمصدر؛ وهو هنا حديث رسول الله صلوات الله عليه؛ ليكون معتمد العبادة في حال المراقبة. ونحن نشهد أن هذا الحديث الشريف "أعبد الله كأنَّك تراه" جاء بمثابة التأصيل للرؤية الشهودية تقوم عليها توجهات العارفين العليا؛ لأن العبادة على الغفلة وعدم الحضور ليست كالعبادة على الشهود وتحقيق الرؤية، ثم إن تحقيق الرؤية هذا على "وحدة الشهود"؛ هو الأصل في العباد، ولكنها عبادة قامت على الحضور لا على الغفلة؛ فلئن كان العبد في عبادته لم يعد يرى ربه؛ فليثق أن الله يراه، وهو مقام الإحسان.

وفي الثقة برؤية الله له ثم تضخيمها في بطن الرائي وتفعيلها في قلبه، كل أولئك من العوامل التي تنقل العبد من رؤية الله له إلى رؤيته هو إلى الله؛ يحدث ذلك مع دوام شهود رؤية الله له، ومع استقرار هذا الشهود في وعي العارف؛ تجيء الرؤية الشهودية؛ لتكون أثراً من آثار هذا الحديث النبوي الشريف مستندة على أساسه:" أعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك ": يراك في كل حركاتك وسكناتك، ويراك في جميع أحوالك وتقلباتها، ويراك في أنفاسك حين تدخلها وتخرجها وعليها خلعة الأدب والحضور؛ يراك وإنْ لم تكن تراه. وإنه لمشهد من مشاهد الوعي الباطن عظيم وجليل تكشف عنه جوامع الكلم النبوي.

حقاً! إن هذا الحديث الشريف لهو الأساس المعتمد هنا لمراقبة الأنفاس: تحقيق الرؤية لله في العبادة إنْ في السّر وإنْ في العَلن.

غير أن هذه العبادة لم تقتصر على فئة من الناس وإلا شطبنا على بقية المسلمين: فرقهم ومذاهبهم وطوائفهم المتعددة ولكنها تَوَزَّعَتْ فيما بينهم وعَرَفَها المسلمون وتفاوتوا في معرفتها، وإنما اختصت عبادة العارفين بمزية تميزوا بها عن غيرهم من سائر الطوائف فلا يدانيهم فيها سواهم ولا يقاربهم فيما سَنُّوه من ضروب العبادات الشَّاقة مذهب ولا طائفة ولا فرقة من الفرق الإسلامية الأخرى، تميزت بالشعور العميق بالفكرة الدينية، وعبادة الله على مقام الإحسان عبادة خالصة كأنها تراه.

خذ مثلاً ما قاله الإمام صالح الجعفري أحد العرفاء المعاصرين عن الصلاة: إذا اشتد عليك حال فتوضأ وصل، واذا قمت الى الصلاة، فصل وأنت توقن أن الله يراك. وهذا هو مقام الإحسان الذى قال فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك) فهل وقفت يوماً لتصلى وتذكرت الله، وأن الله تعالى ينظر إليك؟ إنْ الصلاة لها فوائد، ولها ميازيب تتنزل منها الأسرار، والميازيب لها مفاتيح؛ فإن فعلت ذلك، يأتك المدد من نظر الله لك؛ فنظرة الله تعالى إليك عظيمة، وكل شئ له حلاوة وعلاوة؛ فحضور قلبك فى الصلاة وتذكرك أنك فى معيّة الله تنال بسببه جزاء عظيماً من الله تعالى .فيجب على المصلى أن يعتقد أنه إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم أن الله يسمعها قبل أن يسمعها هو من نفسه، واذا كانت لك حاجه تطلبها أو شكوى تبثها فيجب عليك أن تعتقد أنه سبحانه وتعال يعلمها قبل أن تنطق بها. فإذا كنت تصلى بهذه الكيفية فأعلم أن هذا عطاء لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، ولكنه يجيئ بمحض فضل الله).

والفرق واضح جليٌّ بين كلمات هذا العارف بالله، وكلمات غيره من ذوي النقل والحرف والعنوان: أن الأول صادر عن تجربة ومعايشة، وللكلام فيه قوة وتأثير، له صورة نورانية نتيجة ممارسة العلم قلما تجدها في كلام آخر منقول لك مجرد نقل لا روح فيه ولا حياة. هذا رجل جرب فنقل لك تجربته، ومنها تحدث فكان لحديثه وقع مختلف، وعاني فظهرت معاناته في كلماته وعليها خلع الحضور. أما  الآخر؛ فلفظ ما جاوز الأشداق.

ولمقام الإحسان في الصورة التي يلقيها عليك متطلباته: أن تكون العبادة لله وحده في المعاملة والتوجه، نظر الله هو الغالب عليه، ولم يعد للخلق عليه ولا على خواطره حكم ولا وجود؛ لأن باطنه ممتلئ بالكلية بالرعاية لحقوق الله، وليس للأغيار عليه سلطان ولا اعتبار. ارتفعت عن قلبه أمراض الباطن من الغل والحسد والكراهية والضغائن التي تمرض القلوب فتهلكها؛ لأن الباطن مشغول بالله فمحاولة تطهيره وسلامه دخائله ونظافته أولى وأكبر، وأعلى من أن تشغله الشواغل الموبوءة وهي حاجبة له بمواجهة الأغيار.

نعم! ربما جاءت العبادة شكلاً ظاهرياً من أشكال التدين أو جاءت حركة رتيبة آلية لا روح فيها ولا حضور بين يدي الله، ربما كانت مظهراً خارجياً لا يَتَعَمَّق في الباطن ولا يدل عليه دلالة يُسْتَفاد منها تفعيل الوجود الروحي. صحيحٌ أن هنالك عُبَّاداً وزهاداً بين تنوع الفرق الإسلامية كثيرون، ليس ينكر ذلك أحد ولا يستطيع، لكن العبادة في الغالب " قد تكون شكلاً من الأشكال، مُجَرَّد شكل، لا قيمة له؛ ولا وزن في مقاييس الروح وموازينها، وقد تسمو وتسمو؛ فتصل إلى أن:" تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك".

ولقد كان الرسول؛ صلوات الله وسلامه عليه، المثل الأعلى لنا في أن نعبد الله؛ كأننا نراه، أو في أن نرى الله في جميع ما نأتي وما ندع: في الكون نذَلّـلِهُ ونسخِّره، وفي المجتمع نصلحه ونهذِّبه، وفي العمل نتقنه ونخلص فيه، وفي الحديث نتحرى فيه الصدق والأمانة. لقد حول رسول الله؛ صلوات الله وسلامه عليه؛ الحياة كلها إلى عبادة، فكان العمل عبادة، وإن من الذنوب ذنوباً لا يُكَفِّرها إلا السعي على المعاش؛ والجهاد عبادة، وإن أفضل الأعمال الإيمان، ثم الجهاد.

ولقد وصل الأمر به صلوات الله وسلامه عليه؛ أن جَعَلَ الأكل والشرب والمشي عبادة. وهكذا أصبحت الحياة حركة وسكوناً لله سبحانه؛ فأصبحت الحياة كلها عبادة:" قُلْ إنَّ صَلَاتيِ ونسكي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتيِ للهِ رَبِّ العَالمَيِنَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلكَ أُمِرْتَ وَأنَا أوْلُ المُسْلِمينَ" (الأنبياء: آية رقم (162), وآية رقم (163).

ولقد وضح هذا الاتجاه؛ ليُجْلي مراقبة الأنْفَاس؛ لتكون عبادةً مع القصد والنية والحضور من أرقى العبادات الدينية في الإسلام؛ منذ اللحظة الأولى للوحي:" اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ " (سورة العلق: آية1). ثم إن القرآن كله فسّره، ووضحته أعمال الرسول؛ صلوات الله وسلامه عليه؛ فكانت الحياة كل الحياة من أجل ذلك عبادة: الأنْفَاس، والحركات، والسَّكنات، والنوم، واليقظة، الحياة كلها، بل والموت عبادة؛ أجل إنما الموت عبادة!

وكيف يكون الموت عبادة؟

يكون عبادة لأنه رضى وتسليم لقضاء الله وقدره؛ فعدم الاعتراض عليه إذا نزل بالعبد إنما هو عبادة من أعمق العبادات وأصدقها لدى من يفوض الأمر كله من منطلق هذا التسليم إلى الله تعالى؛ فما زادت العبادة الحقيقية على مثل هذا الافتقار إلى الله شيئاً. فإذا أردنا أن نعرف كيف يكون الموت عباد، وكيف يأتي تسليماً لقضاء الله وإيماناً بقدره وافتقاراً دائماً إلى كنفه؛ فلنقرأ للإمام أبي القاسم الجنيد هذا الدعاء:" اللهم بارك لنا في الموت إذا نزل بنا وأجعله يوم حباء وكرامة وزلفى وسرور واغتباط، ولا تجعله يوم ندم ولا يوم أسى، وأوردنا من قبورنا على سرور وفرح وقرة عين، وأجعلها رياضاً من رياض جنتك وبقاعاً من بقاع كرامتك ورأفتك ورحمتك: لقنا فيها الحجج وآمنا فيها من الرَّوعات، واجعلنا آمنين مطمئنين إلى يوم تبعثنا؛ يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه؛ لا ريب في ذلك اليوم عندنا: آمنا من روعاته وخلصنا من شدائده، وأكشف عنا عظيم كربه، واسقنا من ظمئه، واحشرنا في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم المصطفي الذي انتخبته واخترته وجعلته الشافع لأوليائك المقدم على جميع أصفيائك، الذي جعلت زمرته آمنة من الرَّوْعات (حلية الأولياء: جـ 10, ص 285- 286).

فإنّ الذي يدعو ربه بهذا الدعاء، يدعوه وهو يعلم أن الموت عبادة، وأن عبادته مع كونها تحقق معنى السعادة التي يتغيَّاها العارفون حين يذكرون الموت؛ فهى كذلك تعدُّ أصدق العبادات وأعمقها تذوقاً في بواطن الشعور.

قسم الكتَّاب الأوُّل المراقبة إلى أحوال ثلاثة. الأول حال الابتداء. والثاني يمكن تسميته بحال التوسط. والثالث حال الكبراء وهو حال الانتهاء؛ فمبتدئ، ومتوسط، ومنتهي. ولهذا التدرج والتقسيم في المراتب والمنازلات الروحية دلالة عند السّراج الطوسي صاحب كتاب اللمع؛ فهو لم يأتٍ عبثاً بغير معنى ولكن مجيئه كان قصداً؛ لأنه يجعل للحال درجات ورجال؛ فلا ينازل الحال إلا رجل له درجتها، ولا تتوارد عليه الحال إلا لدرجة رجل يستحقها أو لمنزلة هو خليقٌ بالبقاء فيها؛ فلكل رجال درجة ومنزلة.

وهذا الذي قاله صلوات الله وسلامه عليه:" فإنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَهُوَ يَرَاكَ "؛ فوق كونه إشارة إلى مقام الإحسان فهو أيضاً إشارة إلى حال المراقبة؛ لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه وتعالى عليه، واستدامته لهذا العلم مراقبة ربه، وهذا أصل كل خير، ولا يَكَادُ العبد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة؛ فإذا حاسب نفسه على ما سلف، وأصلح حاله في الوقت، ولازم طريق الحق، وأحسن بينه وبين الله تعالى مُرَاعاة القلب، وحفظ مع الله تعالى الأنفاس، وراقب الله تعالى في عموم أحواله فيعلم أنه سبحانه عليه رقيب، ومن قلبه قريب، يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله. ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة، فكيف عن حقائق القربة؟" (الرسالة القشيرية: ص 189).

العارف وهو في خضم تجربته الروحية لن يترك مضمونه العقدي ينتسب إليه ويروح؛ ليكرع من مضامين أُخر لا تمتُّ إلى عقيدته بصلة ولا إلى مضمونه بنسب، لقد كانت المراقبة تقوِّم العبودية تقويماً روحياً بالأساس بمقدار ما تقوِّمُ العبادةُ الفكرةَ الدينيةَ وتكيفها في حدود منطلقاتها الشعورية، بوجوب بقاء العبد دوماً على مقام الإحسان في رحاب المعية الإلهية. إنّ المراقبة التي تستند على فكرة التَّعَبُّد الصوفي، ويستند عليها جوهر التَّعَبُّد الصوفي؛ لتحظى في قيمتها الروحية بالاعتماد المباشر على حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه:" فإن لم تكن تراه فهو يراك "، وهو مقام الإحسان؛ لتجيءُ عبودية كاملة ذات قيمة في الإسلام روحية خالصة؛ الذوقيون وحدهم هم الذين يفطنون إليها فيُنَبِّهون على وجوبها قصداً؛ فضلاً عن كونها تمثل التوجه الروحي الخالص في الإسلام: معاملة إيمانية باطنة.

أسفرت هذه القيمة الروحية الكبرى عن تلك الحياة الروحية الباطنة في الإسلام ممثلة في علم عظيم وجليل هو "علم التصوف". ثم إن الإسلام الروحي لم ينشأ إلا بنشوء هذا العلم (أعنى التصوف) ولم ينشأ هذا العلم بالطبع إلا بالمسيرة على خطى المحبة لله ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه، وبذل المجهود في تلك المحبة مع وجوب الموافقة.

عندما كتب القشيري الباب الأول من رسالته في ذكر مشايخ هذه الطريقة، وما يدلُّ من سِيَرِهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة؛ استفتح هذا الباب بتنويه حَدَّثَنَا فيه عن نشوء التصوف وظهور فكرة "مراقبة الأنفاس" الدالة على عظيم مقام الإحسان لدى مشايخ الطريق بأن قال إن المسلمين بعد رسول الله؛ صلوات الله وسلامه عليه، لم يتسمْ أفاضلهم في عصرهم بتسمية عَلَم، سوى صحبته؛ صلى الله عليه وسلم؛ إذْ لا فضيلة فوقها فقيل لهم الصحابة. ثم جاء أهل العصر الثاني فأدركوهم فسمى من صحب الصحابة بالتابعين ورأوا في ذلك أشرف سمة وعلامة. ثم جاء من بعدهم أتباع التابعين. واختلف الناس من بعدُ وتباينت المراتب؛ فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزُّهَّاد والعباد.

ولما أن ظهرت الفتن واشتدت البدع، وحصل التداعي، وتنازعت فيما بينها الفرق؛ فأدعى كل فريق منهم أن فيهم زهاداً وأنهم لا يخلون في الغالب من عبَّاد:" أنفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة؛ باسم "التصوف"، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة"(الرسالة القشيرية:  ص 34) وابن خلدون في هذه النقطة كذلك يعتمد القشيري تقريباً أساساً لما يقوم به من معالجة لنشوء التصوف واختصاصه بهذا الاسم بالتعويل على فقه الباطن الذي تميز به الصوفية المقتدون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة حتى تسَّموا بالمتصوفة؛ بل يكاد ابن خلدون ينقل عبارات القشيري بلفظها ونصها مع تحديد التاريخ الذي قام القشيري بتحديده من قبله؛ ليقول إن هذا الاسم "اشتهر قريب من المئتين من الهجرة"؛ ثم تتابعوا جيلاً بعد جيل، يهتدي الخلف منهم بالسلف، ويؤدي ما لقن لمن وفقه الله من أتباعه، وصار فقه الشريعة على نوعين: فقه الظاهر؛ وفقه الباطن. ثم يأخذ ابن خلدون في شرح المقصود من فقه الظاهر وهو  الذي يختص بالأحكام الشرعية العملية. أما فقه الباطن فهو علم القلوب الذي هو: مقام الإحسان أو علم التصوف (يراجع، شفاء السائل؛ ص 46).

ولنا أن نلاحظ تركيز القشيري هنا على خواص أهل السنة باعتبارهم كما وصف هم الخواص المراعون أنفاسهم مع الله؛ وهم هم الخواص الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة، وأن هؤلاء الخواص هم الذين اشتهروا باسم التصوف خاصة، فلتلحظ هاهنا "مراعاة الأنفاس أو مراقبتها"؛ وقد جاءت لتتصل بالتصوف بالمباشرة فكأنما الإشارة فيها تجيء فتجعل هذه المراعاة أو تلك المراقبة للأنفاس ليست مجرد كلمة عابرة في سياق تعبيري إنشائي عادي يخلو من الأهمية وظاهر الدلالة كما يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى، لكنها كما وَرَدَتْ في سياق نص القشيري بحيث تأتي؛ لتصبح تعبيراً عالياً عن عبادة خاصة مخصوصة بالصوفية اشتهروا بها، وعرفوا من بين خواص أهل السنة بممارستها عبادة روحية خالصة تسَمَّتْ بــ "مراقبة الأنفاس". بمقدار ما نلاحظ مركزين بدقة قول القشيري: "اشتهار هذا الاسم قبل المائتين من الهجرة".

قبل المائتين من الهجرة - مع استحضار دلالة عبارة القشيري من جانبنا - كان هنالك من الأكابر "خواص أهل السنة"، الذين انفردوا بمراعاة أنفاسهم مع الله تعالى، وبمحافظة قلوبهم وحراستها عن طوارق الغَفَلات، واختصوا باسم "التصوف". وعلى هذا؛ فمراقبة الأنفاس ومحاسبتها ورعايتها عبادة من أجلّ العبادات وأحْرَصها عند القوم، إنْ لم نقل وأخصَّها كذلك، ظهرت على حد تعبير القشيري قبل المائتين من الهجرة، فكانت علامة على التصوف وسمة دالة على رجاله؛ ولم تظهر بعد القرن الرابع الهجري أو في أثنائه كما أدعى البيروني وقلده فيما ذهب إليه الكثيرون سواء من المستشرقين أو من العرب.

فلم تكن عقائد الهنود ولا فلسفتهم ولا علومهم معروفة لدى المسلمين معرفة دقيقة واضحة ومُفَصَّلة قبل أن يؤلف البيروني كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة"؛ فإن هذا الكتاب القيم الذي كان الأول من نوعه، ظهر بعد ظهور التصوف بزمن طويل فلم يكتب شيء بالعربية عن الهند قبل اكتمال التصوف في الإسلام.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم