صحيفة المثقف

د. مجدي إبراهيم: ابن عطاء الله السَّكندري (3)

مجدي ابراهيمكانت النقطة الأولى التي استخلصناها تحديداً للعمر الروحي لا الزمني لدى ابن عطاء الله السَّكندري من وراء المقابلة التي جرت بينه وبين أستاذه أبي العباس المرسي دلالة على حكم الطريق في ذويه؛ إذ سكنت المعرفة قلبه وأصبح من تلك اللحظة العامرة بتجلي فيوضات النور (لحظة المقابلة)؛ هي أن التصوف حالٌ لا يستدعى بمحض التعمُّد والاستجلاب أو بمحض العوز الروحي والتدبير، ولا تكتسب سماته بفعل المقروء أو المكتوب وكفى، ولكنه على الجملة هو من جنس المواهب المُفاضة فيضاً لَدُنيَّاً من عين الجود، وأنه لا يتأتى مطلقاً بالحيلة والطلب والاستدعاء لأنه إرادة الله للعبد أن يجذبه إليه؛ لتصبح هذه الجذبة هي حركة وجد فياضة بالعطاء، ولا شيء في البدء أكثر من هذا.

وبما أن التصوف حالٌ لا يستدعى استدعاءً ولا يُتَصَنَّعُ في طلبه؛ فليس أصدق في وصفه من كونه إرادة الله للعبد من طريق هذا الحال الذي يدق عن الوصف ولا تسعه بالمطلق عبارة تستوعب المواجيد؛ إذْ كان حالاً يشع به الوجدان شوقاً إلى معارف أهل النور.       

أمّا النقطة الثانية: فيما يذكره ابن عطاء الله عن المقابلة التي جرت بينه وبين شيخه أبي العباس المرسي: فهى الصلة الروحية التي سيكون بمقتضاها ابن عطاء من أكابر أولياء هذا الطريق؛ فهناك "سرُّ" بين الشيخ وتلميذه، سرُّ حدث خلاله، تَفْريغ الطاقة الروحية في قلب التلميذ، عن طريق سِرَاية النور من الشيخ إلى التلميذ، وهذه خاصة من خصائص الحياة الروحية لدى الأولياء والعارفين، ينفردون بها ويتميزون: أعني الهداية بالنظرة، والانتماء إلى الطريق بلفتةٍ يَتمُ خلالها التركيز كله بمقتضى التَّوَجُّه الروحي وحده.

وممّا يكشف عن وجود هذا "السر" هو مقام الأدب والتعظيم، الذي وجده ابن عطاء الله السَّكندري من شيخه أبي العباس حين عَاوَدَهُ مرة أخرى؛ فلمَّا دخل عليه بعد الاستئذان، نَهَضَ إليه الشيخ قائماً وتلقاه ببشاشة وإقبال إلى الدرجة التي أدهشته خجلاً؛ فَرَاحَ التلميذ يستصغر نفسه أن يكون أهلاً لهذا "الأدب الروحي" الفريد. لكن لا غَرَابة في قيم العرفان أن تجيء على هذا النحو الفريد، وأن تمتاز بما لا تمتاز به حيوات آخر، أو قيم آخر ليست مجبولة على علوم الاحترام ولا على الأدب والتوقير.

ويطلعنا قيام الشيخ إلى جانب مقام الأدب الفريد، على السر الخفي الذي تُغلِّفُهُ الحياة الروحية برمتها، ويتبطن هو قيام هذه الحياة فيما يدل على أنه لا قيام لهذه الحياة بغير وجود تلك الأسرار فيها؛ هذه الأسرار الروحية هى من الأهمية بمكان بحيث تحفظها لنا نوادرهم العجيبة في ديوان الولاية، وتزكيها قوانين التربية بين المشايخ والمريدين.

قيام الشيخ من مكانه ناهضاً وملاقاته بالبشاشة والقبول ترحاباً بتلميذه هو مـن "السر" الذي يتجاوز مقام الأدب ويعلو عليه. ويمكننا نحن استخلاص الإشارة إلى وجود مثل هذه الأسرار؛ فلنذكر أن ابن عطاء الله فيما تَقَدَّم كان قد شكا إلى شيخه ما كان يجده من هموم وأحزان؛ فَحَدَّثَهُ الشيخ عن أحوال العبد الأربعة التي سبق الحديث عنها؛ فلما ذكرها له قال ابن عطاء؛ فقمتُ من عنده وكأنما الهموم والأحزان ثوباً نزعته؛ ثم سألني بعد ذلك بِمُدَّة: كيف حالك؟

 فقلتُ: أفتش عن الهمِّ فلم أجده، فقال:

لَيْـلِي بِــوَجْهِــكَ مُشْـــرِقٌ          وَظَلامُـه في النَّاسِ سَـارِي

وَالنَّاسُ في سُـدَفِ الظَّلَامِ          وَنَـحْنُ في ضُــــوءِ النَّهَـــارِ

أَلْزَمْ، فو الله لئن لَزَمْتَ لتكوننَّ مُفتياً في المذهبين: في علوم الظاهر، وحقائق الباطن. وقد كان! على أن هذه القطعة من التعبير بأبيات الشعر، تحوي الإشارة إلى "السر" الذي دَفَعَ الأستاذ إلى القيام لتلميذه تعظيماً وقبولاً، ثم سعادته حين يقول له، أَلْزَمْ! فو الله، لئن لزمت لتكوننِّ مفتياً في المذهبين، مذهب الشريعة، ومذهب الحقيقة.

أَلْزَمْ الطريق فإن لك فيه نصيباً من تحقيق العارفين. أَلْزَم! لتكون معنا في ضوء النهار؛ ولتتحول حياتك كلها من سُدَفِ الليل البَهيم إلى إشراق الضوء الساطع بعطايا القبول، أَلْزَم فقد عَرَفْتَ؛ وما دُمْتَ قد عَرَفْتَ فلا عليك إلا أن تلزم، ولئن لَزَمْتَ فقد كان لك ما تريد وأكثر.   

الأولياء يدخلون في الأشياء بمراد الله تعالى، لا بمراد أنفسهم، ويجدون الإذن من الله تعالى لهم بما يشرق في قلوبهم من النور الذي يجعله الله علماً لهم فيما يدخلون في الأشياء به وفيما يخرجون: هم إذن لا يتحركون إلاّ بإذن، ولا ينطقون إلا بإذن، ولا يزار الولي ولا يُجْتَمع به إلا بإذن.

ومن كلام المُربي الأكبر أبي الحسن الشاذلي، طيّب الله ثراه،:" ومعنى الإذن للولي: نورٌ ينبسط على القلب يخلقه الله فيه وعليه؛ فيمتدُّ ذلك النور على الشيء الذي يريده فيدركه نوراً على نور، أو ظلمة تحت ذلك النور، يُنْبئك أن تأخذ إنْ شئت، أو تترك، أو تختار، أو تدبِّر، أو تعطي، أو تمنع، أو تقوم، أو تجلس، أو تسافر، أو تقيم، هذا باب المُباح المأذون فيه بالتخيير". لا حظ هذه الحركة الفياضة بالعطاء خلال فقه المعيّة الإلهية، وتأمل.

فما يكون من ظلمة خلاف ذلك النور، لسنا في حاجة إليه؛ لأنه لا يتفق ولا يتناسب مع مقام الشيخ أبي العباس المرسي؛ وإنما الإذن المراد هنا هو الذي يكون كله نوراً على نور؛ وإلا لما كان إذناً ولا يُفسر بالإذن من الله، أي بما يُشرق في القلب من النور، يجعله الله عَلَمَاً؛ فتعبير الشيخ ـ من ثمَّ ـ بعين تلك الأبيات الشعرية، هو هنا في الواقع تعبيرٌ عن الإذن بقبول هذا التلميذ النجيب؛ والفرح بهذا الإذن وبهذا القبول.

تلك هى عندنا "الإشارة" الكاشفة عن وجود "السر" بين الشيخ والمريد، وإلا فما معنى إنشاد الشيخ في تلك اللحظة هذه الأبيات، ما معناه؟ إلاّ أن يكون المعنى هو الإذن بالقبول ظاهراً أو ما يُشْبهه من أسرار العارفين مع المَعْرُوف؛ إذْ كان الأولياء لا يدخلون في الأشياء بمراد أنفسهم؛ بل بمراد الله تعالى فيهم. ولقد شاء الله لابن عطاء الله السَّكَندري الفقيه أن يكون مقبولاً مأذوناً له في دخول الطريق وفي التَّحَقُّق بأسراره.

النقطة الثالثة: وهى "المحبة"؛ يكشفها خطاب ابن عطاء الله السَّكندري لشيخه: يا سيدي: أنا والله أحبُّك، كما يجلِّها لوقتها، ردُّ الشيخ على التلميذ: أحَبَّكَ الله كما أحببتني؛ وللمحبة ـ كما هو معلوم ـ أكبر الدور وأهمَّه في التصوف؛ فهى روح الحياة الروحية على التعميم، ينبثق منها أريج من الحماسة والعاطفة يجعل الحب هو جوهر هذه الحياة؛ لا بل هى روح الإسلام كما أخبر عنها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حين قال: "إنّ من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى. قالوا: يا رسول الله تخبرنا عنهم مَنْ هُمْ؟

قال: هُمْ قوم تحابوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إنَّ وجوههم لنور وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خَافَ الناس، ولا يحزنون إذا حَزَنَ الناس"؛ فهذه المحبة هنا على وجه التخصيص، تمُثِّل جوهر العلاقة بين ابن عطاء الله السَّكندري الذي أقسم في خطابه لشيخه تعبيراً عن هذا "الحب" وبين أبي العباس المرسي الذي رَدَّ قسم المحبة بالدعاء لتلميذه بأن يحبَّه الله، وهو من المأثورات.

إنّ هذه الرواية التي ذكرها ابن عطاء عن صلته بأستاذه، في كتابه "لطائف المنن"، والتي نقلها عنه كثيرون ممّن كتبوا عن حياته، لتشدد لنا من الفور على أن العلاقة بين الشيخ والمريد، هى هى نفسها العلاقة بين القيم الكبرى حين تتجسد في أشخاص، هذا فضلاً عن كونها هى هى نفسها التعبير المباشر عن التصوف: حالاته وقضاياه المعرفية.

ففي الرواية المذكورة: رواية الصلة بين هذين القطبين، وجدنا ثلاث قيم رئيسية أولها: قيمة التسليم المطلق لحكم الحال، وثانيها: قيمة الأدب المحفوظ بإحاطة الأسرار، وثالثها: قيمة "المحبة"، وما يجري مجراها في عرف أهل التحقيق. وهذه الثلاث قيم هى أركان التصوف الكبرى؛ لأننا إذا حذفنا قيمة التسليم لحكم الحال حذفنا تباعاً أهم الأركان التي يقوم عليها التصوف؛ إذْ الصوفية أصحاب أحوال لا أرباب أقوال. وإذا أسقطنا من اعتبارنا قيمة الأدب المحفوظ بإحاطة الأسرار، أسقطنا جوهر العلاقة القائمة على التربية والترقية بين الشيخ والمريد، وانهارت بذلك الحياة الروحية بانهيار هذه العلاقة فيما لو شئنا عنوة إسقاطها. ومتى تجاوزنا المحبة، ولغطنا هازلين في خصوصيتها ومحوريتها، وصرنا نضرب في ميدان التصوف على أوتار غير وترها، وبقيثارة غير قيثارتها، فقدنا إذْ ذاك لا قيمة واحدة من قيم التصوف؛ بل فقدنا التصوف على الجملة فضلاً عن التفصيل، وألقينا بأركانه الناشطة كلها في المهملات.

التصوف قيمة، وقيمته فيما نحن بصدده من قيم كشفتها لنا رواية ابن عطاء.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم