صحيفة المثقف

ضياء نافع: غوغول وغوركي يلتقيان في ايطاليا

ضياء نافعاطلعت على بحث علمي (يتناول تاريخ الادب الروسي) بعنوان – (لقاءآت غوغول الايطالية مع اللاجئ غوركي)، وقد كتبته عام 2005 الباحثة الروسية بيلونوفا، الاستاذة المساعدة في جامعة نوفغورد السفلى (نيزني نوفغورد) الحكومية، والباحثة حاصلة على شهادة مرشح علوم فيلولوجية (اي شهادة دكتوراه فلسفة في علم اللغة وآدابها) . عنوان البحث غريب جدا (ومثير جدا ايضا)، ويمكن القول انه حتى لا يتناسب اصلا مع طبيعة عناوين البحوث العلمية (التي يجب ان تكون دائما دقيقة و محددة وصارمة، اي دون اضافات فنيّة مثلما نجد في النتاجات الابداعية).

النقطة الاولى، التي تثير دهشة القارئ بشأن هذا العنوان هي كلمة (لقاءآت)، اذ كيف يلتقي غوغول، الذي توفي عام 1852 في الامبراطورية الروسية، مع غوركي، الذي ولد في نفس تلك الامبراطورية عام 1870، اي بعد(18) سنة من وفاة غوغول ؟ النقطة الثانية هي لقاء اديبين كبيرين من روسيا في بلد اوربي بعيد جدا عنها هو ايطاليا، والنقطة الثالثة هي تسمية غوركي ب (اللاجئ غوركي). كل هذه النقاط (الغريبة !) تؤدي بالقارئ، بل وتدفعه الى الاسراع بقراءة هذا البحث طبعا وبكل دقّة، كي يجد الجواب الشافي عن تلك الاسئلة المثيرة، التي يطرحها عنوان هذا البحث غير الاعتيادي، وهذا ما فعلته أنا، وأظن، ان القارئ العربي المتابع لتاريخ الادب الروسي يريد (ويرغب ايضا) الاطلاع على تلك الآراء الجديدة في دنيا الادب الروسي، والتي تظهر في وطن هذا الادب نفسه (بعد كل التغيّرات الجذرية الهائلة التي حدثت هناك) ومن قبل الباحثين الروس انفسهم، وذلك، لأن الاطلاع على تلك الآراء و الافكار تعني اغناء المعرفة وتوسيع آفاقها حول الادب الروسي لدى القارئ العربي هذا، ومن نافل القول طبعا التذكير- مرة اخرى - هنا، الى ان الاطلاع على الافكار شئ، والموافقة عليها او مساندتها شئ آخر تماما.

لا يمكن (اختزال او تلخيص!) البحوث العلمية بشكل عام، اذ ان عملية الاختصار قد تشوّه الفكرة الاساسية في البحوث هذه، ولكن يمكن الحديث عن الانطباعات، التي تثيرها تلك البحوث العلمية لدى القراء، والانطباعات هذه ترتبط بطبيعة البحوث، اي انها (الانطباعات) تكون متناسقة ومتطابقة مع تلك الافكار في البحث المذكور . الانطباع الاول، الذي كان لديّ عند بداية قراءة البحث، جاء نتيجة تسمية غوركي ب (اللاجئ غوركي)، اذ اني توقعت (نتيجة لهذه التسمية) ان تقارن الباحثة الوضع الاقتصادي الصعب جدا لغوغول في ايطاليا (وهو لم يكن لاجئا !)، مع الوضع الباذخ جدا لغوركي هناك، رغم انه (لاجئ !) كما أسمته، وكنت أظن، ان الباحثة ستحاول هنا ان تتحدث سلبا عن غوركي، بل وكنت أخشى ان تتحول الى (منظّرة !)، وتصب (جام غضبها !) عليه، وانه قال كذا لفلان وأعلن كيت لفستان، الى آخر هذه التصريحات والثرثرات الباهتة (وما أكثرها مع الاسف في هذا الزمن الفيسبوكي !)، والتي تنطلق عادة من مواقف سياسية بحتة و مضادة للاتحاد السوفيتي وتاريخه بشكل عام، و بغض النظر عن كل شئ، وهو ما نجده طبعا عند البعض من الروس (وغير الروس ايضا)، الذين يكتبون عن الادب الروسي في المرحلة السوفيتية، ولكني وجدت منذ السطور الاولى لهذا البحث موقفا موضوعيا وعقلانيّا يختلف جدا عن كل توقعاتي تلك، اذ تكلمت بيلونوفا في بحثها هذا عن قضايا متنوعة ترتبط بغوغول وغوركي معا، بما فيها انطباعاتهما عن ايطاليا، ويجب القول انها استطاعت وبشكل ذكي جدا، ان تجد تفصيلات دقيقة (وحسب مصادر معتمدة ومحددة تشير اليها في البحث) بشأن موقع غوغول واهميته في فكر غوركي، واريد ان اتوقف هنا عند نقطة واحدة فقط (من بين تلك النقاط) التي أشارت اليها الباحثة، وهي نقطة مهمة جدا – حسب رأيّ الشخصي – في تاريخ الادب الروسي بعد انتصار ثورة اكتوبر 1917 في الامبراطورية الروسية، وتحوّل هذه الامبراطورية الى الاتحاد السوفيتي، نقطة رأيت حتى (بقايا !) آثارها و انعكاساتها في بداية وصولنا للدراسة في موسكو بستينيات القرن الماضي . ترتبط هذه النقطة بالنظرة السوفيتية، التي كانت سائدة في بدايات السلطة السوفيتية، وهي تقسيم مسيرة الادب الروسي الى (بوشكيني، اي نسبة الى بوشكين، وغوغولي، اي نسبة الى غوغول)، وكانت هذه النظرة السوفيتية تؤكد، ان الغوغولية (اي واقعية غوغول) هي التي (انتصرت !) على البوشكينية لاحقا .

ان تقسيم الادب الروسي الى بوشكيني وغوغولي، هو تقسيم مبسّط وساذج جدا، بل وحتى يمكن ان نعتبره غير صحيح بتاتا، و تبيّن بيلونوفا في بحثها المذكور، بعدم وجود اي علاقة لغوركي بهذه النظرة الساذجة، بل انها تثبت، ان غوركي لم يكن اصلا موافقا بشأنها، اذ كيف يمكن لغوركي ان يجد تنافرا وصراعا بين بوشكين وغوغول ؟

نعم، غوغول وغوركي التقيا فكريّا معا، في ايطاليا وفي روسيا، رغم تباعد سنين حياتهما، وأبقيا بصمات هذه اللقاءآت على الارض الروسية، وشكرا للباحثة بيلونوفا، التي اكتشفت هذه البصمات وذكّرتنا بها .....

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم