صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد كمال جعفر وموقفه من التصوف الإسلامي (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن النظرة الصوفية كما جسدها الدكتور كمال جعفر في كتابه " التصوف طريقا وتجربة ومذهبا"، وفي هذا يقول الدكتور جعفر:" إن التصوف البناء يفيض بعناصر أخلاقية تؤمن بفاعليتها علي مستوي الأمة، لا سيما إذا تأكد لنا أن هذه العناصر حصيلة التجربة الصادقة والإخلاص التام . ويجب أن تؤكد مرة أخري أن هذه العناصر إنما  توجد في التصوف الناضج (1)، الذي ينمي أواصر الأفة والمودة ويسعي إلي تماسك المجتمع ووحدته وصموده للعاديات من الزمن، وتفيض كتب التصوف كما يري الدكتور جعفر بالقصص التي تصور في وضوح الروح الصوفية الخالصة،والمفعمة بالتسامح  والود، والرحمة والمشاركة، ويقول الدكتور جعفر: استمع مثلاً إلي قول أبي سليمان الداراني القائل " إني للقم اللقمة أخاً من إخواني، فأجد طعمها في فمي"، ويسأل أحد الصوفية رجلاً عمن حوله فيجيب بأنهم إخوانه، فيسأل الصوفي: هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه، أو كيسه، فيأخذ منه ما يريد ؟ فيقال:لا . فيقول الصوفي: إذهبوا فلستم با إخوان  (2) .

وتبلغ المشاعر الصوفية كما يقول الكاتب ذروتها حتي لتود ان تشارك الناس آلامهم في الآخرة فنسمع هذا القول " إن لله عباداً ودوا لو فدوا المسلمين من الأعراض والأمراض في دار الدنيا، وفي الآخرة من أهوالها وأنكالها، فقيل للقائل: في الدنيا يطيقون ذلك، فكيف لهم في الآخرة، إذ لاقوه لهم علي شئ من ذلك ؟ فيقول علموا أن الله تعالي – عز وجل – بخلقه رحيم، فرحموهم برحمة الله لهم، وعلموا أن الله  تعالي هو المعين علي الدنيا والآخرة، ويريد هذا القائل أن يشير إلي أن المروءة تحظي برضا الله وتوفيقه، ولن يكون المرء أكثر فضلاً أو مروءة من بارئه (3) .

وتنص بعض كتب الصوفية كما يذكر الكاتب علي أن من أخلاقهم إدخال السرور علي غيرهم، والإعراض عن أذاهم، وأن للقبيح عندهم وجوهاً من المعاذير، وليس للحسن عندهم كبير موقع يعظمونك به، أي أنهم  لا يفسدون مكرمتك بالمبالغة فيها، حتي تقع في الزهو والخيلاء فيحبط عملك (4)، وأما فيما يخص ثبات الشخصية وصمودها فيقول الدكتور جعفر:" فنحن نعلم من أقوال الصوفية أنهم لا يرضون بأنصاف الحلول، وقد يفرضون علي أنفسهم عقوبات صارمة إذا تلكأتفي تنفيذ طاعة، أو تراخت في أداء واجب، كما أنهم كانوا مثابة للناس وأمناً إبان الفزع والرعب، فلم يؤثر عن صوفي حق أنه جبن، أو تراخي، أو تزعزت عقيدته، أو دعاه الحرص علي الحياة إلي التخاذل، فمن بعض صفات الصوفي الناضج أنه لو نصب له سنان في أعلي شاهق في الأرض، وهبت له الرياح .. ما حركت منه شعرة واحدة، وقصة الشبلي مع الثوري جد شهيرة، ومفخرة لإيثار الأصدقاء بالروح (5).

وكما امتدح الكاتب ثبات الشخصية الصوفية وتماسكها من أجل وحدة الأمة ورصانة بنيانها، فهو يؤمن أيضا أن الشخصية الصوفية تؤمن بضرورة القضاء علي أسباب الفرقة والاختلاف، وبأن نسترد الخارج عن المصلحة العامة، والمجانب لطريق الحق، إلي اجتماع الأمة والجماعة، وهنا نجده يستشهد بقول الإمام أبي حامد الغزالي الذين يقول بأن من عادة الصوفية إزاء ظاهرة الفرقة تظهر بظهور النفوس، وظهور النفوس من تضييع الوقت، فأي وقت ظهرت نفس الفقير، علموا خروجه من دائرة الجمعية، وحكوا له بتضييع الوقت، وإهمال السياسة، وحسن الرعاية، فيعاد بالمناقشة إلي دائرة الجمعية (6) .

وثمة نقطة جديرة بالإشارة يؤكد عليه الكاتب ألا وهي قوله والذي يقول فيه:"  فلعل القارئ يلاحظ حرارة الدفاع عن التصوف فيظن أن لي قدماً فيه، حيث أكتب من موقف المتحيز، والواقع أنني حين أقدمت علي دراسة التصوف كنت في وضع يسمح لي بالتمتع ببعض الشخصيات الممتازة الذين تفتحت بصيرتهم دون جلبة أو ضجة، فرأيت في هؤلاء ترجمة فطرية للحقائق الثابتة في التصوف، وأعانني ذلك علي تفهم بعض الجوانب التي لم يكن لي أن أهضمها لولا شرف هذه اللقاءات (7).

لقد ضربت هذه الشخصيات أروع الأمثلة وقدمت أبلغ البراهين علي تحقيق المعرفة والإلهام عن طريق الود مع الله وتقواه، ومن استقراء هؤلاء الأعلام كما يقول الكاتب يتضح لنا بما لا يدع للشك أن التصوف ينتمي فعلاً إلي الأشياء الصعبة التي تحدث عنها اليفيلسوف اليهودي النمسوي "أسبينوزا" عندما قال " كان الطريق الذي بينه صعباً جدا، فإنه رغم ذلك ممكن الارتداد والاكتشاف، ومن الواضح أنه يجب أن يكون صعباً، وأن يكون نادراً، وإلا ما تجاهله عملياً معظم الناس مع أنه طريق الخلاص، إن كل الأشياء الممتازة صعبة، كما أنها نادرة" (8)، ولهذا السبب أكد الدكتور جعفر أنه لا يمكن أن يجحد المرء أن التصوف – كتراص إنساني عام – كتراث إنساني عام – صوراً كثيرة منحرفة، ولكن الصوفية الخلص أنفسهم تولوا محاربتها، ورفضها والتنديد بأصحابها (9) .

ويتساءل الكاتب سؤالا مهما: هل استنفد التصوف قدراته، وفقد قوته، أم أن له املاً في المستقبل؟

والإجابة كما يذكر الكاتب ليست سهلة بالمرة كما يزعم الباحثين، فإن هؤلاء يتصفحون تاريخ عدد يقل أو يكثر من الصوفية، ثم ينظرون حولهم فلا يجدون شيئاً مما يتحدث عنه هؤلاء الصوفية فيمن حولهم فيظنون بذلك أن القيم الروحية الكبري آلت فعلا إلي الزوال، ولم يعد لوجودها وزن، ويشبه هذا رأي هؤلاء الذين انتهي حسن ظنهم بالوجود أو بالناس بناء علي ما يلقونه في حياتهم اليومية، حتي لتجد معظمهم يعتقد اعتقادا جازماً بأن الخير قد ولي إلي غير رجعة، ولو حسن عمل هؤلاء وطهرت سرائرهم، لرأوا في الوجود جوانب الخير وطغي، وإلا اختل ميزان الوجود وحدثت الطامة الكبرى (10) .

وإذا كان هناك من الباحثين كما يري الكاتب من تنبأ بتعميم الوجود الصافي بعد قدر كبير من السنين، فإننا ليسنا علي يقين من قوانين التطور ذاتها، سواء كان تطوراً بيولوجياً، أو غير بيولوجي، لأننا لا نملك كما يقول الكاتب أن نستنبط مما هو كائن ما سيكون فعلاً بكل ثقة، وإن كنا قد نملك أن نتنبأ بما قد يكون علي وجه الاحتمال، أي أننا لا يمكننا التنبؤ الصحيح (11) .

وكتاب " التصوف طريقة وتجربة ومذهبا" كما يري الدكتور جعفر في فضلة الأول والذي عنوانه "التصوف" يلمس ثلاثة اتجاهات في تعريفه: الاتجاه الأول: قول بعضهم في تعريف التصوف الإسلامي " التصوف خلق " فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء، أو قول بعضهم " التصوف هو الدخول في شئ سني والخروج من كل خلق دنئ "، لأنه لو كان رسما لأمكن تحصيله بالمجاهدة، ولو كان علما لأمكن تحصيله بالتعلم " هو إذن تخلق بأخلاق الله التي لا يمكن أن نقبل عليها بمجرد العلم أو الرسم، وقد نص الصوفية بالفعل علي مكارم أخلاقية خاصة، رأوا وجوب التحلي بها كما سجلها التاريخ المنصف، ولكن ذلك لا يدعونا إلي اعتبار أن الجانب الأخلاقي هو الممثل الوحيد للتصوف،وإن كان من أهم الجوانب من الناحية العملية الإيجابية (12) .

والاتجاه الثاني كما يري الكاتب هو ذلك الاتجاه الذي يربط التصوف بالزهد والتنسك والعبادة إنما يهتم بالوسيلة الذي قد يتخذها التصوف، وهو يخلط في الواقع بين الزاهد والعابد والمتصوف، وذلك لليبب البسيط، وهو أن الصوفية زهاد ونساك قبل كل شئ .. وهناك محاولة كما يذكر الكاتب للتفريق بين هذه الطوائف الثلاث قدمها الفيلسوف المسلم "ابن سينا" الذي رأي أن الزاهد: هو المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها، والعابد: هو المواظب علي القيام بالعبادات من صلاة وصيام وقيام وغيرها (14)، ويلاحظ الكاتب أن هذا النوع الثالث الذي وصفه ابن سينا " بالعارف" يغلب عليه طابع ابن سينا الإشراقي الفلسفي، ولا يوجد اعتراض من الصوفية علي هذا، إذ يلاحظ الكاتب أن صوفية كثيرين حاولوا جاهدين أن يفرقوا بين زهدهم وطريقتهم وبين زهد وطريقة الفلاسفة، والمهم في تفصيلات ابن سينا هو النتيجة التي وصل إليها وهي اجتماع الزهد والعبادة وحدهما، فكل صوفي زاهد وعابد ضرورة، وليس كل زاهد وعابد صوفيا بالضرورة (15).

أما الاتجاه الثالث الذي يربط بين التصوف وبين المعرفة والمشاهدة ورؤية القلب وانفتاح البصيرة، فهو أكثر الاتجاهات روحية، وأمسها بجانب التجربة النفسية ذاتها، ويعزي الكاتب هذا الاتجاه إلي قول بعض الصوفية عن الصوفي إنه " من صفي قلبه، فأمتلئ قلبه نوراً، ومن دخل في عين اللذة بذكر الله " .. ويلاحظ الكاتب في هذا التعريف الإشارة إلي أن فعل التصفية والتطهير وهبي وليس مكتسباً، كما أن الجزء الأخير من التعريف يشير إلي الحالة النفسية التي يحتل فيها المذكور نطاق الشعور كله، بل ويضرب في أعماق الشعور نفسه، بحيث يكون مصدر حياة روحية، يعجز كل تعبير عن تصوير لذاتها وجمالها، وقد تتطور عملية الذكر من كونها مجرد قول أو نطق إلي حركة دائبة للقلب، مع تركيز مستمر علي الهدف حتي تصير حياة روحية كاملة تتمثل – إما في الغيبة بالمذكور كطرف ثان، أو بالحضور معه علي حساب قوة الشعور وظروف الصوفي، فإن قلت إن هذه حالة وجدانية صدقت، وإن قلت إنها حالة معرفية صدقت أيضاً، لأننا سنعرف أن كل تجربة تستدعي تأملاً وتقييماً خاصاً، وإن قلت إنها حالة سلوك لم تعد الحقيقة، فالجوانب الثلاثة تتعاون في صهر هذه التجربة (16).

وينتهي الكاتب من قراءة الاتجاهات الثلاثة إلي حقيقة هامة وهي أن أغلب التعريفات لا تصور التصوف في ذاته بقدر ما تصور ما يراه الصوفي مثاليا بالنسبة له، سواء وصل هذا الصوفي إلي هذا الصوفي إلي هذا المثال أو لم يصل، ومن أمثلة هذه التعريفات كما يقول الكاتب قول بعضهم إن التصوف " هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به "، أو قولهم " " التصوف صفاء ومشاهدة"، وهو كما يري الكاتب تعريف يتضمن الوسيلة ( الصفاء) والغاية ( المشاهدة) .. ونكتفي بهذا القدر في هذا المقال وللحديث بقية عن موقف الكاتب من التصوف والحضارة (17).

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

1- محمد كمال جعفر: التصوف طريقا وتجربة ومذهبا، دار الكتب الجامعية، القاهرة، 1970، ص 13.

2- نفس المصدر، ص 17

3- نفس المصدر، ص18.

4- نفس المصدر، ص 14.

5- نفس المصدر، ص 18.

6- نفس المصدر، ص 19.

7- نفس المصدر، ص 20.

8- نفس المصدر، ص 20.

9- نفس المصدر، ص 20.

10- نفس المصدر، ص 20.

11- نفس المصدر، ص21.

12- نفس المصدر، ص 29.

13- نفس المصدر، ص 29.

14- نفس المصدر، ص29.

15- نفس المصدر، ص29.

16- نفس المصدر، ص 30.

17- نفس المصدر، ص 31.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم