صحيفة المثقف

محمود محمد علي: بدايات النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري - الرواقي (1)

محمود محمد عليينبغي بادي ذى بدء، قبـل أن نعـرض لإرهاصات النسق الاستنباطى في المنطق الميجارى – الرواقى، أن نعـرف أولاً ما المقصــود بالنسـق الاستنباطي Deductive system ؟

المقصود بالنسق الاستنباطى، هو أن يحوى العلم – ذو الطبيعة الصورية مجموعة محددة من اللامعرفاتundefinables والتعريفات Definition والبديهيات Axioms توضع صريحة منذ البدء ؛ حيث نسلم بصحتها دون برهان، وتستنبط منها قضايا أخرى هي نظريات ذلك العلم .

ولقد عبر العالم المنطقى " الفرد تارسكى " Alfred Tarski في كتابه " مقدمة للعلوم الاستدلالية" عن كل ذلك إجمالاً بقوله : إننا حين نشرع فى تكوين نسق استنباطى لمبحث معين " علينا أن نبدأ بمجموعة محددة من المصطلحات أو الحدود الأولية Primitive terms أو الحدود اللامعرفة Unedfined، نقبلها بدون شرح أو تعريف …. وعلينا نتبنى مبدأ مؤداه وهو ألا نستخدم فى النسق مصطلحاً آخر دون أن يكون معناه قد حدد مسبقاً بواسطة هذه الحدود الأولية غير المعرفة، وبواسطة مصطلحات التى شرحت معانيها من قبل بهذه الحدود، وتسمى هذه المصطلحات التى حددت معانيها بالحدود المعرفة، وتسمى عملية الشرح بالتعريف، وتسمى العبارات الشارحة بالتعريفات.. وعلينا أن نسلم ثانياً بمجموعة من القضايا التى نقبلها كحقائق دون أن نقيم دليلاً أو برهاناً على صدقها ومشروعيتها، وتسمى هذه القضايا بالقضايا الأولية، وبالبديهيات وبالمصادرات Postulates، وتسمى أيضاً باللامبرهنات indomonstrable … وعلينا ألا نقبل أي قضية أخرى على أنها صادقة إلا إذا استطعنا أن نقيم دليلاً على صدقها ومشروعيتها بواسطة التعريفات والمسلمات والبديهيات وقضايا النسق التى سبق أن تقرر صدقها وتبررت مشروعيتها، مما يسمى بالقضايا المبرهن عليها theorem أو المبرهنات، وتسمى العملية التى يتقرر بها صدق هذه القضايا بـ ( البرهان )، وتسمى عملية إقامة صدق قضية على قضايا أخرى صادقة بالاستنتاج أو الاشتقاق . كما تسمى القضايا التى نتوصل إليها على هذا النحو بالقضايا المستنتجة أو المشتقة من قضايا غيرها أو التي تعتبر نتيجة تلزم عنها . ويسمى المنهج الذي يتبع في إقامة مبحث معين وفقاً للقوانين التي ذكرناها من قبل بالمنهج الاستنباطي .

ونلاحظ أن معظم الباحثين يرون أن فكرة إقامة المنطق نسقا استنباطيا لم تقم فى أذهان المناطقة إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر، حين تطور البحث فى الهندسات اللاإقليدية، وحاول الرياضيون وضع أسس النسق الاستنباطي كى يقيموا الهندسة نسقاً استنباطياً محكماً .

وقد كان المنطق فى ذلك الوقت قد نشأ وبدأ يتطور ؛ حيث فكر أصحابه حينئذ فى إقامته استنباطياً هو الأخر، وقد تم ذلك على يدى المنطقي الألماني العظيم " جوتلوب فريجة " “Gottlob Fraga، الذى صاغ فى سنة 1879 نظرية (حساب القضايا) بكل عناصرها المتكاملة فى صورة نسق استنباطي على نحو لم يسبق له مثيل . ثم جاء مؤلفاً كتاب Principa Mathmatica وهما "هوايتهد " و"رسل "، فوضعا ذلك النسق المنطقي على رأس الرياضيات بأسرها تحت عنوان " نظرية الاستنباط " .

والسؤال الآن، هل يمكن وضع المنطق الميجارى – الرواقي فى صورة نسق استنباطي؟

للإجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنه إذا أخذنا النسق الاستنباطي فى المنطق ؛ بمعنى أن نضع قائمة اللامعرفات والتعريفات والبديهيات والمسلمات وقواعد الاستدلال صريحة منذ البدء، ثم نقوم بعد ذلك باستنباط نظريات منطقية من تلك القوائم لا نملك إلا أن نقول أن المنطق الميجارى – الرواقى لا يتضمن نسقاً استنباطياً بهذا المعنى الدقيق . أما إذا أخذنا النسق الاستنباطي بالمعنى المعروف فى هندسة إقليدس، وهو الذى يبدأ بمجموعة من المقدمات يستنبط منها كل ما يترتب عليها من نتائج أو نظريات، وتشتمل " هذه المقدمات على التعريفات المستخدمة فى النسق من ألفاظ، وبديهيات ومسلمات يُسلم بها دون برهان عليها، لكى يستنبط من هذا كلة النظريات اللازمه عنها "، فيمكن القول بأن المنطق الميجارى – الرواقى لديه فكرة واضحة عن هذا النسق، وخاصة فى نظرية القضايا المركبة .

فعلى على عكس ما يدعيه بعض المناطقة المحدثين من أنه لا أهمية لكل أبحاث الرواقيين فى باب القضايا، اللهم إلا فى وضع اصطلاحات جديدة كان لها حظ الانتشار بعد ذلك فى المصطلح المنطقى، فإن نظرية القضايا المركبة تعد من أكثر إنجازات المدرسة الميجارية – الرواقية التى يمكن من خلالها أن نلتمس ارهاصات النسق الاستنباطي لنظرية حساب القضايا قبل " فريجة " بمئات السنين .

والدليل على ذلك، فقد أدرك الرواقيون ضرورة التخلي عن لغة الحديث فى الكتابة المنطقية كى يكون المنطق صورياً ( تجريدياً ) إلى أبعد حد، فاصطنعوا الرموز بمنأى عن الحروف الهجائية كما عنوا عناية خاصة بالثوابت المنطقية، وكانوا يسمونها بالروابط connectives، وهى على النحو التالى " إذا ……..."، "و "، " إما ……. أو ….. "، " حيث أن …. "، " لأن ….. "، "ليس ….. و ……. معا " وغيرها . كما وضعوا للقضية المركبة التي تحوى واحدة من تلك الروابط قواعد لصدقها وكذبها، وعينوا معانى وتعريفات هذه الروابط .

وعلى الرغم من أن الرواقيين لم يدرسوا النفي بالإضافة إلى الروابط، إلا أنهم اهتموا بالنفى اهتماماً كبيراً ؛ وذلك أثناء دراستهم للقضايا المتقابلة، حيث ميزوا بين عدة أنواع مثل النفى التناقضى والذى صاغوه بوضع أداة النفي " ليس " ببداية القضية، والنفي البسيط وهو الذى يجمع بين آداة نفى ومحمول مثل : لا أحد يمشى، والنفي الحرمانى وهو الذى يكون بين موضوع مقيد وحد منفى مثل : لا إنساني .

ومع أنه لا يوجد عند الرواقيين أية محاولة لبناء قائمة صدق للنفي، إلا أنهم قرروا مع ذلك، مبدأ النفي المزدوج، والذى يعبر عنه فى المنطق الرمزي الحديث على النحو التالي : ~ ~ ق= ق

كما اهتم الرواقيون أيضاً بدراسة العلاقات القائمة بين دوال الصدق، وذلك عن طريق إمكانية تعريف الروابط بواسطة روابط أخرى، مما يدل على أنه يوجد عندهم محاولة لبناء نسق أكسيومى من هذه الروابط .

وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، وهى أنه بعد أن قدم الرواقيون تعريفات للروابط، وضعوا بعد ذلك مقدمات أولية لكى يستنبطوا منها قضايا أخرى، وقد اطلقوا عليها صوراً استدلالية Inference schemata وأطلقوا عليها أيضاً " ضروباً لا تقبل البرهان "، Basic indemonstrabe moods وقد أحصى منها " كريسبوس " الرواقى chrysippus خمس ؛ حيث رأى أنها أولية ؛ بمعنى لا توجد صوراً أخرى سابقة عليها فى عملية الاستدلال . كما أنها لا تقبل البرهان؛ بمعنى أنها حقائق منطقية logical truths، وليست هذه الصور الاستدلالية ضروباً بمعنى أنها أنماط أو صور Schemata متعددة للاستدلال ؛ وإنما بمعنى أنه يمكننا اعتبارها " قواعد استدلال "، وذلك أول عهدنا بوضع قواعد للاستدلال فى صراحة ووضوح قبل البدء بأى برهان " .

ولم يكتّف الرواقيون بوضع تلك الصور الاستدلالية ؛ وإنما جعلوها مقدمات أولية يبدأون منها البرهان على نظريات منطقية، وهذه النظريات هى التي أطلقوا عليها بـ " القضايا المشتقة Derived أو المبرهنات Theorems، مما يدل على أن الرواقيين كانوا بحق فيما يقول العالم المنطقى البولندى " لوكاشقيتش " أول من ابتكروا نسقا استنباطيا لمنطق القضايا بعد عصر أرسطو بحوالى نصف قرن،و لو أن هذا المنطق لم يكن مؤلفاً من مقررات ؛ بل مؤلفاً من قواعد استنتاجية " .

وتقتضى الأمانة العلمية، أن نشير إلى أن هناك دراسات وبحوث قد سبقتنا إلى تناول جانب أو اكثر من جوانب النسق الاستنباطي فى المنطق الميجارى – الرواقي، ولكننا عندما اطلعنا عليها لم نجد فى أى منها معالجة إضافية ومستوعبة لمقومات هذا النسق ؛ وذلك لأن مناقشة الباحثين لتوضيح مقومات هذا النسق ؛ قد جاءت فى ثنايا دراسات عالجت تاريخ المنطق الصوري القديم والحديث بصفة عامة، فقد رأيت أن حق تلك القضية أن يفرد لها مثل هذا البحث .

ولذلك سوف ندرس في هذا المقال إرهاصات النسق الاستنباطي فى المنطق الميجارى – الرواقي، لنبين كيف كان الميجاريون والرواقيون أول من أدخلوا النسق الاستنباطي فى المنطق قبل المناطقة الرمزيين في العصور الحديثة.

وأما عن المنهج الذى اعتمدنا عليه الباحث في إعداد هذا الورقة عن إرهاصات النسق الاستنباطي فى المنطق الميجارى – الرواقي، فهو المنهج التحليلي المقارن، الذى يعتمد على تحليل النصوص تحليلاً دقيقاً واستنباط واستخلاص كل ما تشمله من أراء وأفكار، مع المقارنة بين أراء الرواقيين والمناطقة المحدثين ليتضح لنا تباعاً مدى ما طرأ على الفكرة من تطور وازدهار .. وللحديث بقية..

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم