صحيفة المثقف

شيرلي جاكسون: الساحرة

2416 shirleyكانت العربة تقريبا فارغة حتى أن الصبي الصغير احتل مقعدا لنفسه، وجلست أمه على الجهة المقابلة من الممر في المقعد التالي بجوار أخته، وهي رضيعة بيدها قطعة خبز محمص وخشخيشة باليد الثانية. وكانت محزومة بسيور جلدية ربطتها بمقعدها لتتمكن من الجلوس والالتفات. وحينما تنزلق ببطء نحو الجوانب يحميها الحزام يثبتها بمنتصف المسافة حتى يمكن لأمها أن تستدير وتعدل من وضعيتها مجددا. وكان الولد الصغير ينظر من النافذة ويأكل كعكة محلاة، وكانت الأم تقرأ بهدوء، وترد على أسئلة الصبي دون أن تعنى بالنظر له.

قال الولد الصغير:”نحن فوق النهر. هذا نهر ونحن فوقه”. قالت والدته:” حسنا”. قال الطفل لنفسه:”نحن نمر على جسر فوق نهر”. وتكوم بقية الركاب القليلين في الطرف الآخر من المركبة، وكلما تقدم أحدهم في الممر كان الطفل يتلفت ويقول له:”مرحبا” فيرد الغريب بقوله:”مرحبا”. وأحيانا هناك من يسأل الصغير هل يستمتع بركوب القطار، أو أحيانا يمتدحه بقوله إنه إنسان بالغ وخلوق. وكانت هذه التعليقات تزعج الصغير فيستدير بعصبية واضحة، ويتابع المشاهد من خلف النافذة. ثم يقول:”هناك بقرة” أو يتنهد ويقول:”كم بقي علينا لنصل؟”. فتقول أمه في كل مرة:”ليس الكثير”.  وذات مرة سقطت الطفلة الصامتة والمشغولة بخشخيشتها وخبزها المحمص والذي كانت تجدده لها أمها باستمرار، وتدحرجت بعد سقوطها لمسافة بعيدة وارتطم رأسها بالجوانب، وبدأت تبكي. وتبع ذلك حركة وصخب حول مقعد أمها لبعض الوقت. وانزلق الصبي من مقعده الخاص وأسرع عبر الممر وربت على قدم أخته وطلب منها أن لا تبكي. ثم في النهاية ضحكت الطفلة وعادت إلى خبزها، وتلقى الولد مصاصة من أمه فعاد إلى نافذته. وقال لأمه بعد لحظة:”شاهدت ساحرة. هناك في الخارج ساحرة عجوز صلعاء شريرة”.

قالت أمه:”حسنا”.

تابع الصبي الصغير يتمتم لنفسه بلهجة هادئة:”ساحرة عجوز دميمة وطلبت منها أن تنصرف فانصرفت. ثم جاءت وقالت: سآكلك عما قريب. فقلت لها: لا، لن أسمح لك. وطاردتها حتى اختفت، يا لها من ساحرة شريرة عجوز وسيئة”. وتوقف عن الكلام ورفع بصره للأعلى حينما فتح رجل باب العربة ودخل. كان عجوزا بوجه هادئ وشعر أبيض، وله بذة زرقاء تأثرت قليلا بالعناء الناجم عن رحلة القطار الطويلة. وكان يحمل سيجارا، وعندما قال له الصبي الصغير:”مرحبا”، رد عليه بإيماءة من السيجار، وقال:”مرحبا بك يا بني”. ووقف قرب مقعد الصغير تماما، ومال للخلف، ونظر للولد، الذي مد رقبته للأعلى ليراه. سأله الرجل:”عما تبحث وراء تلك النافذة؟”. قال الصغير بلا تفكير:”عن ساحرات عجائز شريرات وضارات”. قال الرجل:”فهمت. وهل رأيت العديد منهن؟”.

قال الصبي الصغير:”والدي يدخن السيجار مثلك”.

قال الرجل:”كل الرجال يدخنون السيجار. في المستقبل ستدخن السيجار أنت أيضا”.

قال الصبي:”ولكن أنا رجل كبير منذ الآن”. 

سأله الرجل:”كم يبلغ عمرك؟”.

نظر الصبي الصغير بشك بعد هذا السؤال المتكرر، وثبت عليه عينيه للحظة وقال:”ستة وعشرون. وثمانمائة وثمانية وأربعون”.

رفعت الأم رأسها عن الكتاب وقالت:”أربع سنوات”. وابتسمت بحنان للطفل.

قال الرجل للطفل بتهذيب:”هل هذا صحيح؟. ستة وعشرون”. ثم أومأ برأسه نحو المرأة الجالسة على الطرف المقابل من الممر وقال:”هل تلك أمك؟”.

مال الصبي الصغير للأمام لينظر ثم قال:”نعم. هي كذلك”.

سأله الرجل:”ما اسمك؟”.

بدا الشك على الصغير مجددا وقال:”السيد يسوع”.

قالت أم الولد:”جوني”. ووضعت عينها بعين ابنها الصغير وقطبت وجهها بعتاب.

قال الصغير للرجل:”تلك هي أختي الثانية. عمرها اثنتا عشرة سنة ونصف”.

سأله الرجل:”هل تحب أختك؟”.

نظر به الولد مليا، واقترب الرجل من جانب المقعد وجلس قرب الصبي. وقال له:”اسمع. هل تريد أن أخبرك شيئا عن أختي؟”.

بدا القلق على الأم حينما جلس الرجل بجانب ابنها الصغير، ثم عادت بهدوء لكتابها.

قال الصغير:”حسنا. كلي آذان صاغية. هل كانت ساحرة؟”.

قال الرجل:”ربما”.

وضحك الصغير باهتمام، وتراجع الرجل بمقعده، ونفخ دخان سيجاره، ثم قال:”في قديم الزمان كانت لي أخت صغيرة، مثلك تماما”. نظر الصبي للرجل، وهو يهز رأسه لكل كلمة. وتابع الرجل قائلا:”كانت أختي الصغيرة جميلة جدا ولطيفة جدا وكنت أحبها أكثر من أي شيء آخر في العالم. هل أخبرك الآن بم فعلت لها؟”.

أومأ الصبي باهتمام أكبر، ورفعت الأم عينيها عن كتابها، وابتسمت، وهي تصغي.

قال الرجل:”اشتريت لها حصانا خشبيا هزازا ودمية ومليون مصاصة. ثم حملتها ووضعت يدي حول عنقها وبدأت أضغط وأضغط حتى ماتت”.

شهق الصغير والتفتت الأم وقد اختفت ابتسامتها عن وجهها. وفتحت فمها، ثم أطبقته مجددا حينما تابع الرجل قائلا:”ثم باشرت بقطع رأسها وحملته معي -”.

 سأله الصغير بأنفاس لاهثة:”وهل قطعتها كلها لقطع صغيرة؟”.

قال الرجل:”قطعت رأسها ويديها وقدميها وشعرها وأنفها. ثم ضربتها بعصا وقتلتها”.

قالت الأم:”من فضلك لحظة”.

ولكن الرضيعة انزلقت جانبا في تلك الدقيقة، وفي الوقت الذي استغرقته الأم لتأمينها وحمايتها تابع الرجل يقول:”ثم حملت رأسها واقتلعت منه شعرها و..”.

وصاح الصغير بانفعال:”شعر أختك؟”.

قال الرجل بثقة:”أختي الصغيرة. ثم وضعت رأسها في قفص دب فالتهمه الدب”.

سأل الصغير:”هل أكل كل رأسها؟”.

وضعت الأم كتابها جانبا، وتخطت الممر. ووقفت بجوار الرجل وقالت:”بربك ألا ترى ماذا تفعل؟”.

نظر الرجل لأعلى بتأدب فقالت له:”أرجوك انصرف من هنا فورا”.

قال الرجل:”هل أفزعتك؟”. ووجه نظراته للأسفل نحو الصبي الصغير، ونهره بكوعه ثم انفجر كلاهما بالضحك.

قال الصغير لأمه:”هذا الرجل قطع أخته”.

قالت الأم للرجل:” احذر. سأستدعي ملاحظ القطار”. 

قال الصغير:”الملاحظ سيأكل أمي. وسنبتر لها رأسها”.

قال الرجل:”ورأس أختك الصغيرة أيضا”.

ثم وقف على قدميه، فتراجعت الأم لتفسح له الطريق ويغادر مقعده. وقالت:”إياك أن تعود لهذه العربة”.

قال الصغير للرجل:”أعتقد أن أمي ستأكلك”.

ضحك الرجل، وضحك الصغير، ثم قال الرجل للأم:”والآن اسمحي لي” وتخطاها وانصرف من العربة.

بعد أن أغلق الباب وراءه قال الصغير:”كم سيطول بنا السفر على متن هذا القطار القديم؟”.

قالت الأم:”ليس كثيرا”.

ووقفت ونظرت لابنها الصغير، كأنها تريد أن تقول شيئا. وأخيرا قالت:”اجلس بمكانك وتصرف كولد مهذب. ويمكنك أن تحصل على مصاصة ثانية”.

هبط الصغير من مقعده بحماس وتبع أمه إلى مقعدها. وأخرجت له مصاصة من كيس كان في جيب غلاف كتابها وقدمتها له. وسألته:”ماذا يجب أن تقول؟”.

رد الصغير:”شكرا. هل حقا قطع ذلك الرجل أخته لقطع صغيرة؟”.

قالت الأم:”كان يثير أعصابك فقط”. ثم أضافت بإلحاح:”إثارة أعصاب فحسب”.

قال الصغير:”ربما”. وعاد برفقة مصاصته لمقعده الخاص، واستقر عليه وثبت نظراته على النافذة. ثم قال:” ربما كان هو أيضا ساحرة شمطاء”.

***

.......................

شيرلي جاكسون Shirley Jackson : كاتبة أمريكية مولودة 1916. توفيت 1965. مشهورة بروايات وقصص الرعب والغموض. من أهم أعمالها: ورقة اليانصيب. العالم المفقود. بيت التلال المسكون.....

ت: صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم