صحيفة المثقف

محمود محمد علي: وداعاً محمد رجائي الطحلاوي.. المهندس والوزير والمتصوف

محمود محمد عليإن الموت "مصيبة" كما جاء في الكتاب الذي لا مرية فيه، ولكنني في الغالب لا أفقد تماسكي عندما ينعى إليّ من لي بهم صلة قربى أو صلة صداقة، لا لبرودة في مشاعري، ولا لتخشب في طبعي، ولكن لأن المؤمن – وحمدا لله على نعمة الإيمان- مهيأ نفسيا لتلقي مثل هذا الأخبار بـ" دواء الصبر" .. فالحياة حقيقة، والموت حقيقة، والبعث حقيقة، والحساب حقيقة، والإيمان العميق يدعم الثقة في كل ذلك، ويقدم العزاء للمصدومين، ويدعم صبر الصابرين، ولكن تبقي مرارة الفراق ألماً ممضاً يعتصر الفؤاد، فما أصعب أن يتحول الواقع إلي ذكري .

نعم لقد قد غيب الموت الأستاذ الدكتور محمد رجائى الطحلاوى الأستاذ المتفرغ بقسم هندسة التعدين والفلزات كلية الهندسة، رئيس جامعة أسيوط الأسبق وأحد مؤسسيها، ومحافظ أسيوط الأسبق، وذلك يوم السبت الماضي الأول من مايو 2021م، وبوفاته العالم الجليل رحلت عنا قامة علمية مرموقة وقيمة إنسانية وفكرية فريدة أثرت فى صعيد مصر وساهمت فى بنائه وكان له مكانة غالية فى نفوس المجتمع الجامعي على اختلاف أجياله،،، سائلاً المولى عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهم أسرته وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.

رحل الطحلاوي في صمت وهو من هو .. لقد ملئ الأرض علما وبلغت شهرته الآفاق، وتنوعت جهوده العلمية بين الكتابة في تخصصه في التعدين والفلزات وبين كتابته عن الأعلام والشوامخ من مفكري وعلماء وفناني صعيد مصر؛ علاوة علي تبنيه التجربة الصوفية وكتاباته الرائعة عن أبي الحسن الشاذلي والرفاعي وغيرهما من رواد الطرق الصوفية في مصرنا الحبيبة.

كان رجائي الطحلاوي الحارس علي طلب العلم الجاد الأصيل، وتعددت دراساته العلمية والأدبية، واتسعت اسهاماته لتضيف إلي المكتبة العربية والإسلامية منجزاً فكرياً ستظل الأجيال تتوارثه جيلاً بعد جيل، فما أجمل أن يهب الإنسان حياته للعلم، حتي إذا رحل ظلت أعماله ترسخ فهما، أو تصحح خطأ، أو تزيل لبساً .

كان منزل الطحلاوي بجامعة أسيوط مقصداً لكل المثقفين والمريدين وطلاب العلم علي اختلاف توجهاتهم، يلقي الجميع بابتسامة بشوشة، وسرعان ما يقوم علي خدمتهم بنفسه، كان الرجل التسعيني يقوم فيعد لضيوفه الطعام والشراب في حفاوة بالغة تعيد إلي الأذهان سيرة العلماء الأوائل في تواضعهم، كم كان قلبه ناصع البياض لا يعرف الحد والمداراة.

وقد حظى الدكتور الطحلاوي بتاريخ علمى مشرف، ورحلة عمل، وعطاء زاخرة، والتى بدأت بتعيينه معيداً بكلية الهندسة عام 1959، ثم تدرج فى السلم الأكاديمي حتى تعيينه أستاذاً بقسم هندسة التعدين والفلزات، كلية الهندسة عام 1974، كما إنه تقلد عدد من المناصب القيادية الهامة والبارزة داخل وخارج الجامعة والتى بدأت بتعيينه وكيلاً لكلية الهندسة لشئون التعليم والطلاب في الفترة من سبتمبر 1979 إلى اغسطس 1983، ثم عميداً لكلية الهندسة في الفترة من أغسطس 1983 ولمدة سبعة سنوات كاملة، تقلد بعدها منصبه فى الإدارة العليا للجامعة والتى بدأت كنائباً لرئيس الجامعة لمدة عام واحد فقط، ثم تولى سيادته بعدها منصبه كرئيس لجامعة اسيوط طوال الفترة الممتدة من أغسطس 1991 إلى يناير 1996، أعقبه منصب الفقيد كمحافظ أسيوط من يناير 1996 إلى أكتوبر 1999.

لقد كان الراحل الكريم طاقة فكرية وخلقية لا تنضب، وكان ملهما لكل من يتعامل معه، ودافعاً للجميع علي الثقة بالنفس والامكانيات والقدرات الشخصية، وما من أحد اقترب من الدكتور الطحلاوي إلا وقد تأثر بصفاته الخلقية الرفيعة والنادرة، النابعة من رؤيته الصوفية القيمية المعتدلة للحياة، فنجد فيه نشاط وحيوية المؤمن برسالته، وهدوء وصمت المفكر ن ونجد فيه تواضع العالم، وصبر الباحث، والصدق مع النفس ومع الآخرين، ونجد فيه عطاء بغير حدود، فلم يبخل يوما علي تلاميذه ومريديه بنصيحة أو تشجيع أو توجيه لأي باحث أو مريد لجأ إليه.

كان - رحمه الله- واسع الأفق، ثاقب النظر، حاضر الذهن، سريع البديهة، كان بليغاً رقيقا حليما متواضعاً قوالاً بالحق عاملاً به، لا يخاف في الله لومة لائم، كان رقيق القلب لكل ذي قربي، كان معلماً ومرشداً وناصحاً، وكان ذا همه عالية.

كان الدكتور الطحلاوي قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

كما جمع الطحلاوي بين الأفق الفلسفي الواسع، والرؤية العلمية المحددة، والبعد الديني وهنا يتضح عدم تعصبه لمذهب بعينه من المذاهب الفلسفية المعاصرة، فلم يكن وضعياً ولا برجماتياً ولا وجودياً، ولا متمذهبا بأي حال من الأحوال فموضوعتيه غلبت عليه في كل أحكامه، وأراءه وعندما يوجه سهام نقده لأى من هذه المذاهب فهو لا ينكرها أو يريد هدمها أو نقضها، إنما يطالب بإعادة النظر إليها لاشتمالها علي نقائض وعيوب، كما يهتم بصياغة المصطلح صياغة فلسفية، وعلمية دقيقة ويظهر التفرقة الواضحة بين الصياغتين.

أضف إلي ذلك حبه العميق للغة العربية، فقد كان عاشقاً لها، غيوراً عليها، حظياً بها – وقد انعكس ذلك كله علي أسلوبه في كتاباته؛ حيث كان أسلوبه جذلاً، فيه رصانة وطراوة، وإغداق وإثمار، وفيه عذوبة تشد الآذان إليه لسهولته، وإن تكن من نوع السهل الممتنع.

رحم الله الدكتور الطحلاوي، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت إمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم