صحيفة المثقف

علي رسول الربيعي: مفهوم التأويل والتراث من منظور الفكر العربي

علي رسول الربيعييعود مصطلح التأويل الى الكلمة اليونانية (Hermeneia) وهو مشتق  من اسم "هرمس" بوصفه أحد الأنبياء أو الرسل، و جاءت هذه الفكرة من إحاطة هرمز بهالة قدسية باعتباره الواسطة بين الإله والناس، حيث تكمن وظيفته فى نشر وإظهار الأفكار الإلهية فهو يترجم اللانهائية إلى صيغة محدودة متناهية تارة وتارة يجعل الروح الإلهية المتعالية حالة محسوسة، وهكذا فإنه يحلل ويقيس تارة، ويخصص تارة أخرى، فيعزى إليه فهم كل شئ.  وقد أستعملها أرسطو كعنوان لأحد مؤلفاته (peri Hermeneias  (وعبر الرومان عن كنه كلمة (هرمينيا) بكلمة أخرى  (Elocutio) أى بمعنى عرض الأفكار ثم أصبحت هذه الكلمة قريبة المعنى من كلمة أخرى هي (Exegesis) أي تفسير، واعتبرتا مترادفتين والحقيقة أن هاتين الكلمتين معنيتان أصلاً بالفهم والمعنى الحاصل.(1)

تذهب عملية التأويل بوصفها مصطلحاً تقنيا إلى ما هو وراء المنتج الفكري حيث تعتمد التفسير والفهم في إطاره الشامل إنها تبحث عن أولية الشيء وأساسه وأصله لتعيد بذلك تأسيس سؤال الفهم فى الأنبياء للمجهول وربط الصلة بين الحاضر والماضي مفضل مفهوم التراث الذي يعنى استحضار الأثر وإقامة حوار السؤال معه، (2)  إن التأويل حالة لا تتوقف فهو في حركة مستمرة، ويحاكى بصورة أساسية فن الفهم. (3)

يسبر التأويل بعداً مجهولاً فى النص ويكتشف دلالات جديدة لتوليد المعنى وتجديد الرؤية (4)، إنه يوسع نطاق استعمال صيغة ما إلى منطقة أوسع، بالكشف عن شبكة علاقات الواقع الموجودة (5). ويستدعى التأويل للتوفيق وتسوية الخلاف بين الصور التراثية القديمة والحاجات الحديثة (6) أنه يعيد مساءلة التراث عما يعيه ويقوم باستحضاره داخل زمانية المشروع الثقافي للأمة (7).

ونلاحظ هنا أن مشروعنا الثقافي يتمثل في طروحات الفكر العربي الإسلامي من خلال البحث عن السبل التي تؤول إلى تحديد مناهجه ومفاهيمه للوصول إلى نوع من إعادة التقييم للتاريخ والتراث، ومسألة تجديد الفكر العربي الإسلامي ترتبط بمسألة العلاقة المقامة مع ماضيه، فالتجديد يقتضي دوماً إعادة النظر بالأسس والأصول التي يقوم عليها التراث حتى يبرر ميله الإصلاحي ونزوعه التجديدي (8). إن الثقافة تنمو وتتحدد من خلال التأويل المستمر لأساسها وأصولها، وهكذا هي الثقافة العربية الإسلامية إذ كان التأويل ميزة هذه الثقافة وطريقها الذى يخرج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية كما عرفها ابن رشد (9).

إن التأويل بمفهومه الاصطلاحي من العوامل التي تسهم في نفى واحدية المعنى واحتكار الحقيقة إنها تحرير للفكر من سلطة الواحدية (10) ، إنها تعلمنا التخلي عن الإطلاقة في عملية الفصل بين التراث الحي وعملية امتلاكه الواعية وتجبرنا على الاعتراف بالنسبية وأننا محكومين بالصيرورة التاريخية (11) من خلال ما تسمح به تقنيات التأويل للإشارات بأن نتكلم وأن نكشف عن معانيها (12).

وهناك من يرى رغم كل محاسن التأويل المذكورة بوصفها سبيل انفتاح العقل وشموله أن هناك في واقعنا الفكري من يأبى إلا أن يتعامل مع التراث من موقف حصري، يصفه بمفاهيم أرثوذوكسية، أنه يروم العبور إلى التراث على جسور الأيديولوجيا، وهذا لا يؤدى إلا إلى إسقاطات لفظية مفتعلة تساهم فى تشويه ملامح التراث، وهذه التأويلات رغم ادعائها الدخول إلى ساحة الموضوع لكنها لم تكن أكثر من التحرك بتأثير أوهام الذات المعاصرة الباحثة عن دعامات من اعماق الماضي (13)  .

أما "مفهوم التراث" فيشمل مجالاً تداولياً واسعاً في النشاط الثقافي والفكري ومنذ ما يسمى ﺑ "عصر النهضة " وإلى الان، لقد أخذ هذا المفهوم دلالات جديدة ومتراكمة نتيجة الاستعمال المستمر والمتكرر عند تتناول الفكر العربى الإسلامى وتاريخه ومحاولات إحيائه وتجديده فتم تغليفه بمضامين أخلاقية أطلاقية أو بطانة أيديولوجية سميكة.

تعود كلمة "التراث " فى أصولها اللغوية إلى مادة (ورث) و(ميراث) وهى تدل على ما يحوزه الشخص من ممتلكات مادية عائدة إليه من سالف، وردت إشارة  اليها فى القرآن  (وتأكلون التراث أكلاً لما) (14) وأخرى فى آية (ولله ميراث السموات والأرض) (15) إذ لم يكن لهذا اللفظ فى استخدامه القديم أكثر من المعنى المادي، ولم يكن يعنى فى مجاله التداولى آنذاك التراث الفكري العام، وما أصبح يعنيه لفظ التراث الآن يعود إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر  وتحت تأثير الفكر الغربى كترجمة غير مباشرة لكلمات مثل   Heritage   و legacy مما يدل على نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى. (16)

لقد حدثت زحزحة (17) دلالية بين معنى اللفظ آنذاك و معاناها الحالي، لقد غير الزمن ومشروطتيه من مدلولها . وجرى التوسع وأخرجاها من الضيق الذي كان في طريق النظر إليها الى زاوية جديدة، فقد حدث تحول كبير في مفهوم اللفظة نقلها من دلالتها العادية إلى دلالة ثقافية واسعة ومحتوى أكبر، وأصبحت تعبر فى معناها الحالي عن التركة فى الجانب الفكري لحضارة الأسلاف.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

........................

(1),  :Boechk, Philip Augus  , Philological Hermeneutics ,p 134 -135:  in:Kurt  Mueller – Vollmer: The Hermeneutics Reader , continuum , New York, 2985                   t:

(2) صفدى: استراتيجية التسمية فى نظام الأنظمة المغرفية، مركز الإنماء القومى، ط 1، بيروت 1986م، ص 223 ـ 230 .

(3) Schleiermacher, Friedrich D: Foundations: General Theory and the Art of Interpretation: in Vollmer (ibd) p 73 -74

(4) حرب، علي: التأويل والحقيقة، ص5

(5) ذى مان، بول: الشكل والقصد فى النقد الجديد ترجمة سعيد:    الثقافية الأجنبية، دار الشئون الثقافية، بغداد العدد 3، 1992م، ص 39.

(6) سونتاغ، سوزان: ضد التأويل، ترجمة باقر جاسم محمد الثقافة الأجنبية ص 16 .

(7) صفدى: استراتيجية التسمية، مركز الإنماء القومى، ط 1 بيروت 1986م، ص 240 .

(8) حرب، على: التأويل والحقيقة، ص 221 .

(9) كذلك: ص 224 .

(10) وهبة مراد: محاكمة العقل العربى، مجلة المنار، العدد 45، 1988، ص

(11) غادامير، هانز جورج: فن الخطابة وتأويل النص ونقد الأيديولوجيا، ترجمة نخلة فريفر،مجلة العرب والفكر العالمى، مركز الإنماء القومى، بيروت العدد 3/1988، ص 11 .

(12) صفدى: كلام الكتابة بين الميراث والتراث،مجلة الفكر العربى المعاصر، العدد 2، 1984م، هامش (9)، ص 19.

(13) صفدى: كلام الكتابة بين الميراث والتراث،مجلة الفكر العربى المعاصر، العدد 32، 1984م، هامش 19، ص 19 .

(14) القرآن، 89 الفجر 20 .

(15) القرآن، 3 آل عمران 10 .

(16) د/ حنفى، حسن: الفلسفة والتراث، ضمن كتاب الفلسفة العربية المعاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1،بيروت، 1988م ص 370 .

(17) المقصود بالزحزحة هنا هو تغير يطرأ على المعنى القديم والتقليدى للفظ أو مقاربة جديدة لمعناه تحل محل مقاربات، المعنى القديم وتعليقها أو تزحزح عن مكانها .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم