صحيفة المثقف

محمود محمد علي: بدايات النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري - الرواقي (3)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن بدايات النشق الاستنباطي في المنطق الميجاري – الرواقي، حيث إن الرواقيين لم يكتفوا بتعريف القضايا المركبة فى وضوح وصراحة كل على حده، بل اهتموا أيضا بدراسة العلاقات القائمة بين دوال الصدق، وذلك عن طريق إمكانية تعريف الروابط بواسطة رابط آخر، ولقد توافر لدينا حتى الآن عدة تعريفات تقررت من جانبهم على النحو التالي:

1-إذا كان الأول كان الثانى تكافئ ليس معا الأول وليس الثاني؛ وقد أجمع معظم مؤرخي المنطق المعاصرين على أن هذا التعريف ينسب صراحة إلى " كريسبوس " من جانب " شيشرون " وذلك فى كتابه عن القدر " Defeta "؛ حيث قدم " كريسبوس " هذا المثال ليعبر عنه: " إذا كان شخص ما قد ولد فى أيام الكوكب الشعرى فإنه لا يموت عرقا فى البحر تكافئ ليس معاً فى أن يكون شخص ما قد ولد فى أيام الكوكب الشعرى ولا يموت غرقاً فى البحر "

2-إما الأول أو الثانى تكافئ إذا كان ليس الأول، فأنه الثانى ؛ وهذا التعريف ذكره معظم مؤرخي المنطق المعاصرين نقلاً عن "جالينوس "، وذلك من خلال هذا المثال: " إما أن تـكون الـدنيا نـهار أو لـيل تـكافئ إذا كـانت الدنيا ليست نهار فإنها ليل ".

3-إما الأول أو الثانى تكافئ أن الأول لا يكافئ الثاني ؛ وهذا التعريف ذكره " ماتيس " و" "بوشنسكى " نقلاً عن "جالينوس " من خلال هذا المثال " إما أن تكون الدنيا نهار أو ليل تكافئ أن النهار لا يكافئ الليل " .

4- إما الأول أو الثانى يكافئ إذا كان الأول كان ليس الثانى وإذا كان ليس الثانى كان الأول .

ثانياً: اللامبرهنات: بعد أن قدم الرواقيون تعريفات للثوابت فى وضوح وصراحة، وضعوا " مقدمات أولية "، وهذه المقدمات الأولية، قد اشتقها الرواقيون وذلك من خلال نظريتهم فى الحجج ومخططات الاستدلال، حيث ميزا بين الشكل والحجة، فنظروا إلى أن الشكل تلخيص للحجة، وان الحجة نسق مركب من مقدمات ونتيجة، ولكن ليس على نحو ما كان القياس عند ارسطو . والحجة تكون صحيحة متى كانت القضية الشرطية، التى تمثل فيها مقدماتها دور المقدم ونتيجتها دور التالى صادقة . ومن ناحية أخرى فان الحجة تكون صادقة حتى كانت مقدماتها صادقة وبالتالي فان الحجة الكاذبة فى تلك التى إما أنها غير صحيحة أو أنها تشتمل على مقدمات كاذبة . كما كانت الحجة الصادقة تسمى برهانيه متى كشفت عن نتيجة غي واضحة، بينما كانت بعض الحجج الصحيحة من جهة أخرى تسمى لامبرهنه، وهى التي تكون إما غير ممكن البرهنة عليها أو تلك التي لا تحتاج إلى برهان وهذه اللامبرهنات تنقسم إلي بسيطة وتمثل المقدمات الأولية وغير بسيطة وهى التى تحتاج إلى الرد إلى المقدمات الأولية؛ منها يمكن استنباط قضايا، وهذه المقدمات تمثل فئة من القضايا اخذوا بها دون برهان وسلموا بصحتها تسليما واتخذوها أساساً لإقامة البرهان على غيرها من القضايا، وقد سمى كريسبوس الرواقي هذه القضايا " صورا استدلالية " inference schemata، وسماها أيضاً " ضروبا لا تقبل البرهان " basic or indemonstrable  mood، أي ضروب غير مبرهنة يقوم عليها كل استدلال وتشتق منها كل الأضرب الأخرى ؛ وكل ضرب يحتوى على مقدمتين هما: المقدمة الرئيسية، وهى قضية شرطية أو منفصلة أو متصلة منفية . والافتراض الإضافي وهو قضية حملية مثبتة أو منفية .

وقد أحصى منها كريسبوس خمسة ضروب وهى على النحو التالى: إذا كان الأول، كان الثانى، ولكن الأول، إذن الثانى.

وهذا الضرب يطلق عليه الرواقيون صورة الإثبات بالإثبات modus ponendoponens وهو عبارة عن قياس شرطي متصل مثبت يتآلف من مقدمة شرطية متصلة (لزومية) وأخرى حملية ونتيجة حملية، وقد جاءت المقدمة الحملية مثبته لمقدم القضية اللزومية، كما جاءت النتيجة مثبتة لتالي تلك القضية .

وهذا الضرب يطلق علية الرواقيون صورة النفى بالنفى  madus tollendo tollens، وهو عبارة عن قياس شرطى متصل منفى يتآلف من مقدمة متصلة (لزومية) وأخرى حملية، ونتيجة حملية، وقد جاءت المقدمة الحملية، وقد جاءت المقدمة الحملية منكرة لتالى الكبرى، وجاءت النتيجة منكرة لمقدم القضية نفسها .

3- ليس معاً الأول والثاني، ولكن الأول، إذن ليس الثاني؛ وهذا الضرب يطلق علية الرواقيون صورة النفى بالإثباتmodus ponendo  tollens  ؛ وهو عبارة عن قياس شرطى منفصل بالمعنى القوى بعد أن رد ( كريسبوس) الانفصال إلى عطف بواسطة النفي التناقضي، وهو يتآلف من مقدمة شرطية عطفيه يكون مقدمها نفياً لأحد البديلين، ثم مقدمة حملية مثبتة لمقدم القضية العطفية ونتيجة نافية لتالي تلك القضية

4- إما أن يكون الأول والثاني، ولكن الأول ؛ إذن ليس الثانى ؛ وهذا الضرب يطلق علية الرواقيون صورة النفى بالنفى  modus ponendo tollens ؛ وهو عبارة عن قياس شرطى منفصل بالمعنى القوى، حيث يتآلف من مقدمة شرطية منفصلة كمقدمة كبرى وقضية حملية كمقدمة صغرى مثبتة لمقدم القضية الكبرى، ونتيجة حملية منكرة لتالى تلك القضية.

5- إما أن يكون الأول أو الثاني، ولكن ليس الثانى، إذن الأول ؛ وهذا الضرب يطلق علية الرواقيون صورة الإثبات بالنفى  modus tollendo ponens ؛ وهو عبارة عن قياس شرطى منفصل بالمعنى الضعيف، حيث يتآلف من مقدمة شرطية منفصلة كمقدمة كبرى ومقدمة حملية كمقدمة صغرى منكرة لتالى الكبرى ونتيجة حملية مثبتة لمقدم القضية نفسها .

وقد اعتقد كريسبوس أن هذه الضروب الخمس مكتملة ؛ أي كافية لاشتقاق كافة النتائج المطلوبة، كما إنها مستقلة independent ؛ أي منفصلة الواحدة منها عن الأخرى " فلا تقبل الرد "، كما أنها أوليه بمعنى انها تتوج صور أخرى سابقة عليها فى عملية الاستدلال، ولا تقبل البرهان بمعنى أنها حقائق منطقية  Logical truth .

ومن ناحية أخرى، فإن هذه الصور ليست ضروباً ؛ بمعنى أنها صور متعددة للاستدلال، وإنما بمعنى أنه يمكن اعتبارها قواعد للاستدلال ، وذلك أول عهدنا بوضع قواعد للاستدلال فى وضوح وصراحة قبل البدء بأى برهان

ثالثاً: المبرهنات: إذا كان الرواقيون بقيادة " كريسبوس "، قد وضعوا خمسة صور استدلالية افترضوها كبديهيات لاستنباط الأشكال الأخرى، وهذه الأشكال تمثل جملة القضايا أو الصيغ التي يتم اشتقاقها من مجموعة اللامبرهنات . ولذا عادة ما تسمى بالقضايا أو الصيغ المشتقة أو القابلة للاشتقاق derivable  أو باختصار " المبرهنات "

والسؤال الآن: كيف حاول الرواقيون رد المبرهنات إلى اللامبرهنات ؟

يذكر المؤرخون أن كريسبوس كان يتبع فى رد المبرهنات إلى اللامبرهنات أربع قواعد منطقية عامة وهى على النحو التالي: ـ

القاعدة الأولى: ويذكرها " وليم نيل " نقلاً عن "جالينوس "، والاسكندر الافروديسى، حيث تقول أنه إذا تضمنت قضيتان قضية ثالثة، فإن أيا منها مع نفى الثالثة يتضمنان نفى القضية الباقية، وهذا المبدأ الذي استخدمه أر سطو في الرد غير المباشر

القاعدة الثانية:-فقد ضاعت، وربما تكون هي مبدأ التحليل، الذي يؤكد كما يذكر (سكتوس أمبيريقوس) أن " وجود النتيجة فى المقدمات التي تصدر عنها وجود اً بالقوة "

القاعدة الثالثة: ويذكرها "وليم نيل " و "بوشنسكي" نقلاً عن جالينوس والاسكندر الافروديسى، حيث تقول القاعدة: " إذا تضمنت قضيتان قضية ثالثة، وأثبت إحدى هاتين القضيتين ببعض المقدمات، فإن القضية الأخرى، وهذه المقدمات مما تتضمن النتيجة الأصلية " .

القاعدة الرابعة: فقد ضاعت أيضاً وربما نكون مبدأ الاشتراط الذي يسمح لنا بأخذ القضية على مقدمها لقضية شرطية جديده لها نفس تالي القضية الأصلية وهذه القاعدة يصوغها بوشنسكى على النحو التالى: أن القول إن} (ك) {تقبل الاستنباط من ف [إنما يتكافئ مع القول حيث أن المقصود هنا هو اللزوم الديدورى .

ومن خلال هذه القواعد استطاع الرواقيون أن يبرهنوا على صحة جميع الاستدلالات التي تزداد مقدمتها الرئيسية تركيبياً وتعقيداً وذلك من خلال اللامبرهنات الخمس التي ذكرها كريسبوس، وفى هذا يقول لنا شيشرون: " أنهم كانوا يستخلصون من هذه اللامبرهنات نتائج كثيرة، حيث كانوا يبرهنون بها على عدد كبير من الاستدلالات العقلية وذلك بحصرها فى أحد اللامبرهنات بواسطة عدد صغير من القواعد تسمى مواضيع " .

وقد حفظ لنا المؤرخون بعض هذه المبرهنات أو النظريات التي أقاموا البرهان عليها، واستخدموها فى تحليل الاستدلالات الأكثر تعقيداً، ومن هذه النظريات أو المبرهنات أو الاستدلالات التي تقوم على اللامبرهنات الخمس ما يلي:-

المبرهنة رقم (1): إذا كان الأول والثاني، كان الثالث، ولكن ليس الثالث، ومن جهة أخرى نثبت الأول، إذن ليس الثانى .

المبرهنة رقم (2): إما أن يكون الأول أو الثانى أو الثالث، ولكن ليس الأول، ولكن من جهة أخرى ليس الثاني، إذن ليس الثالث .

المبرهنة رقم (3): إما الأول أو ليس الأول، ولكن الأول، إذن ليس ليس الأول.

المبرهنة رقم (4): إذا كان الأول، فإنه إذا كان الأول كان الثاني، ولكن الأول، إذن الثانى

المبرهنة رقم (5): إما أن يكون الأول أو ليس الأول، ولكن ليس ليس الأول، إذن الأول

المبرهنة رقم (6): إذا كان الأول كان الأول، ولكن ليس إذا كان الأول كان الأول،  إذن الأول

المبرهنة رقم (7): إذا كان الأول كان الأول، ولكن الأول، إذن الأول.

المبرهنة رقم (8):إذا كان الأول كان إما الثانى أو الثالث، ولكن ليس الثانى، ومن جهة أخرى ليس الثالث، إذن ليس الأول.

المبرهنة رقم (9): إذا كان الأول كان الثانى، وإذا كان الأول إذن ليس الثاني، إذن ليس الأول.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم