صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد كمال جعفر وموقفه من التصوف الإسلامي (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن النظرة الصوفية كما جسدها الدكتور كمال جعفر في كتابه " التصوف طريقا وتجربة ومذهبا"، وهنا نركز علي موقفه من التصوف والحضارة، وفي هذا يقول الدكتور جعفر:" يري بعض الباحثين أن ذيوع التصوف يتبع مباشرة تدهور الحضارات المتطورة في آخر مراحلها. ويري أنه في مثل هذه الأوقات – كما كان في الهند القديمة، وفي العالم الروماني والإغريقي، وفي القرون الوسطي في ألمانيا، وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر في فرنسا – في مثل هذه الأوقات تخبو الرغبة الصحيحة في الحياة لدي بعض الموهوبين ذوي العقول النبيلة والمشاعر المرهفة، وينقطع الرجاء في حياة مستقبلة ممتعة، وتنهدم القيم الملوسة والأهداف والأعباء التي تفرضها الحياة (1).

والذي يفهم من هذا الرأي ببساطة كما يري الكاتب هو أن نضج التصوف وتطوره يصاحب دائماً تدهور الحضارة، أي أنه لا يمكن أن تكون هناك حضارة متقدمة وزاهية يصاحبها تصوف ناضج مكتمل.. وقد يضيف مثل هذا الباحث إلي ذلك تعليلاً عقلياً يحسبه مرضياً، وهو أن الرجل التقي الورع بما أنه غير راض عن العالم وعظمته وبهجته، يشعر بأنه غريب علي هذه الأرض، وبأنه مشدود إلي بدنه، الذي يعتبره سجناً وقبراً، ومن ثم تهفو هذه النفس السجينة إلي التخلص والحرية، لتحلق في الآفاق السماوية التي منها أتت. ويري هذا التقي أن الوسيلة إلي ذلك هذه النفس من شباك هذا العالم الخارجي والانطلاق أو الانسحاب داخليا إلي باطن أعماق النفس (2).

ويلاحظ الكاتب أن الباحث يناقض نفسه في مواضع كثيرة من كتبه؛ لأنه يري في مكان آخر أن حركة التصوف ليست إلا ثمرة لرد فعل مضاد لحركة التقدم الحضاري والانغماس في ملذات الحياة وترفها؛ أي أن حركة التصوف قد تصاحب الحضارة والانغماس في ملذات الحياة وترفها؛ أي أن حركة التصوف قد تصاحب الحضارة في عنفوان شبابها. ويرجع هذا التناقض فيما تعتقد إلي غموض مفهوم كلمة الحضارة في هذا المضمار. فمقاييسنا المثالية لا يمكن أن تعد تهافت الإنسان علي إشباع نزواته وشهواته الميسرة في مجتمع ما، مقياسا صحيحا للتقدم الحضاري لهذا المجتمع؛ وإن تحدت شواهد العمران والتقدم املادي عيوننا، لأننا نري الحضارة بمعناها الكامل كلا لا يتجزأ، فيه تنعكس عقلية الإنسان وقلبه وإرادته؛ أي أن أهم الوظائف الرئيسية للإنسان تكون ممثلة فيه أروع تمثيل فكر، وشوعر، وإرادة مترجمة إلي واقع يفرض نفسه علي الحياة. ولا بد لكي تنال الحضارة تقدير التاريخ أن تتوازن هذه القوي الثلاثة في التمثيل فلا تطغي واحدة منها علي الأخرى، فالأمة التي يسمو فكرها ويتأجج شعورها دون أن تكون هناك إرادة وعزيمة لتغيير الحياة فيها، وهي أمة حالمة تقتات المني وترضع الأوهام، والأمة التي تندفع بشعور لا يرشده ولا ينيره فكر، وهي أمة تتخبط في الظلمات سرعان ما تهوي (3).

وإذا عرفنا ذلك فلنا كما يقول الكاتب أن نسأل هذا السؤال: ماذا يقصد هذا الباحث بلفظ الحضارة؟.. وماذا يقصد بانحطاط هذه الحضارة؟

إن وصفه للساخطين علي هذه الحضارة كما يري الكاتب بأنهم ذوو عقول نبيلة، وبأنهم ذوو عقول نبيلة، وبأنهم موهوبون أتقياء، قد يفهم منه السبب في هذا السخط، وهو انحطاط المستوي الأخلاقي أو الروحي في الأمة التي يعيشون فيها، وتلك وظيفة سامية يجب علي الموهوبين القيام بها – أما الجانب السلبي الذي نلحظه في بعض هؤلاء الموهوبين فإن بعضه يرجع إلي غلبة ظاهرة الانحطاط الذي يستعصي مقاومته ومن قم يتمسك هؤلاء بإصلاح أنفسهم ومن يستطيعون التأثير فيه. وهذا قصاري ما يطمع فيه مصلح يري استحالة بث تعاليمه أو نشر فكر علي صعيد المجتمع ككل. وقد يكون هذا الاتجاه الانطوائي لفترة استرجاع واستعراض وتهيئة واستعداد يعقبها العودة إلي المجتمع بعد تسليح هذا الفرد بأسلحته الروحية التي أكسبه إياها تأمله وتدريبه. ولا يمكن إنكار أن الاتجاه الصوفي إن هو إلا استعداد وموهبة فردية قد تعطي لإنسان غارق في أحضان الترف أو البذخ بل الملك والأبهة. ويحوي التاريخ قصصاً لأفراد تركوا ملكهم وانسلخوا من ثرواتهم ليعشوا عيشة الشظف والتقشف. وقد أدخلهم التاريخ وأضفي عيليهم من الخلود ما لم يكونوا يحلمون به لو أنهم احتفظوا بثرواتهم وعروشهم (4).

علي أننا الكاتب – فيما يمس حضارتنا الإسلامية التي بلغت أوجهها في القرنين – الثالث والرابع الهجري – التاسع والعاشر الميلاديين) – أن نضج التصوف وتطوره وبلوغه مرحلة تدنو إلي الكمال يمكن ملاحظته من خلال هذه الفترة أيضا. إن الحضارة الإسلامية سارت في تطورها جنباً إلي جنب مع تطور التصوف ونضجه. كما أن خطوات التدرج التي خطتها العلوم حتي دونت واكتملت تجد نظيرها في مجال التصوف. وقد أثر لبعض أعلام التصوف مواقف حازمة وحاسمة فيما يتصل بالسلطان ونصحه ولومه وتقريعه لانحرافه. وفي أشد الأزمات الاجتماعية والروحية كان الصوفية الخلص – كغيرهم من صادقي العباد والفقهاء – الراحة الخضراء والساحة الرحبة التي يلقي فيها الشعب بهمومه وينفس فيها عن آلامه ويعبر عن آماله (5).

ويستطرد الكاتب فيقول:" ولا يصرفنا اندساس بعض الناس الذين وسمهم التاريخ بأنهم متصوفة في صفوف هؤلاء الصفوة، فكل طائفة عوارها وبلاؤها. ولم يبتل الصوفية في طوال التاريخ وعرضه بآلم ولا أشد من أنفسهم مع بعضهم البعض، ومن الانحراف في الأهداف والوسائل لدي كل من محبيهم وخصومهم. ومما لا شك فيه أنهم أثاروا حركة نقد واسعة، حدث كثيرا إلي تصحيح بعض الأوضاع، ويحتفظ لنا التاريخ بنماذج طيبة لهذا النقد " (6).

ويوجد تراث فكري كما يري الكاتب رائع أنتجه التصوف في مثل البوذية وتصوف القرون الوسطي وأعلام التصوف الإسلامي، كما أن بعض الفنون استمدت وعيها من التصوف، إلي جانب ذلك فإن الصوفية قد أنتجوا في عالم الأدب والشعر إنتاجا غزيزا جدير بالإعجاب، متحليا بقيمة جمالية مدهشة (7).

إن الشعر الصوفي الإسلامي في إيران ومصر كما يري الكاتب ينتزع إعجاب الناقد، ولا يقبل عن ذلك الشعر الديني للبوذيين، ولقد خاض الصوفية وشاركوا في كثير من معارف مجتمعهم، وبرهنوا علي رحابة الأفق في تبنيهم لكثير من الأنماط المتباينة، وإن عدد الصوفية الذين يمكن اعتبارهم بين أعاظم الفلاسفة ليس قليلا جدا إلي حد يجوز لنا القول بأن التصوف مجدب أو عدو للحضارة (8).

إن التحليلات النفسية الدقيقة والملاحظات الواعية كما يري الكاتب لنوازع ورغبات النفس وطريقة سلوكها المتنوعة وتشابك أوجه نشاطها قد ظفرت من صوفية الإسلام والصوفية الهنود والمسيحيين بعناية فائقة، ونتائجهم التي وصوا إليها تستحق الإعجاب، حيث تتنبأ بنظريات وحلول نحن ما زلنا الآن في سبيل اكتشافها أو البرهنة عليها وفحصها وتحليلها. وربما كان أقرب عالم نفس تتشابه آراؤه مع بعض الآراء الإسلامية لبعض الصوفية هو عالم النفس الشهير " يونج" خصوصا فيما يتصل بما يسميه " اللاشعور الكلي " الذي أطلق عليه الصوفية " جمهور القلب" أو سويدائه وكليته." ويسجل التاريخ لبعض الصوفية المسلمين مواقف لا تنقصها الشجاعة إزاء نصح الحاكم ورده عن ظلمه في عزة مدهشة قل أن توجد في مثل هذا العصر. وكان اتصال أغلب الصوفية بالقاعدة الشعبية أوثق منه بالقمة، فكانوا أعرف الناس بآلام وآمال الناس وأدي بعضهم دوره الاشتراكي الإنساني في مجال المواساة والإسعاف والإنصاف والإرشاد، ولم يقبع ويجحم إلا المتصوف ذو المزاج المريض. أما عدم اشتراكهم في المجال السياسي الرسمي – وهذا فيما يخص المسلمين – فيجيب التاريخ عنه إجابة، حيث كان الفساد فرشاً ووطاء للحكم في هذا العهد الذي التمس فيه كل إنسان التقرب من السلطان، طمعا فيما بين يديه، أو اتقاء لشره (9).

ولم ينج " أبو بكر الشبلي " كما يري الكاتب من نقد الصوفية المر لتقبله منصبا حكوميا،ولا هروبا من أداء مسؤولية، ولكن هروبا من القسر علي تنفيذ أوامر يحدوها الظلم والعدوان والتجبر. وقد جلس عبد الله بن مشرف – وزير هارون الرشيد – يوما بين يديه وقال له: يا أمير المؤمنين، لو استغاث بك رجل في رد عبد هرب إليك، أما كنت ترده إليه ؟ قال بلي؛ قال: فأنا عبد قد فررت من خدمة سيدي، فاتركني له، فقد أردت الرجوع إليه، فبكي الرشيد ومن حضره، وقد هذا رجل قد نجا من بيتنا ونحن جلوس ننظر إليه، ثم خلي سبيله فخرج من وقته محرماً "، وقصة سهل بن عبد الله التستري مع الحاكم ابن الصفار جد مشهورة (10).

ويستطرد الكاتب قائلا: لقد أصال هذا الحاكم داء واستدعي سهل لمعالجته،فرفض حتي يرد كل مظلمة، ولما عالجه عرض عليه الحاكم مالا وثيابا، فردهما ولم يقبلهما، علي أنه يجب ألا يغيب عن الأذهان أن صراعا حدث فعلا بين وجهتي نظر عرضهما الصوفية بكل أمانة. وتشكل وجهتا النظر هذه عن السؤال: أيهما خير ؟ أن تتقلد منصبا تحسن أداءه – سواء كان ذلك وعظا أو حجابة، أو كتابة، أو ولاية، أو قيادة، أم تربأ بنفسك عن أن تكون أداة ظلم وأضحية شهوة؟

أخذ الصراع بين وجهتي النظر هاتين يشتد ولكل وجهة وجاهتها كما يري الكاتب، وإذا كان من الصحيح أن أغلب الصوفية كان في صف وجهة التنحي عن مثل هذه المناصب في حين قبلها بعض الفقهاء الذين لم يسلموا من نقد الصوفية أنه موجه للطريقة والظروف التي يعمل في ضوئها من قبل هذا المنصب. إذ نسمع أحدهم مثلا يقول لفقيه: تسع الناس يغتابون فلانا لدي السلطان، فتكست وتنكص عن أداء رسالتك، فهل وعظته وأمرت المغتاب بالكف عن أداء رسالتك، فهلا وعظته وأمرت المغتاب بالكف؟ تأكل دينك بدنياك؟ ولكنك خشيت غضب الحاكم ولم تخش غضب الله (11).

علي أن بعض الفقهاء المتورعين كما يذكر الكاتب ربما شاركوا في الاتجاه إلي رفض مثل هذه المناصب؛ فلكي حكي أن أبا حنيفة، وسفيان الثوري، وشريكا دخلوا علي أبي جعفر المنصور، فأردا أبو جعفر أن يولي سفيان الصرة، وأن يولي شريكا الكوفة، وان يولي أبا حنيفة بغداد. أما شريك فتسلم ما وليه، وأما سفيان فهرب من وجه الحاكم، وأما أبو حنيفة فتمسك بالرفض حتي لتذكر بعض الروايات أنه جلد في نفسه حتي مات (12).

وفي ختام هذه القراءة يمكننا القول بأن هذا الكتاب غنيّ بالأفكار والتفصيلات والتوضيحات حول شتى جوانب مسألة التصوف طريقا وتجربة ومذهبا، وتكمن أهمية الكتاب في تناوله لمسألة “التصوف النقي الخالص” من الجوانب الفلسفية والتاريخية والاجتماعية والنفسية، والمؤلف لا يكتفي بالطرح والمناقشة النظرية لهذه المسألة، وإنما يسقطها على الواقع، ويتبيّن ذلك من خلال إيراده للعديد من الأحداث والوقائع والمجريات القديمة والمعاصرة، وهناك سلبية نذكرها: وهي عدم تطرّق المؤلف إلى “التصوف في الخطاب الفكري العربي المعاصر” ذلك أنه بالرغم من عدم وجود مؤلفات كثيرة في هذا الصدد ولكن توجد كتابات معاصرة تتناول التصوف وتجربته النقية عبر دراسات وأبحاث منشورة في الصحف والدوريات العربية.

وإذا ما جئنا لنكشف ما تميز به الدكتور محمد كمال جعفر من علم وافر وثقافة واسعة، وجدنا صيته في هذين المجالين يتجاوز نطاق العالم العربي والإسلامي إلي ما هو أوسع وأرحب. ولعل الذي أعان علي انتشار صيته وازدياد شهرته، ومعرفته المتنامية باللغات الأجنبية الحية من انجليزية، وفرنسية، وألمانية وغيرهم. وغني عن البيان أن هذه اللغات، التي كان يعرفها الدكتور محمد كمال جعفر، لها شأن كبير في تشكيل تيارات الفكر والثقافة في عصرنا الحاضر. ناهيك عن أنه كان ضليعاً بلغته العربية – لغة القرآن الكريم – وعارفاً بالمصطلحات الفلسفية اليونانية واللاتينية.

تحية طيبة لأستاذنا الدكتور محمد كمال جعفر الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

1- محمد كمال جعفر: التصوف طريقا وتجربة ومذهبا، دار الكتب الجامعية، القاهرة، 1970، ص 29.

2- نفس المصدر، ص 30.

3- نفس المصدر، ص30

4- نفس المصدر، ص31.

5- نفس المصدر، ص31.

6- نفس المصدر، ص32.

7- نفس المصدر، ص 32.

8- نفس المصدر، ص32.

9- نفس المصدر، ص33.

10- نفس المصدر، ص33.

11- نفس المصدر، ص34.

12- نفس المصدر، ص 35.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم