صحيفة المثقف

بكر السباتين: حكاية رجل مجهول

بكر السباتينخرج من بين زحام المراجعين أمام دائرة الشؤون الاجتماعية منتفضاً على غير عادته.. تميد به الأرض كالمخمور وهو يلتقط أنفاسه المتحشرجة.. وقد غطت التجاعيد رقبته وطوقت عينيه الغائرتين وانتشرت تجاويفها وعروقها في وجهه المكفهر الشاحب، بدا شارد النظرات كأن رابوصاً حط على صدره المتعب.. كان رث الثياب إلى درجة أن الذباب استطيب رائحة العرق التي فاحت منه، فزكمت أنوف العابرين الذين واروا وجوههم كأنه جيفة نتنة..

 أليس القهر يُسكر حتى الموت! 

وتمكن أخيراً من دخول مبنى الدائرة، وبطنه الضامر  الخاوي يصدر كركعة.. وعيناه الذابلتان لا تقويا على استجلاء الطريق الذي اكتظ بالزحام..

تجاوز ممرات مبنى الإدارة حتى تصلبت قدماه أمام مكتب المالية.. رفع قبضة يده المتشنجة فتراخت أطرافه قبل أن يطرق الباب ثم انحنى مهزوماً كمن تلقى ركلة طائشة على بطنه.. وبغتة مات منهاراً مكانه.. كان جاحظ العينين! فانحبست الأسئلة المبهمة فيهما.

وبعد دقائق من الإهمال، استجاب المارة الذين ازدحمت بهم الممرات لصراخ الفراش:

 "يا ناس.. يوجد مجهول ميت أمام مكتب المدير".

 وبعد صَدٍّ ورد، وتفتيش وتمحيص، لم يعثر رجل الأمن على ما يشير إلى شخصية الميت.."

تساءل أحدهم:

- "ربما كان متسولاً ينشد حظه في هذه الدائرة التي تعنى بالشؤون الاجتماعية".

اشتعلت الأسئلة المبهمة في الرؤوس المصدوحة، تخاطفت جثمانه الأيادي والحناجر تهتف بصوت واحد" لا إله إلا الله".

هذا باختصار شديد ما حدث مع هذا "النكرة" الذي أربك الزحام .

 وبعد أن أخلي الممر من المتزاحمين الفضوليين، خرج المدير مندهشاً والحيرة تأكل رأسه، وقد تدلى كرشه كأنه خرج لتوه من غرفة طعام توسطتها مائدة اللئام.. نده على الفراش وسأله بحزم:

" ما هذا الضجيج الذي اختفى فجأة من أمام مكتبي!"

فرد عليه الفراش بارتباك وهو يمسح يديه بالفوطة :

" مجرد رجل مجهول سقط ميتاً أمام مكتبكم يا بيك.. أخذوه إلى مكان ما.. ربما إلى المستشفى أو مركز الشرطة.. لست أدري".

فعلق البيك متمتماً:

"مش ناقصين قرف!"

ثم أمره البيك وقد انتفخت أوداجه ممسداً على شاربيه الخفيفين بالسبابة والإبهام:

"لا بأس.. أحضر لي فنجان قهوة.. لا تتأخر فرأسي تأكله الديدان من ضغط الشغل!"

ثم عاد البيك يجلس إلى مكتبه متأففاً بعد أن انسحب من المشهد؛ ليتابع مكالمته مع أحد السماسرة، ويبدو أنهما كانا يتفاوضان على صفقة ما كان يخطط للظفر بها.. قال متلهفاً:

"لا باس يا باشا.. مجرد رجل مجهول قطع علينا التواصل وانقضى أمره ميتاً.. أين وصلنا!؟"

حدث الموقف بكل بساطة وانقضى سريعاً.. مجرد رجل مجهول مات سره إلى الأبد ومشى في جنازته حتى الجناة وكأنه رقم سقط من قائمة المهمشين على هذه الأرض اليباس.. وأخذ العابرون يؤولون حكايته ويُسْقِطون عليها الأسئلة، ناسجين من حوله الحكايات والطرائف.. وكان أحد الشباب يراقب المشهد بينما كان جالساً في ردهة المقهى المقابل، ارتشف قهوته ثم وضع فنجان القهوة جانباً وقد استلب المشهد ناظريه.. أخذ يضرب كفاً بكف متمتماً:

 "الرجل مات من القهر.. ولم يسقط سهواً".

 وسرعان ما استل هاتفه النقال.. وبدأ يوثق المشهد بالصور.. وفي غمضة عين كان العالم يشاهد الموقف عبر منصات التواصل الاجتماعي.. وبعد ساعة، كانت المكالمات تتدفق من كل مكان فتتساقط في أذن المدير المتسيب، كالجمر؛ حتى امتقع وجهه.. وفي حومة ما جرى من تفاعلات الموظفين مع الخبر الطارئ، انشغل كل من في الدائرة ببناء القصة كما يريدها البيك.. وبعد ذلك تم إعداد تقرير عن الواقعة كي يذيله البيك بتوقيعه بعد أن كتب في خاتمته بأنه قام بالواجب قدر استطاعته.. والبحث ما يزال جارياً عن أهل الميت لدراسة ظروفهم وتقديم يد العون لهم  إن أمكن، فهذا واجب منوط بدائرته.

ترى ! هل يصدق الناس تقرير عطوفة المدير بعد أن أشغلت هذه القصة الصحف والمنابر السياسية التي روست كلماتها بعبارة "حكاية صادمة وألف سؤال.. من المسؤول!".. الخبر طاف العالم في لحظات، بينما هذا الرجل المجهول كانت قد حاصرته الظروف في ممر دائرة الشؤون الاجتماعية حتى مات وسط الزحام بعيداً عن الأضواء، فيما توافد ألى الدائرة شباب من كل حدب وصوب باحثين عن صورة للرجل الذي بذرته الصدفة في حرث هذا الصباح .

***

قصة قصيرة

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم