صحيفة المثقف

سالي روني: اللون والضوء

2436 sally rooneyترجمة: صالح الرزوق

أول مرة وقعت عينه عليها كانت تدخل في سيارة أخيه. هو احتل المقعد الخلفي وهي الأمامي، ثم أغلقت الباب الذي بجانبها. ثم انتبهت لوجوده. استدارت نحوه، ورفعت حاجبيها، ثم توجهت نحو ديكلان وقالت: من هذا؟.

قال ديكلان: إيدان. أخي.

قالت بهدوء: لم أعلم أن لك أخا.

التفتت للخلف مجددا، كما لو أنها تقبل الكلام معه مضطرة، وسألته:من منكما الأصغر ومن هو الأكبر؟.

قال إيدان: أنا الأصغر.

كان جو السيارة من الداخل مظلما، وضيقت ما بين حاجبيها وأكدت: هذا واضح من مظهرك.

قال ديكلان: لكنه أصغر بعام واحد فقط.

التفتت المرأة لتهتم بفتح نافذة السيارة. كان عليها أن تفتحها باستعمال القبضة المثبتة على الباب.

قالت بشكل عفوي: أبواك لم يضيعا وقتهما. كم يبلغ عدد أفراد العائلة؟.

قال ديكلان: نحن فقط.

قالت: لم يتابعا لفترة طويلة على نفس المسار إذا. هذا التصرف معقول.

خرج ديلان من الباحة، وانحدر إلى الطريق الرئيسي مجددا. كان الليل البارد يتدفق من النافذة المفتوحة. ثم أشعلت المرأة سيجارة. وتمكن إيدان من ملاحظة قفا رأسها وذراعها الأيسر، المطوي بشكل زاوية عند الكوع.

قال ديكلان: سأقل هذا الشاب إلى البيت ثم نذهب بدورة في الأرجاء.

قالت المرأة: هذا التصرف وحي من الرب.

على الجهة اليمنى صف من البيوت والدكاكين، وكانت تغيب عن البصر كلما اقتربوا من نهاية المدينة. ثم ظهرت حديقة الكارافان، وبعدها منعطف الغولف. هل تعلم المرأة أين يقطن إيدان؟. لم يكن يبدو عليها الفضول لتعرف كم تحتاج من وقت للوصول إلى بيته. نفخت الدخان من النافذة. كان سطح ملعب الغولف يلمع بلون داكن. بعد دقيقة أو اثنتين سألت: ماذا تعمل لتكسب قوتك يا إيدان؟.

أعمل في فندق.

آه؟. كم مضى عليك فيه؟.

قال: عدة سنوات.

هل أنت مرتاح فيه؟.

لا بأس.

ألقت عقب سيجارتها من النافذة وأغلقتها. وخيم الهدوء على السيارة، وجمدت الكلمات وبقيت معلقة بحبال الصمت. لم يقل ديكلان شيئا. وقضم إيدان بتأن طرف إبهامه الأيسر. هل عليه أن يسألها كيف تكسب قوتها؟. ولكنه لا يعرف اسمها. وكأن ديكلان قرأ أفكاره فقال: بولين كاتبة.

قال إيدان: آه. أي نوع من الكتابة؟.

قالت: سيناريو الأفلام.

ولحكمة ما لم يسبب ذلك أية دهشة لإيدان، مع أنه حسب علمه لم يسبق له التواجد بسيارة مع كاتبة أفلام. قال آه، كأنه أراد أن يقول: حسنا فهمت. وعلى نحو غير متوقع تنحنحت المرأة التي اسمها بولين واستدارت لتنظر إليه. ولاحظ أن شعرها مربوط من جبينها للخلف بواسطة ربطة مخملية. وكان على وجهها ابتسامة غريبة.

قالت: ماذا؟  ألا تصدقني؟.

واستيقظت مشاعره. واعتقد أنه استفزها، وسيغضب ذلك دكلان ويتشاحن معه لاحقا. قال: طبعا أصدقك. لم لا؟.

ولعدة لحظات لم تنطق بكلمة، ولكنها تابعت النظر إليه في  صمت وعتمة السيارة. في الواقع حدقت به، ووضعت عينها بعينه، واستمرت كذلك عدة ثوان دون أي كلام، وربما لمدة تزيد على أربع ثوان، لفترة ملموسة. لماذا تنظر له بهذه الطريقة؟. وبوجه محروم من التعابير. كان جبينها شاحبا وشفتاها شاحبتين، حتى أن فمها يشبه خطا رفيعا. هل تنظر إليه لتعرض عليه وجهها، وجه كاتبة الأفلام؟. وحينما تكلمت كانت نبرتها مختلفة تماما. قالت ببساطة: حسنا. وتوقفت عن إمعان النظر به واستدارت مجددا. ولم تتبادل معه الكلام في بقية الرحلة. وعوضا عن ذلك انخرطت بالحديث مع ديكلان، عن أشخاص ومناسبات لا يعرفها إيدان. وأصغى لهما كأنهما في مسرحية، وهو المشاهد الوحيد لها. سألها ديكلان متى ستتوجه إلى باريس فردت عليه. ثم أخبرها أن المدعو ميشيل لم يتصل به لينقشه بالمسألة، فقالت بولين: آه. سيكون ميشيل هناك. لا تقلق. وخلف النافذة كان الظلام ينقطع عند الأضواء التي يمرون بها، وبعيدا بين التلال، كانت أضواء البيوت المرتعشة تختفي وتظهر من بين أوراق الأشجار. وتمكن من إيدان شعور غير محدد، فهو لم يكن متأكدا من طبيعة هذا الشعور. هل هو القلق؟. ولكن لماذا عليه أن يقلق؟. وأصدر ديكلان إشارة الانعطاف يسارا نحو الحي. واشتد نور الأضواء مع دنوهم منه، ثم أصبح العالم مسكونا ثانية، تشغله بيوت نصفية وحاويات متحركة ومواقف سيارات. وتوقف ديكلان أمام بيت إيدان.

قال إيدان: شكرا للتوصيلة. مساء طيبا. لكن بولين لم ترفع عينيها عن هاتفها.

*  

التقى بها مرة إضافية، بعد عدة أسابيع، في الفندق. فقد حضرت في إحدى الأمسيات لتناول العشاء مع مجموعة من الأشخاص الذين لم يسبق لإيدان أن التقى بهم. ولم تكن تضع ربطة الشعر في هذه المرة - كان شعرها مثبتا فوق رأسها بحباسة - ولكن لم يتغير فيها أي شيء حتما. أحضر إيدان زجاجة من الماء للطاولة. كانت بولين مشغولة بالكلام والبقية يصيخون السمع، وضمنا الرجال، وبعضهم كانوا متقدمين بالعمر ويرتدون البذات. وكان يبدو على الجميع الافتتان بها - وفكر إيدان: شيء مستغرب أن تشاهد الرجال الناضجين متعلقين بكلمات بنت شابة بهذه الطريقة. وتساءل هل هي مشهورة، أم أنها مهمة بشكل من الأشكال. وعندما ملأ كوبها نظرت إليه وشكرته. ثم قطبت ملامحها وقال له: هل سبق أن التقينا؟.

والتفت الجميع ليتأملوا إيدان. وشعر بالارتباك. قال: أعتقد أنك تعرفين شقيقي ديكلان.

ضحكت، كأنه قال لها شيئا سارا، وقالت: آه، أنت شقيق ديكلان كيرني. ثم استدارت لجماعة الأصدقاء وأضافت: أخبرتكم أنني أعرف كل السكان المحليين.

فضحكوا بامتنان. ولم تعاود النظر إلى إيدان. وانتهى من سكب الماء في الأكواب وعاد إلى البار. وفي نهاية الليلة ساعد جماعة بولين باستعادة معاطفهم من غرفة الثياب. كان الوقت بعد منتصف الليل. والخمر قد تمكنت منهم قليلا. ولم يكن إيدان يعلم العلاقة التي تجمعهم - أصدقاء أم زملاء أو أفراد عائلة؟. كان الرجال يخالسون بولين النظر، وبقية النساء يتضاحكن ويتكلمن مع بعضهن البعض. وطلبت منه بولين أن يستدعي سيارات أجرة لهم. فذهب إلى الطاولة والتقط الهاتف. ووضعت هي يدها الرقيقة على الطاولة، بجوار الجرس.

قالت:سنتابع الشراب في بيتي. هل تود أن تنضم إلينا؟.

قال إيدان: آه، كلا. لا أستطيع.

ابتسمت بهدوء وعادت لأصدقائها. وطلب إيدان رقم سيارة الأجرة، وهو يضغط بقضبته على سماعة الهاتف لتلتصق بجمجمته وسمع صوت زئير الهاتف يتغلغل في أذنه. كان عليه أن يشكرها على الأقل. لماذا لم يفعل؟. كان مهموما، ويتساءل أين عساه يقع بيتها. فهي لا تعيش في المدينة، وإلا لعرف بذلك. ربما جاءت للمدينة من توها، أو لعلها تعمل بفيلم جديد. لو أنها حقا تكتب الأفلام. وفكر لحظة باقتراحها، ثم قرر أن يشكرها. طلب بالهاتف سيارتي أجرة ثم أغلق الخط.

قال: ستكون السيارات هنا عما قريب.

وأومأت له بولين دون أن تلفت له.  ها قد بدأنا. هل ضجرت منه. سأل نفسه ثم قال لها: لم أكن أعلم أنك تعيشين بجوارنا.

أومأت مجددا فقط. وكانت بمرمى بصره بالوضع الذي رآها به في السيارة، في ذلك الأسبوع: خلفية رأسها، ورقبتها وكتفيها. وعندما وصلت سيارات الأجرة، قالت دون أن تنظر إليه: انقل تحياتي لديكلان. ثم غادروا جميعا. بعد ذلك أخبره النادل الذي نظف طاولتهم أنهم دفعوا بقشيشا ضخما.

*

بعد أيام قليلة كان يعمل في الاستقبال في فترة ما بعد الظهيرة، وتكون طابور خلال رده على الهاتف. وبعد أن أغلق الخط، اعتذر عن فترة الانتظار الإجبارية، وقدم خدماته لنزلاء أزمعوا على مغادرة حجراتهم، وجرد بطاقاتهم، ثم جلس على الكرسي. ليس على النزلاء أن يتعرضوا لذلك - أن ينتظروا لدفع الأجور. بإمكانهم ترك بطاقات الدخول فوق الطاولة قبل المغادرة، ودون أي وداع رسمي. ولكن افترض إيدان أنهم أرادوا الحصول على الإذن، أن تكون مغادرتهم مصحوبة بطقوس من نوع ما. أو ربما هم لا يدركون أن الانصراف مسموح، وافترض أن أحدا لم ينبئهم بذلك، ففي النهاية الإنسان مخلوق استسلامي بطبيعته.

نقر بأصابعه على الطاولة بإيقاع رقيق ومشوش. كان ديكلان وإيدان بمنتصف عملية بيع بيت أمهما. ديكلان لديه بيته الخاص، ولكنه أصغر، وأقرب للمدينة، ومرهون للبنك لمدة عشرين عاما. وكان الناس يعتقدون أن إيدان سيعود للبيت القديم، باعتبار أنه يسكن ببيت إيجار خارج المدينة، ويشترك بالسكنى مع آخرين، ولكنه لم يرغب بالعودة. وكان يريد التخلص من ذلك المكان. كانت أمهما مريضة لفترة طويلة، مع أنها ليست مسنة، وكان متعلقا بها، ومن المؤلم أن يضطر للتفكير بها طوال الوقت. والحقيقة أنه حاول طرد ذكرياته عنها. وخلقت هذه الفكرة عنده بعض الأحاسيس - التفكير يبدأ بشكل صورة أو ذكرى مجردة، ويتبعها إحساس ناجم عنها ولا يمكن مقاومته. ربما هو يرغب أن يتعايش مع ذكرياتها، فهي الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي تولهت به، ولكن هذا غير ممكن دون آلام وحزن - وعلى الأرجح لن يخلو الأمر من ذلك. في كل الأحوال الألم لا يتلاشى إن لم يفكر بالموضوع. فقد يتضاعف الوجع في صدرك كلما بلعت، وقد يتحول لألم لا يحتمل حين تبلع، ولكن هذا لا يعني أنه يزول إن لم تبلع. نعم، الحياة حافلة بالمعاناة، ولا توجد طريقة لتحرر نفسك منه. عموما هما على وشك بيع البيت، وسيحصل إيدان على مبلغ من المال، مبلغ زهيد وليس ضخما.  

في تلك الليلة حضر ديكلان ليقوده بالسيارة من عمله، ولكن بوقت متأخر، بعد الثانية ليلا، وكانت بولين تستلقي في المقعد الخلفي للسيارة، ومن الواضح أنها مخمورة. قال ديكلان: يمكنك أن تتجاهلها.

قالت بولين: إياك، هل تجرؤ على ذلك؟.

سأله ديكلان: كيف كان عملك اليوم؟.

أغلق إيدان الباب، ووضع حقيبته عند قدميه، وقال: لا بأس. كانت رائحة الكحول تخنق السيارة. وكان إيدان يشعر أنه لا يعرف من هي هذه المرأة، مع أنها تستلقي وراءه. كانت تفرض نفسها بقوة على حياته في لحظات محرجة، ولكن من هي؟. في البداية اعتقد أنها صديقة ديكلان، أو على الأقل مرشحة لتكون حبيبته، ولكن في تلك الأمسية ظهرت على نحو مختلف في الفندق - كانت متوهجة بطريقة ما، وعدد كبير من الرجال يتحلقون حولها بإعجاب - وطبعا لم يكن ديكلان بينهم، حتى أنها دعت إيدان لشراب بعد ذلك. وأوشك أن يسأل أخاه، كيف تعرفت على تلك البنت؟. أعني، هل تقلها بالسيارة فقط أم ماذا؟. ولكن قد يستفز ذلك مشاعر ديكلان.

سألته بولين: كيف تعود للبيت إن لم تحصل على توصيلة؟.

قال إيدان: على الأقدام.

و كم يستغرق المشوار؟.

حوالي ساعة.

هل الطريق خطير؟.

قال إيدان: ماذا؟. لا. ليس محفوفا بالخطر. ماذا تعني كلمة خطير عندك؟.

ردد ديكلان: بربك تجاهلها.

قالت بولين: إيدان من أفضل أصدقائي. ولن يتجاهلني. تركت له بقشيشا كبيرا في المطعم، أليس كذلك؟.

قال: سمعت بذلك، وهذا كرم منك.

تابعت تقول: ودعوته لبيتي. غير أنه رفض الدعوة.

سألها ديكلان: ماذا تقصدين، دعوته لبيتك؟. متى؟.

قالت: بعد العشاء، غير أنه رفضني بلا تردد.

ارتفعت حرارة إيدان وقال: حسنا، آسف لأنك فكرت بالأمر هكذا. لم يكن بمقدوري ترك العمل لتلبية دعوة لأحد المنازل.

قال ديكلان: ولكن لم توجهي لي دعوة مماثلة.

قالت بولين: كنت مشغولا مثل أخيك. هل يمكنني يا إيدان أن أسألك سؤالا عن عملك؟.

قال: ماذا؟.

هل شاركت السرير إحدى نزيلات الفندق؟.

قال ديكلان: لعنة الله عليك يا بولين.

كانوا يمرون من حديقة الكارافان، حيث تلتمع أسقف الكارافانات المستوية، وتعكس إشعاع القمر، بلون أبيض مثل أظافر يد الإنسان. وبعد ذلك انتبه إيدان إلى المحيط، لكن لم يكن بوسعه رؤية أو شم أو سماع هديره، باعتبار أنه مضغوط داخل السيارة مع بولين وهي تضحك، وروائح الكحول والعطر تتبخر منها. ألا تعلم أن ديكلان لا يستمتع بهذا النوع من الثرثرة؟. أو لعلها تعرف وتريد أن تستفزه مدفوعة بهدف لا يخطر لذهن إيدان.

قال ديكلان: لا تستمع لثرثرتها.

ولمعت سيارة بشكل خاطف ثم اختفت. والتفت إيدان لينظر إليها. من هذه الزاوية ظهر جانب وجهها. كان طويلا جدا وبيضاويا، مثل شكل حبة وجع الرأس.

قالت: يمكنك أن تتكلم معي. ولو همسا.

قال ديكلان: هل تغازلينه. تغازلين أخي أمام عيني. في سيارتي!. ومد يده وقرص ذراع إيدان. وقال له: توقف عن النظر لها. استقم بظهرك وانظر أمامك. أنت تلعب لعبة أنا لا أحبها.

قال إيدان: من هم أولئك الناس الذين كانوا برفقتك في الفندق تلك الليلة؟. هل هم أصدقاء؟.

فقط معارف.

كانوا أشبه بمعجبين بك.

قالت: الناس يتصرفون بهذه الطريقة إن كانوا يريدون منك شيئا ما.

وسمحت له بمتابعة النظر نحوها. واستلقت بمكانها وهي تمتص نظراته، وتبتسم بسذاجة، على سبيل التشجيع. قرصه ديكلان مجددا. فعاد إيدان لمجلسه الطبيعي. كان الزجاج الأمامي دون أي مشاهد مثل شاشة كومبيوتر مغلق.

قال: لا يسمح لنا النوم مع النزيلات.

كلا. طبعا غير مسموح. ولكن أراهن أنك تلقيت دعوة ما.

نعم، حسنا. غالبا من ذكور.

وبدت الدهشة على ديكلان. وقال: حقا؟. وضحك إيدان ضحكة خشنة.

لم يعمل ديكلان في الفنادق، ولا في بار أو مطعم. كان مديرا لشركة، ويحمل إجازة بالتجارة وإدارة الأعمال.

قالت بولين: وهل تغريك هذه الدعوات؟.

بالعادة لا.

 لمس إيدان قبضة النافذة المثبتة على باب السيارة، ولكنه لم يحركها لا للأسفل ولا الأعلى. عبث بها فقط قليلا، وقال: في تلك الليلة وجهت كاتبة دعوة لي لزيارة منزلها.

هل كانت جميلة؟.

قال ديلان: بولين!. أنت تثيرين أعصابي. توقفي من فضلك. يا للمسيح. هذه آخر مرة أقدم لك فيها خدمة.

ولم يمكن إيدان أن يعلم إن كان ديكلان يكلم بولين أو يكلمه. كان صوته يدل أنه يكلم بولين. ولكن إيدان من يتلقى خدمة التوصيلة للبيت، ليس هي، إن لم يكن هناك خدمة ترافق هذه بنفس الوقت. وخيم الصمت عليهم. فكر إيدان بغرفة الملاءات في العمل، حيث تودع الأغطية النظيفة، تطوى بإحكام في الرفوف الخشبية، بلونها الأبيض المزرق، ورائحتها الناجمة عن المساحيق والصابون.

و عندما توقفوا أمام منزله، شكر أخاه على التوصيلة. ورد عليه ديكلان بإيماءه من يده في الفراغ لينصرف. قال: هذه مسألة بسيطة. كان شكل وجه بولين واضحا من النافذة الخلفية، ولكن لم يتأكد إن كانت تسترق النظر منه أم لا.

*

بعد أسبوعين حان موعد انعقاد المهرجان الفني في المدينة، وازدحم الفندق، وتوجب على مدير إيدان أن يطلب منه القيام بمناوبة إضافية يوم الجمعة لأن إحدى البنات أصيبت بالتهاب بالبلعوم. أنهى أعماله ليلة السبت في التاسعة، وتوجه من فوره للجبهة البحرية ليحضر العرض النهائي للمهرجان. كان مكررا مثل السنوات السابقة، استعراض ألعاب نارية عند نهاية المرفأ. لقد شاهد الاستعراض ربما عشرة أو اثنتي عشرة مرة، بعدد سنوات عمر المهرجان. أول مرة كان مراهقا، وطالبا بالمدرسة. كانت حياته في بداية مشوارها. وورد في ذهنه خاطر: أنه وقف يوم ذاك بمواجهة منعطف حاسم، وأنه في أي يوم - أو في أية دقيقة - يمكن للانتظار أن ينتهي وتبدأ الأمور الحقيقية المعقدة.

في نهاية الشاطئ أغلق سترته حتى ذقنه. كان المكان مزدحما ومصابيح الشارع مضاءة وتلقي نورا رماديا على الرمال والبحر. تابعت العائلات طريقها على الشاطئ مع عربات الأطفال وهم يتجادلون ويضحكون. والأبواط تطرق الرصيف، بأصوات مثل جرس يدق، ولكنها عشوائية وغير مترابطة. وجلس المراهقون على السلالم، يشربون ويضحكون من عروض الفيديو. وهناك من وضع اللاسلكي على أذنيه وهو يتجول.  نظر إيدان بهاتفه، وتساءل إن كان ديكلان موجودا، أو ريشي أو أي فرد آخر من الزملاء، ولكن لم يشاهد أثرا لأحد من جماعة التواصل. أصبح الطقس باردا مجددا. فأخفى هاتفه وفرك يديه. وحينما انتبه إلى بولين كانت تتقدم باتجاهه، بمعنى أنها من شاهدته أولا. وكانت ترتدي سترة صوفية فضفاضة وصلت لركبيتها. وشدت شعرها من جبينها للخلف بواسطة شريط كالسابق.

قالت له: لديك إذا أيام للاستراحة.

قال: بالواقع انتهت النوبة بالتو. والعطلة غدا.

هل بمقدوري مراقبة الألعاب النارية برفقتك أم أنك مشغول مع إنسان آخر؟.

وتأثر بسؤالها فورا. وفكر به، ورأى فيه زوايا إيجابية إضافية.

قال: لا. أنا بمفردي. يمكننا أن نكون معا. بكل امتنان. فوقفت بجواره وفركت ذراعها بحركات توحي بالبرد. نظر إليها وتساءل هل هذا الأداء يستدعي منه استجابة خاصة.

قالت: آسفة لأنني كنت مضطربة تلك الليلة. متى حصل ذلك؟. الأسبوع الماضي أم ماذا. وأعتقد أن ديكلان شعر بالامتعاض مني.

هل امتعض منك؟.

هل أخبرك بشيء عن ذلك؟.

قال إيدان: أنا. لا. نحن لا نتبادل الكلام حول أمور شخصية. وانطفأت الأنوار المرتفعة وحل الظلام على الشاطئ. ولم يتوقف الناس عن التجول من حولهم. كانوا يتبادلون الكلام ويتعانقون أو يحملون هواتفهم والمشاعل الملتهبة، وفي نهاية المرفأ بدأت الألعاب النارية. انطلقت للأعلى خطوط من شرارات ذهبية وبلغت عنان السماء وانتهت بنقاط ملونة: في البداية وردية، ثم زرقاء، ثم وردية مجددا، وألقت ضوءها المخدر للحظة عابرة على الرمال والمياه. وتبع ذلك صوت صفير خافت مثل التنفس، وفوقهم في السماء، كانت تنفجر بلون زهور حمر، وصفر، ثم خضر، مخلفة وراءها مسننات ذهبية ناعمة. بع ذلك انفجرت الألعاب النارية، أولا بلونها الصامت والمضيء، أعقبها صوت فرقعات: فرقعة عالية مثل شيء ينكسر، أو زئير منخفض وعميق يتغلغل في الصدور، وحينها أمكن إيدان أن يرى المقذوفات الصغيرة تطير عاليا للسماء من المرفأ، ويصاحبها الفحيح، وكانت في البداية غير مرئية تقريبا، ثم تنفجر للخارج وتتحول لشظايا مضيئة. وكانت تلمع مثل البكسيل، بلون أبيض براق يخفت بالتدريج للون أصفر ثم ذهبي وأخيرا ذهبي داكن قبل أن يصبح أسود. وكان أجمل لون هو الذهبي الداكن الذي سبق الأسود: بلون الجمر، لكنه أعمق من الفحم المشتعل. وفي النهاية حينما أصبحت في القبة السماوية تعين عليهم أن يمدوا رقابهم لرؤية المشهد كله، ثلاثة شهب صفر مخدرة، غطت السماء، والتهمت الظلمة المخيمة عليها. ثم انتهى كل شيء. واشتعلت أنوار الشارع ثانية.

وكانت بصحبته بولين تفرك وجهها وأنفها بيديها. البرد مجددا. وأدرك إيدان بشكل مبهم أن أشياء كثيرة تعتمد الآن على انطباعات بولين حول هذه الألعاب: هل استمتعت بها - إن لم تعجبها، ولو اعتقدت أنها مضجرة، فهو لن يكتفي بالامتناع عن حضور المهرجان، وإنما أيضا بالمثل لن يشعر بالرضا لمرآها، وسيموت في قلبه إحساس طيب وجميل لازمه في الفترة المنصرمة.

لم ينطق بكلمة. واستدارا للخلف مثل البقية وابتعدا عن الشاطئ. كان من الممكن أن يسيرا بسرعة واحدة، سرعة الحشود، وكانت تبدو بطيئة ومتعبة بالنسبة لحركة أي إنسان. بهذه الخطوات تابع إيدان الاصطدام بالآخرين، وكان الأطفال ينطلقون بسرعة غير متوقعة أمامه، وخلفهم العربات والمقاعد المتحركة. ويتركونه وراءهم إلا بولين استمرت بجانبه، وفي نهاية الرصيف سألته هل سيرافقها للبيت. قال: بالتأكيد.

كانت تقيم في أحد البيوت عند جبهة النهر. وكان يعرف المكان، وهو مكان كل بيوت الاستجمام، له جدران زجاجية تقابل المحيط. وخلال المشوار، أصبح الزحام وراءهم. وعندما وصل إلى مكان إقامتها، كانا وحدهما فقط والصمت يطبق عليهما. كانت هناك أشياء كثيرة لا يعرفها عن بولين - الكثير، وألح عليه على نحو مدهش ومختلف وغريب أنه يجب أن يفهمها - ولكن من المستحيل أن يبدأ بطرح الأسئلة دون سبب. فهو لا يعرف كنيتها، ولا مسقط رأسها، وماذا تفعل في أيامها ولياليها، ومن هي عائلتها. وهو لا يعرف عمرها. ولا كيف تعرفت على ديكلان، ولا درجة عمق هذا التعارف.

ثم قال إيدان: لمعلوماتك، إضافة لكلامنا السابق في تلك الليلة، في الواقع شاركت السرير مع إحدى النزيلات لليلة واحدة. ولن أعترف بذلك لديكلان، لأنه لا يؤيد مثل هذه العلاقات.

خطفت عينا بولين منه نظرة وسألته: ومن هي تلك النزيلة؟.

لا أعرف. امرأة وحيدة. كانت أكبر منك قليلا، ربما في الثلاثينات من عمرها.

وهل كانت ليلة طيبة؟ أم سيئة؟.

قال إيدان: لم تكن عظيمة. هذا لا يعني أن الولوج كان غير مريح، ولكن إحساسي به لم يكن مطمئنا. كان تصرفا طائشا.

لكن استمتعت بالجنس.

لا بأس. أعني بالتأكيد كان ممتعا. إنما لا أتذكره الآن. في حينها اعتقدت ربما هي متزوجة. ولكن لا أعلم على وجه اليقين - فكرت بذلك في حينه فقط.

قالت بولين: ولماذا شاركتها السرير؟.

صمت لدقيقة. ثم قال: لا أعلم. كنت آمل أن لا تستفسري عن التفاصيل.

ماذا تعني؟.

يبدو عليك التفهم لهذه العلاقات. ولكن سؤالك الأخير جعلني أشعر كأنني قمت بعمل غريب وغير مستحسن.

توقفت بمكانها ووضعت يدها على عمود إحدى البوابات، ولا بد أنها بوابة بيتها. وتوقف مثلها. كان وراءها بيت واسع بنوافذ كبيرة، مفصولة عن الشارع بحديقة، وكانت الأنوار مطفأة.

قالت: لا أعتقد أنه عمل غير مستحسن. كانت لدي علاقة مع صديق متزوج. وكنت أعرف زوجته - معرفة خفيفة، ولكن أعرفها. وأنا لا أسأل لماذا فعلتها لأنني أعتقد أنه من المحزن أن تنام مع إنسانة متزوجة. أفترض أنني سألت نفسي لماذا نقوم بتصرفات لا نقر بها؟. وأعتقد أن لديك الجواب، ولا بأس إن لم يكن عندك تبرير. أنا مشاعري غامضة بهذا الخصوص.

جيد. حسنا، هذا يحسن من حالتي النفسية. ليس لأنني مسرور لأنك غير واضحة، ولكن أشعر بالإطمئنان لأنني لست وحدي بهذا الموقف.

هل أنت بحالة نفسية مضطربة الآن؟.

قال: لا. الآن يسعدني أن أقول إنني بلا أي موقف محدد. أشعر كأن حياتي لا تتطور بشكل طبيعي. وأعتقد لو سقطت جثة هامدة لن يهتم أحد بي سوى الشخص الذي سيكلفونه بتغطية نوبتي في العمل. ولن ينتابه الحزن لموتي، بل الانزعاج من عناء العمل الإضافي.

قطبت بولين ملامحها. وفركت حديد البوابة بيدها كأنها تفكر. وقالت: حسنا، لست أعاني من هذه المشكلة. في حالتي أعتقد ستقع تطورات كثيرة. الآن أرى أن كل من قابلتهم يريدون شيئا مني. وأشعر لو أنني سقطت ميتة سيقطعون جسمي إربا إربا ويبيعونه في المزاد.

تقصدين أولئك الذين كنت معهم، في الفندق.

ضحكت. وحكت ذراعها مجددا. وسألته: هل يريد أن يرافقها إلى داخل بيتها، فقال نعم.

كان البيت واسعا، ومع أنه مفروش يبدو فارغا بشكل غريب. فالسقف مرتفع وبعيد عن متناول الأيدي. تركت بولين المفاتيح على طاولة في الممر وتقدمت في أرجاء البيت لتشعل الأنوار بنمط عشوائي. وبلغا غرفة المعيشة فجلست على كنبة خضراء عملاقة تحتل زاوية، وكانت مسطحة مثل السرير، ولكن الوسائد موزعة في الخلف. ولم يجد جهاز تلفزيون وهناك رفوف خاوية تماما. جلس على الكنبة ولكن بعيدا عنها.

قال: هل تعيشين هنا بمفردك؟.

نظرت حولها بطفولية، كما لو أنها لم تفهم ماذا يقصد بـ “هنا”. وقالت: آه. حسنا. فقط حاليا.

كم سنة تعني كلمة حاليا؟.

دائما الناس تسأل أسئلة من هذا النوع. وهي غير ضرورية. الجميع يريد أن يعرف ماذا أفعل وكم مضى علي وأنا هكذا. وأحب أن أكون وحدي فعلا لبعض الوقت وأن لا يعرف أحد أين أنا أو متى سأعود. ربما لن أعود أبدا.

نهضت من الكنبة وسألت: إن كان يرغب بشراب. وكانت قد تحررت من تأثير كلامها السابق، عن حب الانزواء، وعدم الرغبة بالعودة. وبدا له ذلك مثل مجاز. لكنه نفض كتفيه بغير اهتمام.

قالت: عندي زجاجة ويسكي. ولا أريد أن تفهم أنني مدمنة. أحدهم قدمها هدية لي - لم أشتريها بنفسي. هل ترغب بنصف كأس، وسأشاركك بنصف مثله؟. إن كنت لا تريد لن أشرب بدوري.

قال: ولم لا. سأشرب كأسا.

غادرت الغرفة، ليس من الباب، ولكن من قوس مفتوح. كان البيت مفتوحا وممدودا على نحو يدفع الإنسان للقلق. ولذلك لم يكن بوسعه أن يدرك أين ذهبت وكم يبعد مكانها. فقال بصوت مسموع: إن كنت تريدين أن تنفردي بنفسك أنا مستعد للانصراف.

ظهرت تحت القوس فورا وقالت: ماذا؟.

كرر قوله: إن أردت الانفراد بنفسك كما أخبرتيني منذ قليل لا يسعني التطفل على حياتك.

قالت: آه، كان كلامي ... فلسفيا. هل كنت تهتم له؟. هذه أول أخطائك. كل ما أقوله لا معنى له. أخوك يعرف كيف يتصرف معي. هو لا يسمع ولا يهتم. سأعود بعد ثانية.

واختفت مجددا. ماذا يعني أن “ديكلان يعرف كيف يتعامل مع ” بولين؟. هل على إيدان أن يسأل؟. ربما هذه فرصته ليستفسر. ثم عادت وبيديها كأسا ويسكي امتلآ لمنتصف المسافة. قدمت له واحدا. ثم جلست على الكنبة قربه، أقرب من السابق بقليل. ولكن دون تلامس. رشفا من الويسكي.   لم يكن إيدان يشربه طوعا، لكن كان مذاقه مقبولا.

قالت بولين: أنا آسفة من أجل أمك. أخبرني ديكلان أنها توفيت.

نعم. شكرا لعاطفتك.

صمتا. رشف إيدان مجددا. رشفة أكبر. ثم قال: أنت تقابلين ديكلان كثيرا، أليس كذلك؟.

هو صديق بالسيارة فقط. أقصد هو الصديق الوحيد الذي يمتلك سيارة. وهو لطيف، ودائما يقودني بجولات عامة. وعادة يتجاهل سخافاتي. وأعتقد أنه يعتبرني امرأة مزعجة. ولم يعجبه في تلك الليلة الأسئلة الفظة التي وجهتها لك. ولكنك أخوه الأصغر - ويعتقد أنك بريء جدا.

وانتبه إيدان بشكل خاص لحقيقة أنها استعملت كلمة “صديق” أكثر من مرة لتشير إلى ديكلان. وشعر أن للكلمة معنى واحدا فقط - وارتاح لهذه النتيجة.

رد بقوله: هل يعتقد هذا؟. أنا لا أعرف طبيعة أفكاره عني.

قالت بولين: أخبرني أنه لا يعرف إن كنت شاذا أم عاديا.

آه، حسنا، كما أخبرتك، أنا لا أتبادل الكلام معه حول الخصوصيات.

لم ترافق امرأة لبيتك على الإطلاق؟.

قال إيدان: ها أنا أمامك هنا. وهو أخبرك كل شيء عني لكن أنا لا أعرف شيئا واحدا عنك.

ابتسمت. كانت أسنانها بيضاء تماما ومتناسقة، لها مظهر رومنسي، مع ظل أزرق تقريبا. قالت: ماذا تريد أن تعرف؟.

حسنا، ينتابني الفضول لأعرف ماذا أتى بك لتعيشي هنا. لا أعتقد أنك من هذه المنطقة.

هل هذا كل ما يقلقك؟. يا للمأساة. بدأت أعتقد أنك فعلا بمنتهى البراءة.

قال إيدان: هذا ليس مقبولا منك.

جرحها رده، وحدقت بكأسها لدقيقة، وقالت بحزن: لست مضطرا لتعتبر أنني إنسانة مقبولة.

ولم يجد ردا مناسبا على قولها. والحقيقة أنه لم يكن يتصورها شخصية لطيفة ومقبولة. اللطافة برأيه مجرد مقياس عام يتطلب من الناس التحلي به.

وضعت كأسها الفارغة من يدها على طاولة المكتب وعادت للكنبة وجلست عليها. وقالت: حياتك ليست مضطربة كما قد تعتقد.

رد قائلا: حسنا. ولا حياتك.

كيف لك أن تعلم على وجه اليقين؟.

قال إيدان: الجميع يريدون أن تهتمي بهم، وماذا بعد؟. لو شعرت بالبغضاء بمقدورك التحرر من القيود في أي مكان - ماذا يمنعك من الشيطنة؟.

أمالت رأسها لأحد الطرفين، ووضعت يدها بنعومة تحت ذقنها، وقالت: هل تقصد أن أبتعد لبلدة نائية على البحر؟. وأعيش حياة هادئة - ربما أستقر مع ابن بلد يعمل بجد ونشاط ليكسب قوت يومه. هل هذا كل ما يدور في رأسك؟.

آه. اللعنة.

أطلقت ضحكة عصبية خفيفة ومنغمة.

فأضاف: أنا لا أطلب منك أي شيء.

ماذا تفعل هنا معي إذا؟.

وضع كأسه من يده. وقال: أنت من وجهت لي الدعوة. وتذكري أنك اقترحت أن نشاهد الألعاب النارية معا. ثم طلبت مني مرافقتك للمنزل سيرا على الأقدام، وفي النهاية دعوتني للدخول. فهل أنا الرجل الذي يقحم نفسه على حياتك الخاصة؟. لم أطلب منك أي شيء.

وفكرت بأقواله بتجلد وصبر. وفي النهاية قالت: حسبت أنك معجب بي.

ما معنى ذلك؟. هل إعجابي بك أمر يسيء لسمعتي؟.

ردت كأنها لم تسمع قوله: وأنا معجبة بك.

وشعر بالاضطراب يعصف به بعد هذا الجدل. اضطراب وصل لدرجة اليأس الشامل. وقال: جيد. اسمعي. يجب الآن أن أنصرف.

كما تشاء.

وفجعه الشعور بهذا الفراق - فراق طلبه شخصيا ثم وضع نفسه تحت رحمته - مثل محنة عظيمة، تقريبا ألم محسوس. ولم يمكنه أن يقتنع تماما أنه سيحتمل ذلك، ووقف بقامته أمام الكنبة والتفت ليتوجه نحو الباب الذي جاء منه. لماذا كل شيء يأخذ منعطفا غريبا الآن؟. في أية نقطة بدأت علاقته ببولين تعتدي على القواعد الطبيعية للتواصل الاجتماعي؟. كانت عادية. أم هل كانت عادية فعلا؟. حتى الآن لا يعلم هل هي فتاة أخيه التي تشاركه السرير.

لم تنهض عن الكنبة لتودعه. وتوجب عليه أن يشق طريقه نصف المضاء، عبر البيت الموحش وحده، وهو يتعثر في الممر المعتم ثم فجأة من خلال غرفة الطعام المشعة بأضواء تعمي البصر، حتى بلغ الباب الأمامي. لماذا تكلمت معه بتلك الطريقة، عن الاستقرار برفقة “شاب محلي لطيف”؟. لا بد أنها حاولت استفزازه. لكن لماذا؟. فهي لا تعرف شيئا عن حياته الشخصية. ولكن لماذا يفكر بها إذا؟. في هذه اللحظة وهو يمد يده لباب بيت بولين الأمامي، بزجاجه اللماع العاكس للإضاءة، لاحظ خيال وجهه غير الواضح، شعر إيدان بهذه الأسئلة وهي تبحث عن جواب غير جاهز في ذهنه.

*

بعد عدة أسابيع وهو في الغرفة الخلفية يبحث عن محول أوروبي للطاقة من أجل أحد نزلاء الطابق العلوي جاءت ليديا وأخبرته أن شخصا بانتظاره في غرفة الاستقبال.

قال: وماذا يريد؟.

قالت ليديا: يريدك أنت. إنهم يطلبونك.

أغلق إيدان الدرج السحاب الذي يحتفظ فيه بمختلف أنواع المحولات الخاصة بالفندق، وكما لو أنه يمر بحلم أو يخرج من لعبة فيديو، وأصبحت تصرفاته تحت تأثير نوع من أنواع الذكاء الفائق. فوقف على قدميه وتبع ليديا وغادر الغرفة الخلفية برفقتها، واتجه للمكتب الأمامي. وحتى قبل أن يرى بولين أو يسمعها كان يعلم أنها من تنتظره هناك. وتأكد من ذلك. كانت ترتدي ثوبا يبدو أنه من قماش ناعم ومرتفع الثمن. وبرفقتها رجل أكبر بالعمر وذراعه حول خصرها. وانتبه إيدان لكل ذلك دون مشاعر خاصة. كانت صورة بولين في ذهنه مضطربة أساسا وغامضة. وحينما رآها أمامه لم يكن وضعها يدل على أي شيء إضافي أو جديد حقا.

قال إيدان: حسنا. كيف يمكنني مساعدتك؟.

قال الرجل: نريد حجرة.

ولمست بولين أنفها بطرف أصابعها. وربت الرجل على ذراعها، وقال: أنت تزيدين الوضع سوءا. انظري. سينزف مجددا.

قالت: ولكنه ينزف.

كان يبدو من صوتها أنها مخمورة. واستطاع إيدان أن يلاحظ أن أصابعها ملوثة بالدم حينما أبعدتها عن وجهها. انحنى على الكومبيوتر المركون على الطاولة ولكنه لم يفتح صفحة حجز الغرف مباشرة. بلع وتظاهر أنه ينقر شيئا ما، في الواقع نقر لا على التعيين. هل كانت ليديا تراقبه؟. فهي قرب الطاولة، على يمينه قليلا، و لم يتمكن من التأكيد أنها تنظر.

قال إيدان: كم ليلة؟.

قال الرجل: واحدة. هذه الليلة.

قالت بولين: لن يكون لديهم أي شيء محترم لهذه الفترة القصيرة.

قال الرجل: حسنا. لنر إذا.

قالت له: لو أخبرتني بقدومك لرتبت نفسي.

قال الرجل: تمالكي نفسك رجاء.

بلع إيدان ثانية. وبدأت موجة من المشاعر تنتفض في داخل رأسه، مثل صوت ضغط زر الإضاءة، إشعال وإطفاء. حرك الماوس حول الشاشة بتكبر ثم، على نحو مفاجئ، تظاهر أنه يطبع شيئا مع أنه لم يفتح لوحة المفاتيح على الشاشة. وتأكد له أن ليديا تراقبه. وأخيرا ابتعد عن الكومبيوتر ونظر للرجل.

قال: كلا. آسف. ليس لدينا غرف شاغرة الليلة.

نظر له الرجل. وكذلك فعلت ليديا. سأله الرجل: ليس لديكم غرف؟. هل كل الغرف محجوزة في الفندق؟. في وسط نيسان؟.

قالت بولين: أخبرتك سلفا.

قال إيدان: آسف. يمكننا تقديم غرفة في الأسبوع القادم إن أحببت.

وفتح الرجل فمه كأنه يضحك، ولكن لم تصدر ضحكة عنه. وأبعد ذراعه عن خصر بولين، ورفعها بالفراغ، وسمح لها بالهبوط إلى جانبه. كان إيدان حريصا أن لا ينظر لبولين أو ليديا أبدا.

كرر الرجل: لا توجد غرف. كلها محجوزة. وهذا فندق.

قال إيدان: آسف لا يمكنني مساعدتك.

نظر الرجل لبولين. فقالت: حسنا، ماذا تريد مني أن أفعل؟.

وبردة فعل منه رفع الرجل ذراعه مجددا وأشار إلى إيدان. وقال: هل هذا من تنامين معه في السرير؟.

قالت بولين: آه، لا تكن أحمق. هل ستصاب بالبارانويا الآن بعد كل ما حصل؟.

قال الرجل: ولكنك تعرفينه. فقد سألت عنه.

هزت بولين رأسها، ولمست أنفها بنعومة، وابتسمت ابتسامة اعتذار خاطفة وجهتها لإيدان وليديا من وراء الطاولة. وقالت: آسفة. سنغادر حالا. هل يمكن أن تطلب لنا سيارتي أجرة؟. سأكون ممتنة لذلك حقا.

قال الرجل: آه. ألا يمكننا تشارك سيارة أجرة؟.

ردت بولين ببرود: لا. سنذهب باتجاهين متعاكسين.

قال الرجل بصوت خافت مع ابتسامة جمدت على وجهه: لا أصدقك. لا أصدقك.

ثم استدار وتوجه نحو الباب المزدوج لمدخل الفندق. تناولت ليديا الهاتف لتستدعي سيارة أجرة من الشركة. وحملت بولين قلم الفندق من الطاولة دون أي تبدل بهيئتها، وسجلت شيئا، ثم مزقت الورقة من الدفتر. وأخرجت بعض النقود، وطوتها داخل الورقة، ودفعتها بكل هدوء نحو إيدان على الطاولة. ثم ابتسمت وقالت وهي تنظر إلى ليديا فقط: شكرا جزيلا. وانصرفت، وخرجت بعد الرجل من الباب المزدوج.

وبعد أن تأرجح الباب وأغلق نفسه، كانت ليديا لا تزال قرب الهاتف. جلس إيدان وتأمل الفراغ الممدود أمامه. وسمع ليديا تقول مع السلامة، ثم سمع الصوت الخفيف للسماعة وهي تهبط على الحامل. واستمر بجلوسه دون حراك. ومدت ليديا يدها إلى الورقة المرمية على الطاولة ودفعتها باتجاه إيدان بطرف القلم، كما لو أنها لا تريد أن تلمسها. ثم قالت: تركت هذه الورقة لك.

لا أريدها.

واستعملت ليديا القلم لتفتح الرسالة.

قالت: فيها مائة يورو.

قال: حسنا. احتفظي بها لنفسك.

ولم تنطق ليديا بكلمة لعدة لحظات. واستمر إيدان بجلوسه وهو ينظر بلا هدف أمامه. 

قالت ليديا كأنها عزمت رأيها: سأضيفها إلى البقاشيش. وتوجد رسالة لك أيضا. ألا تريدها كذلك؟. أعتقد أنها تشكرك بها فحسب.

قال: أهمليها. أو بالحقيقة هاتيها.

قدمتها ليديا له. ودون أن ينظر إليها، أودعها في جيبه. ثم نهض من الكرسي وعاد للغرفة الخلفية ليواصل البحث عن محول طاقة للنزيل الموجود في الأعلى. و بعد ذلك لم يقابل بولين مجددا، فقد غادرت المدينة بغضون أيام قليلة.

2019

***

........................

سالي روني   Sally Rooney كاتبة إيرلندية معاصرة. من أهم أعمالها: أناس عاديون، الثرثرة مع الأصدقاء. والترجمة عن “أفضل القصص القصيرة لعام 2021: الفائزون بجائزة أو هنري”. تحرير شيماماندا نغوزي أديشي. محرر السلسلة: جيني مينتون كويغلي. أنكور بوكس. 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم