صحيفة المثقف

محمود محمد على: بدايات النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري - الرواقي (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن بدايات النشق الاستنباطي في المنطق الميجاري – الرواقي، حيث إنه من المعروف أن لكل نسق في الرياضيات مجموعة من التصورات يتلائم معها، فالهندسة الأقليدية مثلاً، تعالج النقط والخطوط والمثلثات والدوائر وما إلى ذلك، وتشكل التعريفات المحددة لهذه التصورات المتعلقة بالنسق الركائز الأساسية التى تقوم عليها الرياضيات، ولهذا فأول ما يقوم به الرياضى هو أن يعرف لنا هذه التصورات تعريفاً دقيقاً، وفى هذه الحالة تسمى تلك التصورات بـ " المعرفات ".

ونفس الشىء يمكن أن يقال عن النسق عند الميجاريين والرواقيين؛ حيث أنه يحوى مجموعة من التصورات القائمة على تحليل السمات المنطقية للروابط القضوية، وقد تم دراسة هذه السمات خلال بحث مسألة صدق القضايا المركبة التى تعتمد فى تركيبها على هذه الروابط، ومن أهم أنواع القضايا المركبة التى نقوم بدراستها هنا: القضايا الشرطية (اللزومية) والانفصالية والعطفية، وقضايا أخرى ولكنها أقل أهمية مثل القضايا السببية والتشبيهية والتصعيدية والتخفيضية .

ونبدأ بعرض أهم التعريفات التى أوردها الميجاريون والرواقيون للقضية اللزومية، حيث يذكر "سكستوس امبيريقوس"، بأن القضية اللزومية تعنى عند الميجاريين والرواقيين بصفة عامة بأنها قضية مركبة من قضيتين يشار إليهما بالأعداد الترتيبية الأول (ويسمى أيضاً بالمقدم) والثاني (ويسمى أيضاً بالتالي)، ويتم ربطهما عن طريق آداه الشرط " إذا "، والتي تبين أن الثاني يلزم عن الأول.

ونلاحظ أنه بجانب هذا التعريف العام لمعنى اللزوم الذى أورده سكستوس، هناك تعريفات أخرى للزوم عندهم،حيث تعود الى كل من:فيلوphilo الميجارى،وديدور Diodorus الميجارى، وكريسبوس الرواقى:

أ - فأما فيلون،فقد عرف القضية الشرطية، بأنها تصدق حين يصدق مقدمها وتاليها،أو حين يكذب مقدمها و تاليها،أو يكذب مقدمها ويصدق تاليها. بينما تكذب في حالة واحدة،وهى إذا صدق مقدمها وكذب تاليها . وقد صاغ فيلون هذه القواعد الأربع كما يذكر " سكستوس امبيريقوس "على النحو التالي: " تصدق الشرطية حينما تبدأ بصدق وتنتهى بصدق، مثل إذا كانت الشمس طالعة، كان النهار موجوداً . وتكون صادقة أيضاً إذا بدأت بكذب وانتهت بكذب مثل: إذا طارت الأرض، فالأرض فلها أجنحة، وبالمثل فإن الشرطية تكون صادقة أيضاً إذا بدأت بكذب وانتهت بصدق مثل: إذا طارت الأرض، فالأرض موجودة . بينما تكذب الشرطية في حالة إذا ما بدأت بصدق وانتهت بكذب مثل: إذا كانت الأرض موجودة، فلها أجنحة " .

من هذا النص يتضح لنا أن فيلون كان يرى أن هناك شروطاً ضرورية لكى تكون القضية الشرطية صادقة، فاللزوم يكون صحيحاً عندما لا يبدأ بالصدق لينتهي بالكذب، وعلى هذا تكون هناك ثلاثة أشكال يكون فيها اللزوم صحيحاً، وشكل واحد يكون فيه باطلاً . فيكون صحيحاً عندما يبدأ بالصدق وينتهى بالصدق . ويكون باطلاً فقط عندما يبدأ بالصدق وينتهى بالكذب . وبهذا يكون فيلون قد استبق المناطقة الرمزيين فى دالة الصدقFunction Turth وقائمة الصدقTruth Table دون استخدام هذه التعبيرات؛ حيث أن عامل هذه الدالة هو ثابت اللزوم، والذى يعبر عنه فى المنطق الرمزى الحديث بالرمز (⊃) والذى يقرأ ( تلزم أو يلزم عنها أو تؤدى إلى أو تقضى، وهو يربط بين قضيتين ابتدائيتين مكونا منهما قضية لزومية، يتوقف صدقها على صدق التالي مع صدق المقدم، دون أن يشترك صدق المقدم مع صدق التالى، وعلى كذب المقدم مع كذب التالي . كما يتوقف صدقها أيضاً مع كذب المقدم مع صدق التالى . فى حين تكون كاذبة إذا صدق المقدم وكذب التالي .

ومن ناحية أخرى، نلاحظ مع بعض الباحثين معادلة اللزوم الفيلونى باللزوم المادي عند "هويتهد " و "برتراند راسل " ، وذلك فى نسقها المسمى بنسق (البرنكيبيا)، والذى يسمح بهاتتين القاعدتين

-القاعدة الأولى : ق .⊃.  ( ك⊃ ق)

-القاعدة الثانية : ق .⊃. ( ق⊃ ك)

وتعنى القاعدة الأولى أن الحكم الصادق يلزم من أى حكم آخر، بينما القاعدة الثانية أن الحكم الكاذب يلزم أى حكم آخر .

ب- وأما بالنسبة للتعريف الثانى للزوم، فهو تعريف" ديدور "؛ وفيه يعارض التصور الفيلونى للزوم، لأنه قد ينشأ عنه أن يكون اللزوم نفسه تارة صحيحاً، وتارة باطلاً حسب الفترة الزمنية، إذ سيظهر على مر الزمان تبدلات موقعية، مثل أن يكون السابق صادقاً واللاحق كاذباً . ولهذا اقترح ديدور تعريفاً أعقد وأدق من التعريف الفيلونى للزوم، فبدلاً من القول أن اللزوم يكون صحيحاً عندما لا يبدأ بالصدق لينتهي بالكذب، فإننا نقول أن اللزوم يكون صحيحاً عندما " ما لا يمكن أن يبدأ بالصدق لينتهى بالكذب " أو " عندما ما لا تكون ولا يمكن أن تكون القضية الشرطية مشتملة على مقدم صادق وتالى كاذب " .

ومن ناحية أخرى، فإن ديدور إنما أراد بهذا التعريف أن يستخلص من المنطق معنى معارضاً تماماً للمعنى الذى كان يتمسك به فيلون، حيث هدف ديدور إلى توجية المنطق شطر الصورية .

جـ- وأما بخصوص التعريف الثالث للزوم، فهو تعريف " كريسبوس "، وفيه يرى أن الشرطية تكون صادقة " متى كان نقيض تاليها لا يتفق مع مقدمها "، ولما كان عدم الاتفاق يعنى هنا الاستحالة، فإن تعريف "كريسبوس " قد يبدو معارضاً لتعريف (فيلون وديدور)، وذلك لأن نقيض تالي قضية فيلون قد يتفق وقد لا يتفق مع مقدمها، كما أن نقيض تالي قضية ديدور قد يتفق مع مقدمها .

وإذا كان" كريسبوس" ، قد عرف الشرطية الصادقة، بأنها التى لا يتفق نقيض تاليها مع مقدمها، فإنه بذلك كما يرى بعض الباحثين يكون قد وصل تعريف "دى مورجان " للزوم عن طريق العطف والنفى. ومن ناحية أخرى يقترب برأيه في الارتباط الضروري بين المقدم والتالى من " المشائيين الأرسطيين "، الذين حالوا التعبير عن قضايا اللزوم بالقضايا الشرطية مؤكدين أنه إذا لزمت قضية أخرى، كان من الممكن دائماً أن تكون قضية شرطية صادقة من الأولى كمقدم ومن الثانية كتالى . ومصدر هذه الفكرة هو ارسطو نفسه، حين صاغ مبادئ ضروب القياس صياغة شرطية، وذلك حين عبر عن لزوم المقدمات للنتائج تعبيراً شرطياً.

وعلاوة على ذلك فإن تعريف كريسبوس للشرطية الصادقة يماثل إلى حد كبير تعريف "لويس" Lewis للزوم الدقيق Strick implication ، حيث عرف" لويس " اللزوم الدقيق كما يذكر (ديمتريو) على النحو التالي:" أنه من المستحيل أن تكون ق صادقة و ك كاذبة، حيث أن هذا التعريف فى رأيه يقوم على علاقة مفهومية بين القضيتين ق، ك على نحو يرتبطان معا بتصور الضرورة necessity ، وهذا ما يسميه "لويس" (اللزوم الدقيق).

تلك هي أهم التعريفات التى ناقشها (فيلون وديدور وكريسبوس) فى تعريف معنى اللزوم، على أن هناك تعريفاً آخر له يمكن تسميته مع " ماتيس" اللزوم بالمعنى الضمنى وهو ما وصفه عن بعض المؤرخين على النحو التالى:" تصدق القضية الشرطية فى حالة ما إذا كان تاليها متضمناً بالقوة فى مقدمها "، وبمقتضى هذا التعريف كان ينظر للصيغة " إذا كان الأول كان الأول " على أنها كاذبة، إن الشىء لا يمكنه أن يكون متضمنا فى ذاته .

وتنتقل إلى جزئية أخرى من التعريفات الخاصة بالقضايا المركبة، وهو تعريف القضية الانفصالية؛ حيث يعرفها الرواقيون بأنها قضية تصاغ باستخدام الرابط " أو " وتنطوى على تقابل كامل بين القضيتين المكونتين لطرفي الفصل . ولكن الرابط " أو " يشتمل على تعريفات متعددة من أهمها، أن القضية الانفصالية تكون " صادقة فى حالة ما إذا كان إحدى أطرافها كاذباً " أو " إذا كان لها طرف واحد فقط صادق "، وهذا التعريف غير واضح إلى حد ما، إلا أن هناك نصاً آخر يرويه " بوشنسكى" عن جالينوس، حيث يذكر أن القضية الانفصالية تكون " صادقة إذا كان هناك طرف واحد صادقاً والآخر أو الأطراف الأخرى كاذبة ومتعارضة " .

من هذه النصوص يتضح لنا أن القضية الانفصالية لها  معنيان:-

المعنى الأول: معنى استبعادي Exclusive يستبعد فيه أحد الطرفين صدق الطرف الأخر، فأحد الطرفين فقط يجب أن يكون صادقا،إذ الطرفان بمثابة قضيتين متضادتين، إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى، ولكن كذب إحداهما لا يستبق كذب الأخرى، لأن الشرط الأساسي لكي يكون فصل من هذا النوع الذي يسمى بفعل المتضادات صادقا، أن يكون أحد طرفيه على الأقل كاذباً .

المعنى الثاني:- معنى غير استبعادي non Exclusive   لا يستبعد فيه صدق أحد طرفي الفصل الطرف الآخر، إذ الطرفان بمثابة قضيتين داخلتين تحت التضاد،إذا كذبت إحداهما صدقت الأخرى،ولكن صدق إحداهما لا يستبعد لا يستبعد صدق الأخرى، لأن الشرط الأساس لكي يكون فصل من هذا النوع الذي يسمى بالفصل الضعيف أو بفصل ما تحت التضاد صادقا أن يكون أحد طرفية على الأقل صادقاً .

ولم يكتّف الرواقيون بهذا، بل قالوا بقضية شبه منفصلة quasi disjunctive تكون " صادقة في حالة ما إذا كان غير ممكن لمكوناتها أن تصدقا معاً "؛ ومعنى هذا أن الرواقيين قد عرفوا الانفصال بواسطة النفي والعطف، وبهذا يكونوا قد سبقوا العالم المنطقى " شيفر " Sheffer  الذي أخذ بهذا الانفصال لتعديل نظرية أصحاب البرنكيبيا في حساب القضايا ".

ومن جهة أخرى، فقد عرف الرواقيون نوع آخر من القضية الانفصالية عرفت عن طريق جالينوس باسم " الانفصال التبادلي "، ومثاله:" إما أن تكون الدنيا نهار أو ليل تكافئ إما أن تكون الدنيا ليل أو نهار " .

تلك هي أهم التعريفات التى وردت بخصوص القضية الانفصالية، وننتقل إلي قضية أخرى، وهى القضية العطفية، حيث يعرفها الرواقيون بأنها قضية مركبة بواسطة الرابط " و"، وإنها "تصدق في حالة ما إذا كانت جميع عناصرها صادقة "

كما استخدم الرواقيون بجانب الروابط الرئيسية الثلاثة (اللزوم والانفصال والعطف) التى وصفناها روابط أخرى؛ حيث نجد عندهم قضية استدلالية مركبة بواسطة الرابط " بما أن "، والتي تعنى أن " الثاني يلزم عن الأول ومثاله: بما أن هناك نهار هناك ضوء " .

كما يوجد أيضاً عند الرواقيين عدداً آخر من الروابط التى لا يمكن تعريفها عن طريق قوائم الصدق مثل " القضية السببية " المركبة بواسطة الرابط "لأن " ومثالها " لأن هناك نهار هناك ضوء "، والقضايا التشبيهية والتي تكون إما تصعيدية مثل أن نقول " هناك نهار أكثر مما هناك ليل ". وإما تخفيضية مثل " هناك ليل أقل مما هناك نهار " .

وعلى الرغم من أن الرواقيين لم يدرسوا النفى بالإضافة إلى الروابط، إلا أنهم اهتموا بالنفى أثناء دراستهم للقضايا المتقابلة؛ حيث ميزوا فيه بين أربع أنواع وذلك على النحو التالي:

1 – النفى التناقضي، ويكون بوضع أداة النفى " ليس " فى البداية، حيث ألح الرواقيون بشدة على ضرورة وضع أداة النفى ليس فى بداية القضية.

2- النفى البسيط، وهو الذي يجمع بين آداه نفى مثل لا أحد ومحمول ومثال ذلك " لا أحد يمشى "  .

3- النفى الحرمانى، وهو الذي يكون فيه الموضوع مقيداً بحد منفى ومثاله " هذا لا إنساني ".

4- النفى المزدوج، وهو الذي يجمع بين أداتي نفى، مثل " لا لا يوم " ... وللحديث بقية..

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم