صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: ابن عطاء الله السَّكندري (4)

مجدي ابراهيمفكرة إسقاط التدبير:

فكرة إسقاط التدبير في مذهب السَّادة الشاذلية على وجه الخصوص، وبالتحديد عند ابن عطاء الله السَّكَنْدَري أول من قام بتنظيرها والدعوة إليها من خلال مؤلفاته؛ وذلك لأنه المذهب الذي يعبر بوضوح لا عن عقائد السَّادة الشَّاذُليَّة وكفى ولكن أيضاً عن اعتقادات شيوخ الصوفية الأُوَّل؛ وبخاصَّة شيوخ التصوف السُّني على وجه التحديد، تركز التركيز الشديد على الجانب العملي كما فَصَّلته الطريقة الشَّاذُليَّة، أعني العبودية كفكرة مُسْتَقاة من عين المضمون الديني الذي ينتسب إليه هؤلاء الأقطاب، وهو الذي قَاَمَ ابن عطاء الله السَّكَندري بشرحه مُفَصَّلاً في كتبه ومصنفاته بحيث لا يستطيع باحث في التصوف أن يتجاوز كتابات ابن عطاء الله السَّكَنْدَري فيما لو أراد الوقوف على فكرة "إسقاط التدبير" على وجه الخصوص، أو محاولة تأصيلها في تراث التصوف السُّني خَاصَّة.

إن صُحْبَة رجال هذه المدرسة ومعرفة آراءهم الصوفية فتحٌ روحيٌ ينقل الباطن من فوره إلى التعلق بالله ويُعْطي القلب زيادات من المعرفة الذوقيّة قَلَّ أن يعطيها صحبة مَنْ دونهم، وبخاصةٍ فيما لو عرفنا أن آثار هذه المدرسة لم تزل باقية إلى يومنا هذا، لم تندثر، ولم تغيض، ولكنها لا زالت تتردد بين الناس لكأنما هى بنت اليوم. ومن الظاهر أنها لن تغيب أبداً في المستقبل لتعلق قلوب الأولياء والعارفين بآثار السّادة الشَّاذُليَّة الرُّوحيَّة والمعرفية؛ ولتخريج جيل بعد جيل لا يزال قادراً على اكتشاف الحق البهيج بانتمائه إلى الشاذلية وتلقي معارفه من معينها الذي لا ينضب ولا يغيض، وتلك فيما يبدو خصوصيّة المدرسة الشَّاذُليَّة على التعميم: تظهر آثارها في الحركة والفعل والسلوك والتعاليم.

هَدَفُنا من وراء الكتابة عن مذهب إسقاط التدبير هو "التأصيل" بحثاً عن جذور الفكرة في التصوف السُّني خَاصَّة، فوق بحثها بالتأكيد في الأصول الإسلامية كتاباً وسنة؛ وإنه لهدف يأخذنا مباشرة إلى نسبة فكرة إسقاط التدبير فيما لو قمنا بتأصيل الفكرة في التصوف السُّني، إلى تصوف الجنيد بن محمد البغدادي (ت 297 هـ) والغزالي (ت 505 هـ) من بعده، على ما سنرى في المقالات القادمة، ولعَلَّ هذا الهدف هو الذي جعلنا نكتب فكرة إسقاط التدبير عند ابن عطاء الله جديدة غير مسبوقة مؤصلةً في أصولها التأسيسيّة، عَسَانَا نرى نقاط التشابه والالتقاء بين تصوف الجنيد والغزالي من جهة، وتصوف السَّادَة الشاذلية ممثلاً في هذا المذهب، وهى بالطبع نقاط تظهر للدارس في إطار التصوف المقارن من الوهلة الأولى وتذاق ذَوْقَاً من خلاصة تجارب المحققين.

ويُضَاف إلى هذه النقاط المتشابهة التي سنتوقف عندها، فعل التجربة الصوفية الخَاصَّة بكل متصوف على حِدة، فليس معنى قولنا أن هنالك تأثراً بين سابق ولاحق أن الأول أخذ عن الثاني أخذاً مباشراً غاضين الطرف عن التجربة الصوفية الخَاصَّة بمعاناة صاحبها: بأذواقه ومواجيده؛ فهذا ما ليس يُقال مُطلقاً في حقل التصوف المعرفي ولكنه يُقال في حقل المباحث الفلسفية النظرية؛ لأن تجارب الروح غير مباحث العقل: تجارب الروح معايشة حال في إطار تبعية العقل للشرع، ومباحث العقل انفصال "الحالة" عن "الفكرة" في إطار خضوع الشرع لحكم العقل. الأول: كما ترى هو التصوف في خلوصه عن النظر المجرد من العمل. والثاني: نظر مجرد يكاد ينقصه العمل.

وما يُقالُ في تجارب الصوفية ليس يُقال في أنظار الفلاسفة؛ ولأن مبدأ التأثير والتأثر في ميدان الفلسفة والنظر العقلي أقوى وأظهر منه في مجال التصوف. التصوف بلا شك "تجربة" وليس دعوى يجوز في حقها الصدق أو الكذب. تعطي التجربة ممَّا عندها على دَيْدَنِ الصدق وبصيرة الإخلاص وصولاً إلى الحقيقة. أما الدعوى؛ فحجاب.

المذهب والطريقة:

تكمن حقيقة التصوف عند الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الجُذامي، الشاذلي، أبي الفضل تاج الدين الشهير بابن عطاء الله السَّكَنْدَري، المتوفى سنة (709 هــ - 1309م) في إسقاط التدبير مع الله وترك الاختيار، وهما بالطبع جوهر فكرة العبودية مُحَقَّقةً في قلوب العارفين لا لشيء إلا للثقة المطلقة في اختيار الله للعبد وللتحقق المطلق بأدب العبودية في إطار هذا الاختيار الإلهي، وهو مذهب السَّاَدَة الشاذلية كما قلنا على وجه الخصوص، لكنه مع ذلك هو مذهب التصوف السُّني عامة في خصوصيته المعرفية وعطائه الرُّوحاني، وإنْ لم تكن الإشارة فيه واضحة بمقدار ما فصَّلتها المدرسة الشَّاذُليَّة وتلاميذها فيما بعد، ثم طبعته بطابعها الخاص ومنهلها العذب.

صحيحٌ أنه المذهب الذي تبلورت حوله تعاليم المدرسة الشَّاذُليَّة لدرجة أن ابن عطاء عَنْوَنَ كتابه "التنوير في إسقاط التدبير"؛ ليجيء علامة على هذا المذهب، ولكن من الصحيح أيضاً أنه لم يكن بالمذهب الذي أنفرد به ابن عطاء أو انفردت به المدرسة الشاذلية فقط؛ لأنه فيما نرى هو مذهب المحققين جميعاً من أكابر شيوخ السَّادَة الصوفية وبخاصة الجنيد والمكي والغزالي وغير هؤلاء من أقطاب التصوف السُّني على التخصيص.

العبودية والحرية:

وابن عطاء الله السَّكَنْدري أستاذٌ كبير في المدرسة الشاذلية، ريحانة هذه المدرسة غير منازَع، هو الرجل الثالث بعد الإمامين أبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي، إليه يَرجع الفضل؛ كل الفضل, في نشر المذهب الصوفي لهذه المدرسة بما كتبه من مصنفات لها أثرها وأهميتها في تراثنا الروحي وثقافتنا الإسلامية على التعميم.

مجملُ الفكرة العطائية في إسقاط التدبير يُلَخِّصَها أستاذه الأول الإمام أبو الحسن الشاذلي:"الأخذ من الله، وعن الله، والقول بالله، والعمل لله وبالله، على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة"؛ فلئن كان تصوف الشاذلي، والمرسى، وابن عطاء الله، سُنّي الاتجاه ينفذ إلى أعماق القلوب ليغسلها بماء الحقيقة ويدعو إلى السلوك المربوط بالعلم من طريق الميراث النبوي؛ فمن المؤكد كما قرَّروا إن مَنْ لم يكن لعلمه وعمله ميراثٌ فهو محجوب بدنيا أو معروف بدعوى. ومَنْ لمْ يَزْدَد بعلمه وعمله افتقاراً لربِّه وتواضعاً لخلقه فهو هالك. وسبيل الوصول إلى هذا، ليس سهلاً بالمرة ولكنه يحتاج إلى جهد مبذول للتحقيق.

رجالُ المدرسة الشاذلية في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم لا يدبِّرون ولا يختارون، ولا يريدون ولا يتفكَّرون، ولا ينظرون ولا ينطقون، ولا يبطشون ولا يمشون، ولا يسكنون ولا يتحركون إلاَّ بالله ولله وفي الله وعلى الله. هَجَمَتْ على قلوبهم عنوة حقيقة العبودية فأسقطوا معها التدبير من أجل شهود المعبود المُدَبِّر، ورأوا فيها العزة كل العزة، فكرة وممارسة؛ فــ "لله العزة ولرسوله والمؤمنين"؛ فصارت عزة المؤمن أن يمنعه الله التَّعَبُّد للنفس والهوى والشيطان والدنيا، أو لشيء من المكوَّنات في الغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، وأن يكون عبداً عزيزاً لله لا لسواه.

وجدوا الشرف كل الشرف في العبودية صفةً أصيلةً تتولاها بالرعاية والعناية ربُوبيَّة؛ فالعبودية تصير إذْ ذَاَكَ مع شدة التعلق هى هى "الحرية" من العلائق والأغيار، الحرية من كل ما سوى الله؛ هى الشرف الذي لا شرف بعده لديهم، ولا تشريف في غيره بوجه من الوجوه. هؤلاء الذين شَرَّفوهم الله بالفهم عنه، قد بلغ بهم مراقي الشرف أن أعلنوا في الباطن قبل الظاهر إسقاط التدبير مع الله؛ ليكونوا عبيداً أحراراً في معيَّته لا في معيّة سواه، وذلك لأن الإرادة الإنسانية التي لا تعرف الاستعانة بالله لهى إرادة مشلولة عاجزة لا تدرك إلاّ العجز، أو ما يشبه العجز من صنوف الإدراكات، ولا تحصِّل في النهاية على الجملة سوى الأوهام.

لكنَّما الدعوى العريضة هى التي تَلَّفها زاعمة لها أن في مقدورها أن تفعل خارج حدود الإرادة الإلهية، وأن تختار ما ليس موضوعاً للاختيار لها جلباً للمنافع ودرئاً للأضرار. ولو أمكن للمريد أن يَسْتَنَ لنفسه فعلاً بعينه لفعل جميع ما يريده دون أن يستعين بقوة مُعيَّنة، ويجد فيما بعد أن الشَّلل يحيطه في قواه وفي مراده على السواء.

ليس في مقدور الطاقة البشرية أن تستقل عن "الإرادة الإلهية" قيد أنملة إلاّ بالدعوى العريضة أو بفجاجة الأوهام. إنها لتتصور بالإمكان أن تفعل، أو أن تريد، أو أن تختار، دون الرجوع إلى قوة خارجية، ومن ثمَّ فلا حاجة لها إلى الاستعانة بهذه القوة فيما لو اعتمدت على ذاتها، ولو أنصفت لعلمت أن هذه القوة التي تسميها "خارجية" هى في الداخل وفي الباطن وفي الضمير. هى ليست قوة خارجية؛ بل باطنة فينا مع الأعماق.

إنَّ الله ليس خارجنا بل هو داخلنا مبطونٌ مع أرواحنا. كل إنسان يحمل من الله تعالى جزءاً حَيَويَّاً: روحه التي بين جنبيْه، النفخة الإلهية التي تجثم عليها طينته الترابيَّة فلا يعُد يرى معها من نفسه إلاّ الحاجة تفرضها عليه الطبيعة الترابية، وتلزمه بفروضها في كل حال، وما سواها لكأنه العدم؛ لكأنه السَّرَاب الذي لا يُمْسِكُه مستطاع الخيال!

أفٍ لمتاهات الأوهام فينا ولدعوانا بأنَّا قُدَرَاء! إن البشر جميعاً أبناء فناء، إنهم لو اقتدروا على الوجود لأبقوا من أنفسهم إرادة البقاء، لكنهم أهل دعوى فجة وَوَهْم عَريض.

الإرادة بين الواقع والتصور:

عند هذه النقطة تنقلب الإرادة من "فعل" إلى "تصور"؛ فتصبح هى التصور الذي يأتي كما لو كان يعطي للفرد كيانه واستقلاله: مُجَرَّد تصور لا يمس الواقع في شيء؛ لكأنما الذي "يريد" وكفى يتصور فقط أنه صاحب إرادة، لكن هذه الإرادة في المطلق تنأى عن التحقيق؛ لأنها لو كانت متحققة بالفعل لأعطت التصور حقه من العناية والإمضاء؛ ولتقررت فيه أولاً وأمْلَتْ من ثمَّ ضرورتها على الواقع الفعلي بكل ما فيه، ومن فيه، وهذا ما يكذبه الواقع لا لشيء إلا لأنه لا يتحقق! الإرادة تصبح هنا هى "التصور" الذي يأتي كما لو كان يعطي للفردية كيانها واستقلالها. إنّ نظرةً فاحصةً إلى منطق التاريخ نفسه لتعطينا التصور عن عجز "الإرادة" ومحدوديتها، حتى ليتلاشى بجوارها سائر قوى الإنسان فيما لو لم يكن يؤمن بعناية الله؛ فالتاريخ فيه الجبرية الصارمة القاهرة تسير على سنن القصد الحكيم ولا تسمح بفوضى ولا بعبث، وفيه كذلك حتمية المسيرة التي يفرضها على الأشخاص والأحداث وفق قوة إلهية وحكمة مرسومة وتقدير سابق؛ وإنّ المرء ليبدو من خلال هذا كله مُنفذاً لحركة التاريخ الحتمية ليس إلا، وإنه من هاهنا ليعطي صورة للوجود على الإدراك الذي يعطيه التصور لمجرد عجز الإرادة. فوجود الإنسان محدود، وعمره المحدود هذا يؤكد تلك الحتمية بما يتنافى ومطلق الإرادة المحدودة، وإنه إذا لم يكن يؤمن بهذه الحتمية فإن المقابل هو الإيمان بالعبث وبالفوضى؛ فكما أننا نؤمن بقدرة الله في الطبيعة؛ فمن باب أولى أن نؤمن بعنايته للإنسان في مسار التاريخ.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم