صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الأبعاد الحقيقية لأزمة حي "الشيخ جراح" بالقدس الشرقية

محمود محمد عليكيف بدأت ردود الفعل الإقليمية والعربية والدولية إزاء ما يتعرض له المقدسيون من اعتداءات إسرائيلية علي المصلين في المسجد الأقصى وسكان حي الشيخ جراح؟ .. وإلي ماذا يمكن أن تُمضي المواقف والتحركات المرتقبة بشأن الممارسات الإسرائيلية بحق القدس والحقوق المشروعة للفلسطينيين فيها .. وما هي الخلفيات والأهداف التي تحكم مضي إسرائيل في اقتحام المسجد الأقصى، وتهديد "حي الشيخ جراح" بالمصادرة والتهويد؟ .. وهل ارتقت ردود الفعل الإقليمية والدولية، خاصة الأمريكية والعربية بخطورة الأوضاع؟ .. وما يمكن أن تتطور إليه في حال استمر القمع الإسرائيلي؟.. وما هي الأبعاد الحقيقية لأزمة القدس الشرقية ؛ وبالأخص حي الشيخ جراح؟

وهنا يمكننا القول بأنه في عام 1967م احتلت إسرائيل القدس الشرقية بأكملها، وكانت كل الأعمال الاستيطانية تتم بكثافة في القدس الغربية، بينما كانت الاستيطانيات الإسرائيلية بسيطة للغاية في القدس الشرقية، وربما كانوا لا يلجأون إليها مطلقاً، وذلك لأن أعداد الفلسطينيين كانت كبيرة جداً ؛ إلا أن حدث وجاء الرئيس الأمريكي " دونالد ترامب"، وأعلن تبعية القدس الشرقية لإسرائيل، ولم يستطيع أحد من الأنظمة العربية معارضته، بل بالعكس دعا معظم إلي التطبيع مع إسرائيل .

وعندما انتقلت السفارة الأمريكية إلي القدس، وأُعطيت شرعية للأعمال الاستيطانية داخل القدس الشرقية، أخذت إسرائيل في استهداف القدس الشرقية بأعمال استيطانية مكثفة، مثلما كانت تفعله في الضفة الغربية .

إلا أن المشكلة في القدس الشرقية، تتمثل في أن أعداد الفلسطينيين كانوا متجمعين في أكبر حي في القدس الشرقية بصورة غير طبيعية،  وذلك عقب حرب 1956م، وهو حي "الشيخ جراح" ؛ وهذا الحي من أكبر الأحياء في القدس الشرقية، حيث يسكنه أكثر 15 ألف فلسطيني ؛ وتسمية هذا الحي جاءت من اسم الطبيب الشخصي للسلطان " صلاح الدين الأيوبي" سلطان مصر والشام، واسمه " حسام الدين بن شرف الدين عيسي الجراحي "، وهذا الرجل كان قد دُفن بالحي في الماضي، فسموه الفلسطينيون حي " الشيخ جراح"، وقد بنوا له جامع، وكانوا يتبركون به، وتم عمل ملجئ في هذا الحي للفلسطينيين المهجرين، وممن يعانون من تبعات الحرب، وغيره إلي أضحي هذا الحي يمثل مركز كبير جداً للفلسطينيين، وهذا الحي لا يقع داخل سور البلدة القديمة ، وإنما يقع خارج السور، وهو كما قلنا من أكبر الأحياء داخل القدس الشرقية .

وحالياً نجد أن عدد الفلسطينيين في هذا الحي،  والبالغ أكثر من خمسة عشر ألف فلسطيني، يمثلون ثمانية وعشرون عائلة فلسطينية داخل حي الشيخ " عيسي الجراحي"، ومن ثم يعد هذا الحي تاريخي، بل ويمثل قلب القدس الشرقية  .

والسؤال هنا الذي أخذ يجُول في نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" وحكومته : ماذا لو أخذت إسرائيل هذا الحي بشكل أو بآخر ومحاولة ضمه إلي إسرائيل؟!.. ألا يكون في النجاح كبيراً في تقليل عدد الفلسطينيين داخل القدس الشرقية؟!، ومن ثم يمكن لإسرائيل أن تفرض هيمنتها، ويصبح في إمكانها تطبيق نظرية " تهويد القدس" بشكل رسمي؟!.

الحقيقة  أن المحكمة الإسرائيلية كانت قد أصدرت قانوناً جديداً ينص علي أن " أي أحد يستطيع إثبات في أنه يملك عقود داخل حي الشيخ " عيسي الجراحي" بشرط أن يكون إسرائيلياً، يمكن أن يعود إلي بيته بدلا من الفلسطيني القاطن مكانه"، وفي حالة إذا ما اعترض الفلسطينيون، ولجأوا إلي المحكمة الإسرائيلية بعقود تثبت ملكيتهم لتلك الأراضي، فلن تُقبل، وذلك لأنه لا يوجد قانون في إسرائيل ينصف فلسطيني آيا كان، وإنما ينصف الإسرائيليون فقط .

المعضلة هنا أنه بإمكان أي إسرائيلي يمكن أن يخرج علينا، ويقول "أنا معي عقد داخل حي الشيخ " عيسي الجراحي"، وهذا العقد يخُول للمحكمة الإسرائيلية تمكنيه علي حساب الفلسطيني، وهذا ما تم بالفعل ؛ حيث وجدنا عدد كبير من الفلسطينيين لجأوا إلي المحكمة بحجة أن أغلب الفلسطينيين قد باعوا لهم أراضيهم، وهنا أصدرت المحكمة قرار بإخلاء حي الشيخ " عيسي الجراحي" وإعطاءه للإسرائيليين .

بيد أن المحكمة الإسرائيلية في أول قرار لها حاولت تنفيذ القرار، لكنها فشلت، وذلك بسبب الأعداد الكبيرة للفلسطينيين بحي الشيخ " عيسي الجراحي" ، الذين هم علي معرفة جيدة تامة بأنهم إذا ما خرجوا من حي الشيخ " عيسي الجراحي" فلن يجدوا لهم أي مأوي في القدس الشرقية، وهذا ما تريده إسرائيل في أن تكون القدس حكراً لهم فقط، ومن ثم فإن الفلسطينيين أخذوا يدافعون علي هذا الحي بكل ما أُوتي لهم من قوة، حتي وكان فيه موتهم، ولذلك عندما حاولت لأول مرة إسرائيل إخلاء هذا الحي لم تستطع وتراجعت، وقامت المحكمة الإسرائيلية من شدة المقاومة الفلسطينية بتأجيل قرارها علي الفور لمدة شهر فقط .

وحسب صحيفة الجارديان البريطانية أنه خلال العشر الأواخر من شهر رمضان الجاري، استعدت الحكومة الإسرائيلية بقيادة "بنيامين نتنياهو" بشكل كبير، وفهموا من أول مرة فشلوا فيها في طرد الفلسطينيون من حي الشيخ " عيسي الجراحي" ، وذلك بأن يلجأوا إلي خيار استخدام القوة العسكرية القصوى والغاشمة، وفي ليلة القدر الماضية كانت ليلة دامية إلي أقصي درجة، حيث كانت كميات الحوادث التي تلجأ إليها حكومة "بنيامين نتنياهو"  ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية كانت بشعة إلي أقصي حد، حيث كانوا يستعدون للإخلاء من خلال اللجوء إلي القتل العشواء للفلسطينيين داخل الصفة الغربية، وهذا نوع من التخويف.

المشكلة كما تقول الصحيفة هنا أن تلك الأحداث بدأت إسرائيل تنفذ عمليات القتل ضد الفلسطينيين في العشر الأواخر من رمضان، والذي يذهب فيها الفلسطينيون إلي المسجد الأقصى بأعداد ضخمة، ولذلك الشرطة الإسرائيلية حاولت أن تمنع تلك الأعداد في أن تصل إلي المسجد الأقصى، لكنهم لم يستطيعوا إلي حد ما .

وهنا جاءت الفرصة مواتية للحكومة الإسرائيلية في انتظار ليلة القدر، حيث أرادت استخدام القوة الغاشمة ضد المصليين لطردهم، وإخلاء هذا الحي بأي شك من الأشكال، وبدأوا يطردوا الفلسطينيون من المسجد الأقصى وطردهم أيضاً من حي الشيخ " عيسي الجراحي" ، لكنهم عجزوا تماماً.

وهذا الأمر استدعي المحكمة الإسرائيلية بأن تصدر قرار بتأجيل حي الشيخ " عيسي الجراحي" مرة أخري، وهذا أمر سيكون له وقع كارثي علي الفلسطينيين، وذلك لأن هذا الأمر يجعل "بنيامين نتنياهو"  وحكومته يشعرون بالفشل الذريع، ومن ثم يقلل من شعبية "بنيامين نتنياهو"  عند الإسرائيليين في كونه فشل في تشكيل حكومة إسرائيلية، ولا يستطيع أن يخلي حي الشيخ " عيسي الجراحي" من الفلسطينيين، هذا بجانب غضب إقليمي وعالمي غير مسبوق ضد نتنياهو وحكومته، فجميع الأنظمة العربية انتفضت (سواء المطبعين وغير المطبعين مع إسرائيل) ضد إسرائيل، وكمية خطابات وشجب لجميع سفراء إسرائيل بشكل غير طبيعي .

وهذا الأمر أحدث حرجا كبيراً علي حكومة نتنياهو في جعل أغلب الدول الأوربية تطالب إسرائيل بضبط النفس، كما تتالت ردود الفعل المحلية والدولية منددة باقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، والتي أوقعت أكثر من مائتي جريح، وسط غضب فلسطيني متصاعد رداً علي خطر الترحيل الذي يهدد به السلطات الإسرائيلية سكان حي الشيخ جراح، ضمن مساعي أوسع لتهويد القدس الشرقية .

وتستمر الأجواء في المسجد الأقصى وحوله متوترة في ظل نشر قوات الاحتلال الإسرائيلي مزيداً من التعزيزات العسكرية في القدس والبلدة القديمة، استعداداً لتفاود أعداداً كبيرة من الفلسطينيين إلي المسجد الأقصى لإحياء ليلة القدر .

توتر يبقي قائماً  بالنظر  لاستمرار أسبابه سواء ما تعلق منها باقتحام باحات الأقصى أو ما يتهدد سكان حي الشيخ جراح من ترحيل بسبب سياسات بنيامين نتنياهو التي لوحت بخطوات لم تكشف عن بعضها .

وفي ردود الفعل الدولية قالت الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة قلقة للغاية من التوترات المتصاعدة في القدس بما في ذلك منطقة الحرم الشريف وحي الشيخ جراح، وأضافت الخارجية الأمريكية بأنها تشعر بقلق بالغ إزاء إجلاء عائلات فلسطينية في حي الشيخ جراح وحي سلوان، والخارجية الروسية أعربت عن قلقها إزاء التدهور الحاد للوضع في القدس الشرقية، ودانت الخارجية بشدة في بيان لها الهجمات التي طالت المدنيين، ودعت جميع الأطراف إلي الامتناع عن أي خطوات من شأنها تصعيد حدة العنف، كما شددت علي موقف موسكو المبدئي والثابت والمنعكس في قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة والذي ينص علي ان مصادرة الأراضي والممتلكات الموجودة عليها، وكذلك إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا يحمل أي قوة قانونية.

أما الاتحاد الأوربي فقد طالبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بخفض مستوي التصعيد في القدس، واحترام الأماكن الدينية بالمدينة، كما حذر من امكانية زيادة التوتر علي الأرضي بعد طرد سلطات الاحتلال من حي الشيخ جراج أماكن أخري في القدس الشرقية واصفاً هذه الممارسات بغير القانونية بموجب القانون الدولي .. وننتظر ما تسفر عنه الأحداث وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم