صحيفة المثقف

عصمت نصّار: محمد عابد الجابري ونقض العقل العربي

عصمت نصاريذكرنا حديث الجابري عن قدرة العقلية العربية على الإبداع والتفلسف بما كتبه أحمد أمين في نهاية العقد الرابع من القرن العشرين؛ إذ ذهب الأخير إلى أن العقلية العربية إذا كانت تتسم بالذكاء؛ فإن ذكائها محدود وعاجز عن الإبداع، وذلك لأنها تمثل عصر البداوة في طور جاهليته. ويتمثل ذلك في ضعف التعليل، وقلة القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول، وعدم النظر للأشياء نظرة عامة شاملة، وتجنب تحليل دقيق لأسسها وعوارضها؛ فنظر العربي للشيء لا يستغرق فكره؛ بل يقف عند موطن صغير يستثير عجبه.

ولم يكن للعرب في صدر الإسلام فلاسفة يدعون إلى مذاهب معينه، ولا يضعون مبادئ للسير عليها في الحياة كالذي رأيناه عند اليونان وظل الأمر على هذا النحو حتى أخر عهد الأمويين. وأن الباحث المدقق لن يجد في الحضارة الإسلامية سوى أبحاث لغوية ومناقشات كلامية وعلوم دينية. وفي العصر العباسي نقلوا علوم الأمم المفتوحة إلى العربية - أي الخاضعة لحكم المسلمين - وترجموا بعض كتب الفلسفة وشرحوها تارة ولخصوها تارة أخرى.

وقد نبغ بعض المسلمين المنحدرين من أصول غير عربية في العلوم، وعلى النقيض من ذلك ففي الفلسفة والمنطق لم يضف العرب عليهما شيء يذكر. أما فضل نقلهم لفلسفة اليونان لا ينكر. إذا كان الجابري لم يصرح بعجز العقلية العربية عن استيعاب الفلسفة لعيب وراثي في طبيعتها؛ فإنه يوافق ابن خلدون والشهرستاني في أن الثقافة السائدة هي التي منعتهم عن ذلك.

بالإضافة إلى نيلهم للعلوم اللغوية والمباحث العقدية، ويضيف الجابري في هذا السياق أن العقلية العربية قد استكانت إلى التقليد، يبدو ذلك بوضوح عقب عصر التدوين التي تفشت فيه ظاهرة المسايرة واتباع الأئمة سواء في علوم اللغة أو علوم الدين؛ فالعقل العربي لم يتعود فحص النصوص والاعتماد على ذهنه في تحليلها أو تفكيكها أو تأويلها، وذلك استناداً على منهجية السابقين عليه في البلاغة أو النحو أو الفقه، وعلى العكس من ذلك تماماً العقلية الأوروبية التي درجت على إجراء حوار مباشر حر بين النص باعتباره موجود مبدع، والمتلقي باعتباره قارئ ناقد ومخاطب واعي.

ويقول في ذلك:"لابد أن نلاحظ ... أن هذه العلوم قد بلغت قيمتها مع بداية تاريخها وأن العقل العربي الذي شيدها لم يضف، وما كان يستطيع أن يضيف، جديداً إلى ما أبدعه فيها خلال عصر التدوين. لقد بقى سجيناً لإنتاج هذا العصر. وهذا راجع أساساً إلى طبيعة موضوع هذه العلوم، علوم البيان، علوم اللغة، وعلوم الدين؛ لأن موضوع هذه العلوم كان واحداً .. أنه النص: النص اللغوي بالنسبة للنحو واللغة والنص القرآني بالنسبة للفقه والكلام؛ فالتعامل مع النص يختلف عن التعامل مع الظواهر الطبيعية، وموضوع العلوم الطبيعية، ومع الكائنات الرياضية، اختلافاً جوهرياً سواء من حيث المنهج أو من حيث الإمكانيات التي يتيحها الموضوع لمواصلة البحث والانتقال من مستوى إلى آخر أعمق وأوسع ... وقلنا إن عقلاً في مثل هذا الحال لا يمكن أن ينتج إلا من خلال إنتاج آخر ... فما أن انتهى عصر التدوين بفترة قصيرة حتى بدأت عملية الاجترار والجمود على التقليد في علوم البيان. لقد سُد باب الاجتهاد في الفقه وانصرف الناس إلى تقليد أئمة المذاهب، وجرى خلاف بين المتمسكين بها والأخذين بأحكامها".

وحقيقاً بي التنبيه على أن موقف الجابري السابق من العقلية العربية وأقواله في هذا السياق وكذا الأحكام المترتبة عليها تحتاج لمزيد من المراجعة والتقصي المعروف؛ فالقول بعدم دراية العقلية العربية بالحكمة النظرية، وأن ثقافتهم تختلف عن ثقافة الفرس أو اليونان، يعدُّ موضوعاً قد قتل بحثاً منذ منتصف القرن الماضي، وقد تساجل حوله الباحثون بين مؤيد ومعارض وانتهوا إلى سقوط نظريات تقسم العقول إلى أجناس أو بيئات جغرافية احدها مبدعة والأخرى مستهلكة أو مقلدة. واستقر الرأي على أن الثقافة السائدة والعقل الجمعي هو المؤثر الأول في نبوغ الأمم أو انحطاطها.

أمّا ادعاء الجابري بأن العلوم اللغوية والفقهية ظلت أسيرة اتصالها بالدين، وأن العقل العربي عجز عن قراءة النصوص قراءة نقدية زعم تكذبه أبحاث اللغويين العرب في (المعنى والدلالة والتفسير والرمز والتأويل والإعراب والتصريح والتورية والتعنية والتلميح والنص الدلالي والإشاري) كما أن ادعاء الجابري بأن الثقافة العربية آن ذاك، كانت شاغلة بالمناظرات والمثاقفات البيانية والكلامية والفقهية يناقض حديثه عن جمود هذه العقلية واجترار ذاتها.

ناهيك عن إسهابه في وصف المساجلات التي دارت بين أئمة المنابر الفقهية والحلقات اللغوية والكتابات الرائدة حول آداب التناظر وضوابط علم الجدل ومنطق القياس؛ فكل هذه الظواهر تؤكد قدرة العقل العربي على استيعاب الوافد من العلوم العقلية وتطويرها؛ وأقرب الأمثلة إلى ذلك نقد الفقهاء للمنطق الأرسطي وشروحهم وحواشيهم لقواعد الاستنباط والاستدلال، وتطويعهم للفلسفة لمناقشة قضايا التأليف بين المنقول والمعقول والثابت والمتحول وفقه المآلات والأولويات والمقاصد. ومن مواطن الاضطراب أيضاً إسهابه في الحديث عن عقم المقلدين وتهافت معارفهم فهو لم يقف عند مسايرة المستشرقين في ادعائهم بأن علوم الفقه والكلام والتصوف محاكيه لمعارف سابقة عليها؛ بل أضاف أن ذلك التراث قد استغرق في متابعة السلف وتقليد الأوائل فلا نكاد - على حد تعبيره - أن نجد بحثاً ذا قيمة في علم النحو بعد كتاب سيبويه، ولا في الفقه بعد رسالة الشافعي، ولا في علم العروض بعد كتاب العين للخليل ابن أحمد. أي أن الجابري أراد أن يثبت أن العقل العربي لم ينتج إلا بدافع محاكاة الأغيار، وأنه وهن وضعف عقب تغلب منطق الغزالي العرفاني الحدسي على ثقافته؛ فالثقافة العربية بعد عصر التدوين لم تقدم في ميدان العلم أو الفلسفة شيء يذكر، وهذا على خلاف من العقلية الأوروبية التي ظلت تجدد نفسها بدافع من ابن رشد وابن الهيثم وغيرهما من العلماء الذين فصلوا بين الدين والعلم، ووجهوا نقداتهم وشكوكهم صوب اللامعقول.

ويؤكد الجابري أن بمثل هؤلاء العلماء تقدمت أوروبا لأنها أصغت لكتبهم التي طورت علوم الأمم السابقة عليهم راغبين عن قضايا البيان والعرفان والفقه والقرآن.

أما العقلية العربية فقد أصغت لصوت الغزالي الذي راح يشكك في البرهان الفلسفي ويقود العقل العربي صوب البرهان العرفاني والحدس الصوفي الرباني. ويضيف مفكرنا أن ذلك التخلف لا يرجع إلى ميادين البحث في العلوم العربية، بل يرد كذلك إلى أليات الباحثين في النص أي الخطاب المعرفي المراد الاستنباط منه أو الاستدلال به على رأي أو تصور أو فكرة جديدة؛ أي أن العيب في التراث الإسلامي يكمن في مضمونه وعلمائه والدارسين له والمجتهدين في إحياءه أيضاً؛ الأمر الذي ألقى بالعقلية العربية في أتون الجمود والتخلف والهرم. ويقول في ذلك "إن الإنجاز العظيم الذي حققه - العقل البياني العربي - في مجال اللغة والفقه لم يكن فقط عبارة عن قوانين للغة والتشريع يجب التقيد بها، بل كان أيضاً عبارة عن قيود للعقل ... عن تأطير له. أعني تثبيت آليات نشاطه في اطار معين لا يجوز اختراقه. وعندما اكتمل البناء في اللغة والتشريع ولم يعد هناك مجال للمزيد اكتمل البناء أيضاً في مجال التشريع للمشرّع؛ فأصبح العقل البياني العربي سجين هذا البناء الذي طوق نفسه، فلم يكن من الركود مناص، ولا من التقليد مفر".

وانتهى إلى أن علم البيان والنهج العرفاني قد ثبت عدم صلاحيتهما لتزويد العقلية العربية بما يعينها على التخلص من الجمود والركود، ولم يكن حال العلوم الفلسفية العربية خير منهما، وذلك لأن التفكير البرهاني قد انصرف إلى البحث في الميتافيزيقا وتطويع كل المعارف والموضوعات الكونية لخدمة الفكر العقدي. والخلاصة أن ارتباط التراث العربي بالدين هو الذي أعاق العقل عن انطلاقاته لتجديد مناهجه وتحديث معارفه. وأن المعارف العلمية العربية لا يمكن ردها إلى الثقافة البيانية أو البرهانية التي تشبعت بالدين في كنف الجمود والتخلف؛ بل كانت مستقلة عن المعارف اللغوية والفقهية والكلامية والفلسفية.

وعليه؛ فإن تقدم الأوروبي لم ينتفع من نتاج العقلية العربية إلا بأفضل ثمراته التي نبتت مستقله عنه. والثابت في حديث الجابري السابق أنه يردد ما ذهب إليه الكثير من غلاة المستشرقين الذين ادعوا أن الدين هو علة أفول الحضارة الإسلامية من أمثال السياسي الفرنسي "فكتور كوزان" (1792م-1867م) والفيلسوف "أرنست رينان" (1823م - 1892م) والمؤرخ "ليون جوتييه" (1832م -1897م) والأمريكي "دانكن بلاك مكدونالد" (1863م -1943م) وغيرهم من الذين زعموا أن العقلية العربية لا تخلو من القصور الذاتي ومحدودية الأفق والعجز عن التفكير الناقد، وأن ما جاء في تراثها من معارف علمية يرد إلى غيرها من الأمم الواقعة تحت سلطان العرب، وأن ما اصطنعوه من فلسفة لم يخرج عن دائرة الدين والأوامر والنواهي التي حث عليها الشرع في الأخلاق والسياسة. شأنه في شأن محمد أركون في كتابه (قضايا في نقد العقل الديني) وذلك في مشروعه نقد العقل الإسلامي الذي حمل فيه بالنقض على كل المعارف التراثية.

وها هو الجابري يوقع قانعاً بهذا الكلام ويسجل اعترافه قائلاً:" قد ظل العلم العربي، علم الخوارزمي والبيروني .... خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية؛ فلم يشارك في تغذية العقل العربي ولا في تجديد قوالبه وفحص قبلياته وماصدقاته، فبقى الزمن الثقافي العربي هو هو ممتد على بساط واحد من عصر التدوين إلى عصر ابن خلدون، وركد هذا الزمن وتخشبت موجاته منذ عصر ابن خلدون إلى عصر النهضة العربية الحديثة التي لم تتحقق بعد".

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: أين مشروع الجابري المزعوم؟

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم