صحيفة المثقف

طلحة بشير: علماء الاجتماع هل يحتاجنا المجتمع حقًّا؟

طلحة بشير غائية علم الاجتماع كانت قضية مرهونة بالفترات الأولى لتأسيسه، والتي كانت تسعى لتبرير إيجاد هذه المعرفة الجديدة التي تستطيع أن تقدم الكثير للبشرية حسبما ترجمته أعمال "كونت" و"دوركايم" فيما بعد، وكل السوسيولوجيين الكلاسيكيين والمحدثين تباعاً، ممّا جعلها تلخّص مجمل المساعي العلمية للعديد من السوسيولوجيين، والبحث عن إجابة حقيقية لما يمكن أن يقدمه علماء الاجتماع لمجتمعاتهم، ولم أشأ هنا أن أعرض كل الطروحات التي قُدِّمَتْ في هذا الشأن، لأنّه ليس هذا مُبْتَغَانَا، بل إعادة طرح هذا التساؤل انطلاقا من الواقع المعيش، الذي يحتّم إعادة طرحه بالنسبة للمشتغلين بهذا العلم وخاصة في مجتمعاتنا العربية، لذلك تراوحت مجمل هذه الأعمال في إجابتها عن هذا التساؤل بين إثبات علمية هذا العلم من خلال خلق معرفةٍ علميةٍ قادرةٍ على فهم وتفسير ديناميكية هذه المجتمعات، وبين نشر الوعي والتأسيس للنقد الذي سيصبح إيديولوجية متبنّاة من طرف الباحثين والتغيّر الذي يعدّ أملاً مرجوًّا، لذا سنقدم إجابتنا عن هذا التساؤل من خلال الواقع الذي يعيشه علماء الاجتماع ووضعيته داخل مجتمعاتنا، مع إدراكنا أنّ هذا الأمر يتطلب جهداً أكثر عمقاً وتحليلاً.

أيّهما بحاجة إلينا، المجتمع أم الدولة؟:

تظهر الإشكالية الكبرى في التراجع المستمر لدور الجامعة من دورها الريادي في تكوين النخب القادرة على قيادة المجتمع إلى انحصارها في التعليم والتلقين لأبجديات هذا العلم، وبذلك تتوسّع قاعدتها أمام انحصار هذه المهمة، وتتجاوز كل المعايير المتعارف عليها كمّيًّا وأفقيا (عدديا) ، من خلال فتح العديد من تخصّصاته وتوزيعها مَجَالِيًّا على البلاد استجابةً للطلب المتزايد الذي يراعي التوازن بين جهاتٍ مختلفة، وأمام هذا الوضع، سيصبح النظام الجامعي عاجزاً عن تقديم مهمّته الثانية والمتمثلة في إيجاد جيل قادر على التفكير والتعاطي مع مشاكله وعلاجها بسبب المناهج التعليمية المنتهجة وللأسباب السابقة الذكر، وبذلك تنحصر مهمة الجامعة في تقديم ثقافة عامة عن أدب أو تاريخ سوسيولوجي للاستئناس، غريب وبعيد عن الواقع، وهو ما سيجد المجتمع نفسه في غِنًى عنه، فإذا افترضنا غياب الآلاف من المتخرّجين من جامعاتنا ومعاهدنا من هذا التخصص، فلن يُحدث ذلك فرقاً يُذكر في المجتمع، بل سيستمر المجتمع وهو يثبت لنا بأنّه في غنًى عن هذه المعرفة البعيدة عن الواقع، فما يحدثه طبيب واحد من أثر يعوّض ما يحدثه الآلاف المتخرجون من جامعاتنا في هذا التخصص، وبهذا نلجأ ونرتكن إلى الدولة ومؤسساتها بحثاً عن مكانةٍ ودورٍ يستطيع من خلاله المشتغلون بهذا العلم إثبات وجودهم مهنيا واجتماعيا، وهذا المسعى والاختيار يكون مرهوناً بإرادة الدولة وسياستها وليس بإرادة الأفراد .

أصنام الدولة ومعاول الهدم:

موضع الندّية الذي خلقه المشتغلون بعلم الاجتماع في عالمنا العربي تجاه الدولة الحديثة، باعتبارها كياناً جديداً وغريباً في نفس الوقت استطاع أن يستحوذ على كل الرساميل (الرأسمال الاجتماعي الثقافي) ويسعى إلى تطويعها، خلق خطاباً عدائياً شغله الشاغل هو تفتيت بنية وتركيبة هذه الدول ذهنيا وسياسيا، ووجد سنده في ذلك في الاتجاهات الكبرى لعلم الاجتماع التي ارتبطت بتأسيسه بين المحافظة والراديكالية، لذلك فعمليات الهدم المتتالية التي سيقوم بها علماء الاجتماع والتي ستولد راحة نفسية لديهم، ستوسع الهوة بينهم وبين الدولة والأنظمة السياسية القائمة والتي ستجعلهم يتبنون موقف المعارض الدائم لهذا الصنم والمجبرين على تحطيمه كلّ مرّة.

هذه الحالة العدائية أو غير التصالحية ستفرز ردّات فعل باتجاه التطويع وعمليات الإدماج الممنهجة للمشتغلين بهذا العلم أو الرفض والتهميش.

أنا أنقد إذن أنا موجود:

وهي مهمة تمّ تبنيها والإيمان بها من طرف العديد من علماء الاجتماع والمشتغلين به في عالمنا، فالنقد في الغالب يتطلّب موقفاً، والموقف يتبلور في الغالب من طرف من تبنّوا هذا الاتجاه من خلال مفهوم الهيمنة للأنظمة الرأسمالية والطبقية، والتي تتطلب جرأة في الطرح والتبني، بخلاف مجتمعاتنا التي يغيب فيها هذا النوع من الأنظمة، ويصبح النقد مؤسساً كمحاكاة لوضعية اجتماعية مخالفة لمنظومتنا، فالأنظمة السياسية عندنا تسيطر على مخيلاتها الصورة المتولّدة من الأنساق الثقافية الاجتماعية والتي بالنسبة للأنظمة الملكية يعدّ نسق الشيخ والمريد الذي يفترض الولاء والطاعة، كما أوضح ذلك عبد الله الحمودي كنسق ثقافي ميهمن، يؤثر في المخيال السياسي ويسعى إلى إعادة إنتاجه، فيما يخصّ بعض المجتمعات وخاصة المجتمع الجزائري، يبدو أنّ المخيال الاجتماعي الذي يكرس دور الأب المعيل، والذي يظهر الشفقة والرحمة حيناً والتسلّط والعقاب أحيانا أخرى هو ما يحكم مخيلة السياسي، لذلك فالنقد ليس بالضرورة هو تبني موقف المعارض، بل تحديد الوضعية التي يمكن أن يقف فيها عالم الاجتماع لتعطي رؤية أكثر وضوحا عما يحيط به.

الوعي الزائف:

ارتبطت فكرة صناعة الوعي وإيجاده بالتوجّهات الاشتراكية اليسارية المناضلة، وهي إيديولوجيا نشأت في ظروف وسياقات اجتماعية وفكرية خاصة، سهّل مهمتها إيمانها بإحداث تغيرّات هامة في الأنظمة الاجتماعية من خلال النضال المستمر والمحكوم برؤية معينة، وهذا ما ترجمته الانخراطات المتتالية للمشتغلين بهذا العلم في مساعي تحقيق هذا الهدف الذي بات مطلبا محليا ودوليا، ولكنّ المهمّة التي أصبح يُعبَّر عنها بنشر الوعي، ويتمّ تجنيد المنخرطين والمناضلين لها، تراجعت مع انحصار حركات التحرر والنضال، وأصبحت مهمّة نشر الوعي مهمّة مشتركة بين العديد من الفاعلين في مجالات مختلفة، ووسعت وسائل التواصل الحديثة هامش إشراك فئات وفاعلين لا منتمين فكرياً وعلمياً وحتّى سياسياً لأيّ جهة كانت، بل يؤمنون بأنّ الوعي يصنع من خلال الفكرة التي يتمّ ترجمتها بالفعل يراه الناس ويلمسونه.

من القطيعة الإبستمولوجية إلى القطيعة الاجتماعية:

مستوى ممارسة القطيعة فكريا والذي يتمّ التأكيد عليه في مناهج هذا العلم، انعكس عمليا بحكم التخصص من طرف الباحثين عن شخصياتهم الاجتماعية، وخلقَ هوة كبيرة بينهم وبين مجتمعاتهم، فممارسات الفهم والتنظير لا تتجاوز جدران مكاتبهم، كما خلق ازدواجية في الشخصية لديهم تطلّبت للتعاطي مع المجتمع ضرورة نزع عباءة عالم الاجتماع، هذه الحالة الفصامية ستؤثر لا محالة على أفكارهم وتعيق عمليات الفهم والتحليل، لذلك تجدهم مجبرين على تتبع التناولات العديدة التي يجدون فيها ضالتهم، مستبعدين في ذلك مجتمعاتهم القريبة مجاليا والبعيدة ذهنيا .

التنبؤ المهمة الغائبة:

كان أستاذي "ع بوزيدة" يقول أنّه:" إذا كانت هناك وظيفة لعلم الاجتماع مستقبلا لا تعدو أن تكون سوى التنبؤ بالمستقبل"، إشارة إلى أهمّية دراسة المناهج المستقبلية، وهي دعوة باتت تجد لها مكانة ضمن التغيرات المتتالية والمتسارعة، والتي أظهرت قصوراً وعجزاً في تدخل السوسيولوجيين في دراسة وتتبع حيثياتها، بل لاحظنا التدخلات المتأخّرة للمشتغلين بهذا العلم ، وحتّى دعوات الاهتمام بالأحداث اليومية والتي خلقت سوسيولوجيا اليومي، لم تستطع تجاوز هذه الإشكالية مما وضع علم الاجتماع في أزمة حقيقية كتب عنها الكثير، وهذا ما لاحظناه في واقعنا من قصور التنبؤ حول حدثين بارزين أثّرا بشكل مباشر في سيرورة الأحداث  الأوّل عالمي وهو الجائحة، والثاني محلّيّ وهو الحراك الشعبي بالجزائر، بالنسبة لهذا الأخير كان التنبؤ ببروزه غائبا حتّى عند أكبر المشتغلين بالحركات الاجتماعية والاحتجاجات، إنّ هذه الوضعية الحرجة التي يعيشها علم الاجتماع في مجتمعاتنا تزيد من تفاقمها تلك المناهج والتناولات التجزيئية للعلوم نظرياً ومنهجياً والاستقلالية التي ما بات ينادي بها الكثيرون، لدرجة إقامة القطيعة بين تخصّصات تنتمي إلى نفس الميادين، وهذا ما تمّ تجاوزه في العلوم الغربية من خلال التناولات والمناهج الحديثة التي ألغت الحدود والحواجز بين التخصصات.

نشير في الأخير إلى أنّ الموضوع يحتاج إلى تأسيس علميّ من خلال الوضعية التدريسية والأهداف العملية للسوسيولوجيا ودورها في مجتمعاتنا، آملين من المشتغلين بهذا العلم أن يقوموا بمراجعات حقيقية في توجهات ومناهج وكذا نتائج هذا العلم في مجتمعاتنا.

 

د. طلحة بشير - استاذ محاضر بقسم علم الاجتماع

الجزائر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم