صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد كمال جعفر وموقفه من التصوف الإسلامي (1)

محمود محمد عليلي وجهة نظر خاصة في تفسير تطور الدراسات الفلسفية الإسلامية في القرن العشرين في مصرنا الحبيبة، حيث أري أن مكانة الشيخ مصطفي عبد الرازق تمثل نفس المكانة التي كان يحتلها "سيبويه" في تأسيس النحو العربي، وعندما مات هذا الرجل خلف من بعده مدرستان الأولي في كليات الآداب (وهي تمثل نفس مدرسة البصرة في النحو العربي)، والمدرسة الثانية مدرسة دار العلوم (وهي تمثل مدرسة الكوفي في النحو العربي)، وكان هناك صراعاً قويا وعظيماً بين المدرستين، في مجال الفلسفة الإسلامية، فإذا كنا نجد لمدرسة كلية الآداب أقطاباً ورموزاً من أمثال إبراهيم بيومي مدكور، وعلي سامي النشار، وزكي نجيب محمود عاطف العراقي، ومحمود الخضيري، وعبد الرحمن بدوي وعصمت نصار وهلم جرا، فإننا نجد في المقابل مدرسة دار العلوم حوت شخصيات مبدعة أيضا من أمثال محمود قاسم، ومحمد كمال جعفر، ومحمد السيد الجليند، وحامد طاهر، وعبد اللطيف العبد، وعبد الحميد مدكور.. وهلم جرا.

كان شعار مدرسة كليات الآداب أن الفلسفة الإسلامية يغلب عليه التعاطف مع الدرس الاستشراقي وهو يؤرخ لدورهم في مجال العناية بالدراسات الإسلامية بشكل عام، وبالدراسات الفلسفية بشكل خاص، ومنوهاً بهذا الدور، ومشيداً بفضل هؤلاء المستشرقين الذين اتجهت عنايتهم بالدراسات الإسلامية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولكنها نشطت في الربع الأول من القرن العشرين ؛ وكانت للدراسات الفلسفية نصيب من هذه الجهود، حيث نشرت مؤلفات لفلاسفة المسلمين بقيت مخطوطة زمناً طويلاً، وقُوبلت أصولها العربية بما عرف لها من ترجمات لاتينية وعبرية، وعلّق عليها بما يشرح غامضها، ويعين على فهمها.

بينما كان شعار مدرسة كليات دار العلوم والدراسات الإسلامية يشجب هذا الدرس الاستشراقي منطلقين من مبدأ جميعهم يؤمنون به وهو "أصالة الفلسفة الإسلام "، والشخصية أود الحديث عنها هنا هو الأستاذ الدكتور محمد كمال جعفر – أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة (وهي تشبه شخصية أبو زكريا الفراء في النحو العربي)؛ وهو يعد حالة فريدة في فكرنا العربي، كما يعد من أكفأ المفكرين بين أبناء جيله، ويتميز بمقدرة فريدة في الوصول المباشر إلى قلب القارئ، فهو الإنسان الذي لا يماثل أحد غيره، ولا يماثله غيره، وفقرة من أعماله تبين لك سمة الصدق التي لا تغيب عنه مفكراً وإنساناً، هو موسوعي المعرفة، ويمتلك القدرة على التواصل مع الآخرين، ومشتبك دائماً مع الحياة اليومية، ولم يهرب في أي مرحله من مراحل حياته من أداء مهمته كناقد ومثقف موسوعي.

كما يعد الأستاذ الدكتور محمد كمال جعفر أحد أهم أقطاب الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة، وهو من الجيل الثاني بعد الأستاذ الدكتور محمود قاسم رحمه الله، وهو قد حصل على الدكتوراه من جامعة كامبردج العريقة، وعقب عودته سافر إلي العمل بجامعة قطر في ثمانينيات القرن الماضي، وللرجل كتابات جادة بأسلوب سلس قلما يبرع به مؤلف، وهو الذي كانت تفيض حياته بالحيوية والنشاط الفكري، نفسه أشرف على ما يقرب من ثلاثين رسالة جامعية، ثم أعُير بعد ذلك إلي جامعة الكويت وبقي فيها إلي أن توفاه الله، ولا أجد أي معلومة تتعلق بسيرته الذاتية .

وللدكتور محمد كمال جعفر كتابات كثيرة نذكر منها: الإنسان والأديان دراسة مقارنة، في الدين المقارن، في الفلسفة والأخلاق، والتصوف طريقا ومذهبا، من قضايا الفكر الإسلامي دراسة ونصوص، في الفلسفة الإسلامية.. وهلم جرا.

والدكتور محمد كمال جعفر من الأساتذة الذين كنت أحب أن أستمع إليهم، فقد وهبه الله حنجرة قوية تشبه حنجرة الشيخ الحميد عبد كشك، وله أحاديث كثيرة علي اليوتيوب، لعل أول ما يجذبك وأنت تستمع إليه أنه كان محاضراً بارعاً، وصاحب صوت جميل، علاوة أنه كان يتميز بسمة الهيبة والوقار الذي يكسو ملامحه الشخصية الظاهرة.

ومن خلال مطالعاتي لبعض كتبه أحببت المساهمة بنشر بعض معالجاته لبعض المواضيع، واخترت القضية التي صدَّر بها كتابه " في كتاب التصوف طريقا وتجربة ومذهبا"، وفي مقدمة هذا الكتاب قال: لقد زعمنا في هذه المحاولة أنه يمكن تناول التصوف من زوايا ثلاث: من حيث كونه طريقا يسلك، تتخذ فيه وسائل وشعائر معينة، ومن حيث كونه تجربة نفسية تعاني، محدثة تحولاً وتطورات نفسية في مجالات كثيرة، ومن حيث كونه مذهباً يعكس وجهات النظر الشارحة أو المتنبئة باكتشافات الصوفي، أو بآرائه في هذه الرحلة الطويلة، فالزاوية الأولي عملية أو سلوكية، والثانية نفسية أو شعورية، والثالثة يمكن وصفها بأنها فلسفية أو فكرية، تحاول أن تضع حصيلة الحياة الروحية وما تتضمنه من حقائق وتفاسير في إطار ذهني أو فكري (1).

ولم يكن الدكتور محمد كمال جعفر من الذين يريدون ك الفصل التام بين هذه الجوانب الثلاثة، فليس من المعقول في نظره أن تنفصل هذه الزوايا في حياة الصوفي ؛ وقد أراد بهذا التصنيف أن ييسر مهمة الدارس في التعرف علي مواطن المقارنة في المجالات الثلاثة، ضماناً لصحة النتائج وسرعة الوصول إليها (2).

ويعترف محمد كمال جعفر مقدماً أن المحاولة تعد مغامرة كبيرة تدعي ما ليس في طاقة باحث واحد، كما يعترف بأن التطبيق الحرفي للمحاولة علي وجه مقارن عام لم يمكن الاحتفاظ به إلي نهاية الشوط، بل رعي محمد كمال جعفر التركيز علي الجانب الإسلامي في كثير من المواضع (3).

وإذا كان محمد كمال جعفر قد عرض تعدد التجربة الصوفية بتعدد موضوعها، فإنه لم يعني بذلك أنه يؤمن باختلافها الجوهري وانفصال هذه الأنواع انفصالاً تاماً . إن التصوف في نظر محمد كمال جعفر ليس علما نظريا أو فكرا مجردا تحدد فيه القسمات ويدقق فيه التمييز: وإنما هو خلاصة مركزة جمعت بين الفكر والسلوك والعاطفة ما يصور كيان الإنسان كله في لقائه مع هدفه، وعلي ذلك فمن الممكن أن تتلمس مصادر فلسفية وغير فلسفية لبعض الأفكار في التصوف يشوه حقيقته ويوخون قواعد الإنصاف والنزاهة العلمية، كما لا يوجد مانع من وجود تبادل بين أنماط السلوك في النظم الصوفية المختلفة (4).

وما يريد أن يصل إليه الدكتور محمد كمال جعفر هو النظر إلي التصوف نظرة خاصة تتيع لإدراك مجاله الفعلي الذي لا يقتصر الفكر أو السوك أو العاطفة، كل علي حده . وهذا لا يمنع كما يقول محمد كمال جعفر بالطبع أن نتناول الأفكار بالدراسة والمقارنة بغية الإيضاح وتلمس الآثار والمصادر، ولكنه يمنع أن تكون دراسة محمد كمال جعفر عن التصوف وحدها كافية في مجال الكشف عن مجال التصوف وحقيقته (5).

وقد ضرب محمد كمال جعفر في كتابه عن التصوف مثلا لذلك بالعبارة " الوقت غير حقيقي" الصادرة من فيلسوف ومن متصوف، وأوضح أنه رغم اتفاق العبارة وتطابقها، إلا أن المضمون مختلف، فهو في الأول فكري، وفي الآخر نفسي، وكذلك الحال فيمن يقتصر علي الجانب التاريخي والسلوكي للصوفية معتبراً ذلك حكماً نهائياً وتصويراً واقعياً لحقيقة التصوف . ومع ذلك فالقيام يمثل هذا الدور ضروري في تجلية الظروف والجوانب المختلفة المؤثرة في زاوية أو في أخري من زوايا التصوف (6).

يقول محمد كمال جعفر: .. ولقد أفاد الدراسون كثيراً من المقارنات المعقود بين شخصيتين مختلفي اللغة والدين والعصر، ولقد زادت الفائدة حين خفت نغمة التأثير والتأثر، وعلت نغمة الإيضاح والتفسير والتفهم المخلص . ومن بين هذه المقارنات ما أمكن أن يكشف عن جوانب أصيلة في التصوف الإسلامي، ومن أشهر هذه المقارنات الك التي عُقدت بين أبن عربي واسبينوزا (7).

لقد انتهت الفروض التي وضعت لمصادر التصوف الإسلامي بإلغاء بعضها البعض، فلم يعد هناك كما يري محمد كمال جعفر مجال للقول بأن التصوف رد فعل آري ضد السامية أو العربية، ولم يعد هناك مبرر لتلمس مصدر أجنبي لكل نقطة من نقاط التصوف كما هو مضمون هده الفروض المتناقضة، والغريب كما يقول محمد كمال جعفر أن نجد الدارسين العرب يتابعون بعض المستشرقين، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة التحقق من هذا في تراثهم (8).

يقول محمد كمال جعفر:" ولسنا نقول ذلك دفعا لإثبات أي تأثير اجنبي – فالواقع أن الصوفية ليسوا بهذه الحساسية، ولا يعنيهم إلا ما يعين علي تطوير سلوكهم أو فكرهم أو مشاعرهم وقد بينا (في كتابنا التصوف طريقا وتجربة ومذهبا) أن الصوفي لا يعبأ بالمصدر الذي يستقي منه ما دام يعبر عن ذاته فكرا وسلوكاً وعاطفة، فهو قد يستعير من فروع ثقافة أمته، إلي جانب كتابه المقدس ونصوصه الدينية الأخري، وربما يدل مفهوم ما استعار دون أن يمس الصورة، وربما عدل من الصورة أيضا ن وقد يستعير من ثقافات أخري ما يجده وفياً بمساعداته في حياته الروحية، ولا يضيره أن يقال له ذلك، أو أن يصرح هو بذلك (9).

فالواقع أن أعلام التصوف الإسلامي الأصلاء في العالم الإنساني كانوا كما قال محمد كمال جعفر قمماً فكرية وروحية في أمتهم، وقد شارك بعضهم فعلاً في العلوم الطبيعية، وباختصار حاول معظمهم أن يعوا ثقافة أمتهم وأن يطوروها . فهم إذن من مثل التفتح ، ومن العجيب مثلاً أن يعتبر اشتغال ذي النون المصري والتستري في التصوف الإسلامي، ومعظم متصوفي القرون الوسطي في التصوف المسيحي بالكيميا مدعاة للاتهام وإساءة للظن والتجريح . هذا يقال في الوقت الذي يصم العالم الحديث فيه أذنيه عما سوي معمله، ويغلق رجل الدين صدره وعقله دون حقائق العلم الحديث   وتطوره (10).

إننا إذا عاشرنا المتصوفة كما يقول محمد كمال جعفر في جميع بقاعهم وعصورهم ودياناتهم وجدنا وحدة الطابع لموقفهم من الحياة والإنسان –هذا علي خلاف التفصيلات التي اصبغت باللون المحلي للعقيدة، أو المذهب، أو الحضارة، ولو جدنا أنهم دعاة امن وسلام ومحبة، لا يعميهم التعصب ولا يحجرهم الجمود، ولا يتأبي عليهم تذوق الجمال، ولا تنقصهم الشجاعة وإنكار الذات ولا تقصر ملكات التفكير فيهم ولا يفزعهم ما يفزع أغلب الناس .. وما أربح الأمة إذا استطاعت أن تستمد من هذه الينابيع طاقاتها الروحية التي هي نماذج حية، وترجمة واقعية للب الدين وجوهره (11).

وهناك حقيقة أخري تتصل بضرورة دراسة التصوف في نظر محمد كمال جعفر ، وهي أن التجربة والحياة الصوفية نموذج خاص للنشاط الإنساني وظاهرة من ظواهر روحانيته، لا يمكن بدون دراستها استيعاب حضارة الإنسان وما حققه في عمره الطويل علي الأرض، فالتصوف جانب – وجانب هام – من حضارة الفكر والوجدان، يتصل بأعز ما يملك الإنسان – قلبه وفكره – وهو لا يقل شأنا عن سائر الجوانب الأخري لهذه الحضارة، إن لم يكن يفوقها، ولا يمكن من الناحية العملية أن تكون دراساتنا الكثيرة، التي تساهم بصورة فعالة في إلقاء الضوء علي هذا الكائن العجيب (الإنسان) . وربما يراجع انصراف بعض الدارسين أو بعض الناس عن تناول التصوف إلي ما أُشيع من أنه لا يعني إلا بمجموعة من الترهات والهلوسة، ويريأ الباحث بهؤلاء الدارسين عن أن يهبطوا إلي درجة التأثر بالأقوال الشائعة أو بالحكام المعممة دون محاولة واعية وعميقة للتحقق من الأمر في صورة نزيهة وموضوعية (12)... وللحديث بقية..

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

1- محمد كمال جعفر: التصوف طريقا وتجربة ومذهبا، دار الكتب الجامعية، القاهرة، 1970، ص8.

2- نفس المصدر، ص 9.

3- نفس المصدر، ص 9.

4- نفس المصدر، ص 10.

5-نفس المصدر، ص 10.

6-نفس المصدر، ص 10.

7-نفس المصدر، ص 11.

8-نفس المصدر، ص 10.

9- نفس المصدر، ص 11.

10- نفس المصدر، ص 11.

11- نفس المصدر، ص 39.

12- نفس المصدر، ص 40.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم