صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: نقائض العبودية

مجدي ابراهيمهنالك أمران ظاهران ينقضان فكرة العبودية لله الواحد؛ المطلب الذي كان مدعاة للقول بإسقاط التدبير فكرة علوية كما وردت تنويراً في تصوف ابن عطاء الله السّكندري: الأمر الأول: الغفلة الواصبة التي سمّاها ابن عربي فيما تقدّم بهذيان العالم. والأمر الثاني: الجهل بتفعيل التوحيد بما عساه يجعل من الوهم المحقق لا المعرفة الحقيقية نقضاً للعبودية. ولنقف عند هذه الملاحظة (الوهم الحقيقي لا المعرفة الحقيقية) وقفة يَتَبَيَّنُ لنا من خلالها كيف يتغشى الوهم ثقافتنا العربية ليعطل بمنجزاته عقيدة التوحيد؛ فإنّ الوصول إلى الوهم المحقق لا المعرفة الحقيقية لهو الأمر الثاني الذي ينقض فكرة العبودية من أساسها كما تظهر عند غير العارف.

أليست تشير معاجم اللغة إلى أن أصل "الوهم" هو التُّهَمة. والتهمة: وهو تَوَهّم الإنسان أن أخاه قد أساء إليه أو تجاوز حَدَّاً من الحدود، وأصلها الوُهَمة.

وعلى ذلك؛ يصبح الوهم تهمة ووهمة؛ فكل موهوم متهوم، وكل متهوم متوهم أو موهوم. وثقافتنا العربية على هذا الأصل متهومة عندنا؛ لأنها مؤسسة على الوهم مستندة على تصورات هى في الغالب قائمة على الوُهمَة. آفة الثقافة العربية؛ إذا هى لم تستطع أن تفعِّل "عقيدة التوحيد" على صعيد التذوق والتبْصرة أو على المستوى العقلي والفكري والثقافي، وأن تصل من النزوع إلى الفصل والمباعدة، إلى الانخراط في وجوب الوحدة بحيث تقرن الأشباه والأضداد وتربطها بعضها مع البعض الآخر بما يجعل منها وحدة توحيدية واحدة في غير تنافر تفرضه شكلية الأداء أو تناقض يجيزه منطق المحسوس.

أقول؛ إنّ آفة الثقافة العربية إذا لم تقتدر أن تجعل من التوحيد غايتها ومطلبها؛ فهى لا شك تنطلق في أغلب أحوالها وتعدد مواقفها من وهم، وتعود على وهم، وتتصور الحقائق على الجملة فضلاً عن التفصيل بفاعلية الوهم المعشعش في أدمغة منتجيها؛ ومنتجو الثقافة لا يبلغون من الحقائق المجرّدة مبلغهم من العلم بفاعلية الوهم أبداً، وإنما يبلغونها بالتَّجَرُّد وببذل النفس طواعية في سبيلها.

لكننا محكومون في أفكارنا وآرائنا وأحكامنا ومنطلقاتنا الفكرية والشعورية بالهوى لا بالعقل المروض على التفكير البصير.

ومن شأن حكم الهوى أن يُملي علينا خيوطاً متشابكة ومختلطة بخليط عجيب من "الوهم"، ويظل الوهم يلفنا لفاً لا فكاك لنا من خيوطه الكثيفة المتشابكة، حتى ليملأ صدونا بالتضخم، وعقولنا بالاعتقاد التقليدي المنبوذ، وذواتنا بالفراغ والسطحية، وسلوكنا بالتصرف الرزيل المشين؛ فيبدو كل ما نقوله أو نفعله إلى الوهم المتفشي في أعماقنا أقرب وأدنى من بلوغنا للحقائق التي يسبقها جهادُ للنفس شريف.

ومتى تغلغل الوهم في أفكارنا ومعتقداتنا؛ مضينا مع "الهوى" إلى غايته، فيسوقنا الهوى إلى ضروب متشابكة لا شك فيها من الأنانية وحب الذات وتضخم "الأنا"، وإلى كثير من الصفات التي يغلب عليها حكمه فينا، ولا يغلب عليها فينا حكم العقل المقيد بضبط الأهواء ومجاهدة الآفات؛ وبلوغ الحقائق من ثمَّ بمقتضى هذا الجهاد لا بفاعلية الهوى الذي يتحكم فينا تماماً كما تتحكم فينا العادات والمألوفات والمرذولات تحكم الأغلال تَغلُّنَا عن الحركة، وعن الحرية، وعن الاعتقاد الحر النزيه عن الأغراض (والغرض مرض كما يقول العارفون): اعتقاد التوحيد، وفهم التوحيد، وإدراك التوحيد، وتصحيح التوحيد، وتفعيل التوحيد في حياتنا الباطنة قبل الظاهر منها لبصر الشاهد العيان.

هذا الاعتقاد الذي يعلو متسامياً عن كل عقيدة مقيدة بقيود الوهم بلا هداية يرومها قصد السبيل هو نفسه الاعتقاد الذي تصبو إليه تجارب العارفين وتتذوقه وتمضيه فيه؛ ليكون تجربة حياة ليست قاصرة على الأشكال الخارجية والمظاهر البرانيّة؛ بل حياة جُوَّانيَّة باطنة يتحقق فيها تفعيل التوحيد؛ ليتحوّل من بعدُ إلى حياة روحيّة خالصة.

فنحن ـ والله ـ واهمون في أقوالنا وأحكامنا وثقافتنا وعقائدنا؛ لأننا محكومون فيها بالهوى، مُسيَّرون فيها بالأنانية وحبّ الذات، ناشطون النشاط كله في بلوغ الأهواء منا مبلغ العقائد الثابتة، ونحن  ـ  في ثباتها وتحققها في الحق ـ واهمون. فأي غربة غريبة تستشعرها الذات العربية أغربُ من كونها تنمي قدراتها على "الوهم" وتُرْبي إرادتها على الزيف، وتصل في النهاية إلى الأمور التي تريد أن تصل إليها من طريق "الوهم" لا من طريق "الحقيقة" وتنطلق بادئ ذي بدء من حُكْم "الهوى" لا حكم "الإرادة العاقلة"؟

ثم ماذا؟ فإذا بذواتنا العربية تتشتت وتتفرَّق حيث لا يجمعها رابط من التوحيد وطيد. ما معنى أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكرياً وثقافياً ومعنوياً وروحياً؛ ليكون هو عينه مجرى التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي؟ أقولُ؛ إنّ افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد، لم يتمكن في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري لأن يجري عليه ممارسته العملية والواقعية؛ فأضحى تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعلمي في كفة أخرى، فجاءت عقليته عقلية فصلُ ومباعدة لا ربط فيها ولا توحد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها.

لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم: ماذا عَسَاهَا تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاهَا كانت تكون فطرة الوحدانية؟ لكأنه لم يستطع بعدُ ـ لأجل تدينه الساذج البسيط ـ أن يكوِّن لديه "رؤية موحَّدة"؛ يجريها على الواقع الفكري والنظري تماماً كما يجريها على الواقع الفعلي والتطبيقي كما هى مقررة قبلاً في الواقع الديني بالفعل؛ إذْ إن فكرة "الرؤية الموحدة" تلك إنما هى فكرة دينية بالأساس مصدرها الدين لا الفلسفة؛ فلو صحَّ أنها فكرة كان الفلاسفة قد طرقوها على  الدوام ونادوا بها أو قصدوها فيما نادوا فهى مُستلهمة سلفاً من الدين، وليس للعقل الفلسفي فضلٌ فيها إلا فضل الشرح والتحليل.

من ذلك ترى؛ أن التوحيد الفطري في سليقة العربي لم يكن عائقاً أبداً لديه عن إجراء البحوث النظرية والفكرية، أو الوصول بمقتضاه إلى قوانين عامة وقضايا كلية؛ لأن هذه وتلك هى من مقررات الفهم الصحيح للتوحيد المفطور عليه المسلم في طبعه العربي.

إنما العائق الوحيد أمام العقل العربي يبدو ظاهراً جليّاً في قلة الفهم أو عدمه لفطرة التوحيد، وتعطيل فاعلية الوحدة على صعيد الممارسة السلوكية، ونبذ قوتها واستبدالها بضعف الفُرْقة والخلاف والتشتت الدائم والاستغراق في التفاصيل والجزئيات؛ لتجيء التجزيئية هى العاملة بفاعلية منقطعة النظير في واقع أسود مُغْرِق في المحدودية النظرية والعملية؛ الأمر الذي يجعل الباحث يشك كثيراً في أمته العربية والإسلامية: هل هذه بالفعل ـ  والحال كما ترى ـ  أمة تدين بالتوحيد عقيدة وسلوكاً وممارسة وحياة؟!

وهى إذا كانت تدين بالتوحيد فعلاً وتقريراً وواقعاً وتفصيلاً، لماذا عزلته عن واقعاتها الحياتية؛ فلم يسفر إلا عن فرقة وشتات: عزلته عن الواقع الفكري، فلم تستطع أن تتخذه أساساً لمنطلقاتها النظرية. وعزلته عن الواقع الفعلي؛ فلم تتحقق من مجرياته التطبيقية، ولم يؤثر قيد أنملة في وقائع تلك المجريات، ولم تعد تدل هذه الوقائع ـ في الجملة فضلاً عن التفصيل ـ على اعتقاد حقيقي فاعل للتوحيد. وعزلته مرة ثالثة عن الواقع الديني؛ فأنتج واقع الأمة التي تدين بعقيدة التوحيد شكلاً ينقصه المضمون؛ أنتج أصناماً وأوثاناً تعبد من دون الله في أشكال جديدة، وقَدَّست المخلوقين بدلاً من تقديس الخالق، وآمنت بالخرافة والتخلف دون الإيمان بالفهم البصير والعقل المستنير!

عندي أنه من أكبر المشاكل التي تواجه المتدين: عزل التوحيد عن واقعات الحياة حتى ليتسأل المرء إزاء هذه الانقسامات التي تشهدها صباح مساء: إذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الديني أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظري والفكري ثم الواقع الفعلي بكل ما فيه من تفرُّق وتمزق وتشتت وانقسام؟ الأمر الذي جعل الإيمان الديني لدى المسلم قشرة سطحية تخلو أو تكاد من المضمون العملي، ذلك "المضمون" الذي لا نشك لحظة واحدة في أنه ينتج لغة ومدنيّة وعلماً وفناً وحضارة.

ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج؛ لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّي الوحدة وممارسة الوحدة على صعيد التذوق والتّبْصرة. ولكن الواقع الثقافي العربي الحالي يقول لك بأبلغ لسان: إنّ هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد.

هى مفقودة نعم! وعندي من الأدلة على فقدانها (أولاً): قراءة هذا الواقع قراءة مستبصرة جيدة ومتابعة الأحداث الجارية فيه من قريب والانغماس فيها، وتحليلها والوعي بملابساتها ونتائجها في العقل والشعور.

وهى مفقودة (ثانياً) لأنها في الأصل ما وجدت تامة، نشطة، فعالة، وحيويّة، إلا في فرع واحد من فروع الثقافة العربية والإسلامية، وأعني به (التّصوُّف) الفرع الذي يَضُمُّ علوم التزكية سواء كانت تزكية خُلقية إنْ على مستوى الفرد وإنْ على مستوى المجموع. والتصوف ـ وعلومه ـ بالنسبة للوعي العربي والإسلامي كان ولا يزال يمثل تراثاً مهجوراً، يُنْبَذ اليوم من العقل العربي كما كان قبلاً منبوذاً بالأمس، ولو قدِّر لهذا الفرع أن يجري في حياتنا الفكرية والثقافية مجراه الطبيعي وأن يُنظَّر له كما نظِّر لفروع أخرى غيره؛ لكانت تلك "الرؤية الموحَّدة" أو أحادية الرؤية الغائبة عن ثقافتنا الإسلامية من أولى اهتمامات العقل العربي قاطبة: تنقذه من الضلال! أما بقيّة فروع الثقافة الإسلامية؛ فهى على انتشارها وسعتها وكثرة الطالبين لها، الداعين إلى تزكيتها وتفضيلها، الآخذين على عاتقهم بفرضها قسرياً على واقعنا الفكري والثقافي؛ فهى السبب المباشر في تعطيل النظر إلى أحادية الرؤية؛ فداعية إلى الفصل والمباعدة، وذاهبة إلى التجزيئية الغارقة في غير معنى، والفاقدة لعناصر التجمُّع والائتلاف، والذاهبة إلى التفاصيل والجزئيات دون الارتداد إلى وحدة تجمعها في مبدأ واحد عام مشترك؛ فإذا الشعور بالاغتراب مرضٌ لعينٌ مزمنٌ ألمَّ بثقافتنا العربية؛ أي والله.

وماذا يُنتظر من ثقافة تلك مقوماتها (تعصب للمذهب والفرقة والطائفة وتقليد وتسطيح في المفاهيم) وهذه هى ظروفها (تفرقة وتمزق وتشتت وأنانية)، غير الشعور الدائم بالاغتراب؟ وذلك لأن اغتراب "الذات العربية" اليوم إنما هو نتاج طبيعي لافتقارها إلى "ثوابت الوجود الروحي" الذي يمثل ضميرها الواعي كما يجسد ألزم سماتها الخاصة التي عُرفت بها على الدوام بين أمم العالمين.

فلك أن تلاحظ شعور الذات العربية بالاغتراب، وإصابتها بالدوران الواهم حول "ذاتها" حين تتخلى عن أخص خصائص وجودها وألزم سماتها المميزة لها تخلياً يكاد يقترب من درجة الفقدان؛ لا تطور في هذه الخصائص ولا تجدد في تلك السمات، ولكنها تخلطها وتعوِّمها وتعوِّقها بذوات الآخرين، وإبداعات الآخرين، وثقافة الآخرين؛ دون ركيزة ثابتة تنطلق منها وتقوم عليها أشراط الهوية العصماء.

هذه الركيزة عندي هى التوحيد .. أمة تدين بالتوحيد شكلاً ينقصه المضمون، وتتفرَّق وتنقسم في ذاتها فضلاً عن انقسام الشخص الواحد في ذاته وتفرّقه، هل تنتظر منها غير الشعور الدائم بالاغتراب؟

التوحيد عاصمٌ من ضروب الفُرقة وأنواع الشتات، بمقدار ما هو عاصم كذلك في الوقت نفسه من الشعور بالفقدان: فقدان الهوية؛ وفقدان الخاصة الذاتية في مكونها الإيديولوجي؛ وفقدان الخصوصية التي يمتاز بها الوجود العربي والإسلامي. ومع الشعور بفقدان الهوية، ومع الشعور بتفتت الذات وتشرذمها يكون الشعور المحتوم بالاغتراب، ويصاحبه ـ من أجل ذلك ـ أعراض الفتور والضعف من تقلب وعنت وخفة وخشية ملفوفة بالجُبن الكريه من مواجهة التحديات؛ لكأنما كانت هذه الأمة في ثقافتها وقيمها وعقائدها تعيش بغير وجود، وبغير خصائص تفرضها إنْ شاءت على الآخرين كما يفرض الآخرون خصائصهم عليها وهى قانعة راضية: تستلذ حلاوة الاستهلاك وتستكره مرارة الإنتاج والصبر عليه في كل حين: الاستهلاك في الفكر، وفي العلم، وفي الثقافة، وفي اللغة، وفي الفن، وفي مطالب العقول والأرواح؛ بل وفي المأكل والملبس والمشرب، وفي مطالب الأبدان على وجه الإجمال؛ تستهلك أكثر مما تنتج ولا تطيق الصبر على الإنتاج.

والأمة المستهلكة لإنتاج الآخرين من فكر وعلم وثقافة وفن وأدب وقيم دون أن تنتج هى من العلوم والأفكار والثقافات والفنون ما يؤهلها للوقوف أمام الأمم المتقدمة ناهضة قوية وجهاً لوجه هى أمة تتقلبُ في أعراض الضعف والخنوع كما تتقلب في أسباب التجهيل الذي ارتضته خانعة مستسلمة لأنظمتها البائدة وسياساتها الطاغية وحكامها المتسلطين؛ فإذا بذواتها شاعرة بالاغتراب في مواجهة الذوات الأخرى لأنها ـ  من قبل ومن بعدُ ـ مسلوبة "الثوابت" التي ترتكز عليها أشراط الهوية أو تكاد..!

قُتلَ الإنسان .. ما أكْفَرَهُ!

هاتان الملاحظتان (الغفلة الواصبة التي عَنَاهَا ابن عربي بهذيان العالم ثم الجهل بتفعيل التوحيد ممّا عَسَاه يجعل من الوهم المحقق لا المعرفة الحقيقية نقضاً للعبودية) تنبثق كلتاهما عن تدبر ما ينقض فكرة العبودية التامة للإله الواحد الأحد؛ لتمثل هذه الفكرة من منظورها الديني العميق معاني الخضوع بين يدي الله ولتتلاشى الإرادة المشوبة بحب العلو والتسلط والغفلة الواصبة. فلا يبقى أمامها إلا أمران:

الأول: إمّا تسقط الإرادة في مستنقع الوهم. والثاني: إما أن تنسى التوحيد وتظل تكرع من عبادة الوثن بعد الوثن.

إن إرادتنا التي نستطيع أن نتوصَّل بها إلى شتى الضرورات الحياتية لهى أعجز من أن نصل بمقتضاها إلى الله، فلو كُنَّا في أنفسنا أعلمُ علماء الأرض لصرنا من فورنا أجهل الناس بمعرفة الله. ربّما تصل بإرادتك إلى أقصى المعارف والعلوم الكونيّة، لكن إرادتك وحدها لا توصِّلك ـ فضلاً عن كونها تصلك بالله ـ إلى معرفة "المكوِّن".

أنت مع "الأكوان" بالإرادة وبالعقل وبالعلم وبمدركات الإنسان، لكنك لا تكون أبداً مع "المُكوِّن" بمحض هذه الإرادة ولا بمحض ذلك العقل، ولا بمطلق العلم وكفى، ولا بمحدودية الإدراك الإنساني المحدود؛ بل تكون مع المكوِّن بالصفاء وبالنقاء وبالتسليم وبالتفويض، ولو كانت إرادتك هذه أخذة الأمور مأخذ الجد الذي لا عبث فيه ولا ضياع لقادتك إلى الحقيقة الساطعة، ولأقرَّت منذ البداية بأنها قياساً إلى الإرادة الكونَّية، إرادة ضعيفة عاجزة، تحاول الاستطاعة دوماً لكنها سرعان ما تفشل، وتدَّعي المعرفة وهى إلى الجهالة أقرب، وتريد الرفعة لصاحبها من حيث تزج به في آتون التضليل!

إن الإنسان لضعيف مع إنه في الحق لعظيم وكبير ..!

أتدري ما عظمة هذا الإنسان؟ إنها عندي في إدراكه حقَّاً لضعفه، وعِرْفَانه قطعاً بموضع العجز فيه؛ هنا يَكبُر الإنسان في عين الحقيقة، لكنه يتضاءل ويصغر ويُحتقر مع الادِّعاء والجبروت؛ لأنه يجور على خصائص ليست مما هى له، ولن تكون. إنه لضعيف حين يتخلى عن نبض السّر الإلهي فيه، وإنه لمخلوق مُكَرَّم وعظيم حين يعرف معنى وجوده ومعنى مصيره؛ فيدرك بالله على الحقيقة سر هذا الوجود وبقاء هذا المصير.

ثم ألم نرى ويرى معنا ألوف من الناس ممّن تعدوا على وظيفة الإلوهية وجعلوا من أنفسهم آلهة يقضون في هذا وفي ذاك القضاء المبرم الذي يعدُّ وظيفة إلهية؛ ألم نرى ويرى معنا ألوف من الناس ذلك الذي يتأله ويأخذ حق الله ليحاكم به خلقه وكأنه أضحى موكولاً من عند الله بالحكم على عبيده فيما يأخذونه وفيما يدعونه؟ كم هى ساخرة عجيبة تلك الأقدار حين تضعه في المواجهة وحين تتحداه بأقل قضاءِ يقع عليه، هنالك يفزع ويرتد حَسيراً بعد كل مطاف، ويضيع إذا لم يعترف بعجزه وصِغره وحقارته. يضيع إذا لم يقابل عجزه بقوة، وصغره بكِبر، وحقارته بجبروت يملأ الأرض والسموات.

أدّل آيات العجز والصِّغَر والحقارة لأمور بادية فيه أمام الموت .. لا.. الموت كبير وعظيم وجليل؛ بل إنها لبادية فيه أمام المرض والهمِّ والذُّل والمهانة والعجز والإفلاس والتحقير وقلة الحيلة وفقر الروح، ثم الركض الدائم وراء طلب المنافع والمناصب والسلطات والزعامات، والغيرة من الأنداد والقرناء وذوي النفوذ وذوي المكانة والوجهاء.

والتأمل في أحوال الدنيا عبرةً، قد تزيد المتأمل فيها على الدوام أوجاع الحياة لكن مع ذلك تزيد المرء معرفة بأسرارها ووقوفاً على غرائبها وعجائبها وتقلباتها مع الأيام وتقلبات الأيام معها في كل حال. من أجل ذلك، كم دَبَّر .. (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) فقال: "أنا الأعز الأكبر", وهو ـ  وأيم الله ـ ضعيف وحقير: ضعفه ينقض قوله، وكلامه تكذِّبه حقيقته.

(قُتلَ الإنسان .. ما أكْفَرَهُ!) كم بادر باتخاذ الوسائل أسلحةً ضد هذا المجهول الذي ينتظره فجأة، وهو يعلم على التحقيق مبدأ خلقه ثم مسيره ومصيره؛ بل إن هذا التقدّم الهائل الذي طرأ على البشرية ليس إلا تعبيرٌ عن دفاع الإنسان ضد الفناء وضد المجهول. إن إرادتنا التي نستطيع أن نتوصل بها إلى كثير من معارف العصر وعلوم الدنيا، لعاجزةٌ عن إدراك هذا العالم العلوي الذي تنفرد فيه الحقائق بكل ما ينفرد فيه الحق المطلق بامتلاكه لزمام الأمور ولقهره فوق العباد بالوحدة والتفرد والقيوميَّة والعناية.

ليس أمام الإرادة هنا إمَّا الإيمان من جهة، وإمَّا الكفران من جهة مقابلة، إمَّا التسليم وإمَّا النكران. فالذين أقروا بعجز الإرادة آمنوا وسَلَّموا وأحبوا وفنوا بعد أن تحققوا بالحقيقة الإلهية؛ لا لشيء إلا لأنهم فوضوا الأمر لصاحب الأمر. والذين تملكتهم الإرادة وغلبت عليهم شِقْوتهم أنكروا وجحدوا وغطوا الحقيقة وأوهموا. والبصير الحق هو الذي يدرك: انفراد الحق المطلق بامتلاكه لزمام الأمور، يدرك هذا ويعمل من أجله مقدار ما يستطيع وفوق ما يستطيع ولا يغفل عن العمل أبداً، وهو الذي يكافح في الوصول إليه، بإرادته تارة، وبإسقاط التدبير معه تارة، وبوسائله الجبارة تارة، وبعلمه تارة، وبعمله تارة، ولكنه في النهاية لا يَصِلْ ـ إنْ وَصَلَ ـ إلاّ بمعْوَانِ التَّوْفيق.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم