صحيفة المثقف

صلاح حزام: الإقصاء ضمن الإقصاء

صلاح حزامفي كتابه المهم: اربع قرون من تاريخ العراق الحديث (صدر عام ١٩٢٥ وترجمه جعفر الخياط)، يقول ستيفن هيمسلي لونگريك واصفاً العراق في زمن الاحتلال التركي: العراق، هذه الولاية العثمانية البعيدة المنسيّة المُعذّبة ..

إنه الإقصاء والاهمال من قبل السلطات التركية التي أتخذت من العراق كمصدر للمال فقط دون اهتمام يُذكر...

ولكن ضِمنَ هذا الإقصاء العام، كان هنالك إقصاء آخر أشد واكثر قسوة، وهو المبالغة في إهمال بعض المناطق ضمن العراق، ومنها الجنوب وتحديداً مناطق الأهوار ...

بدون مستشفيات او عيادات او مراكز صحية، وبدون نشر الوعي والثقافة الصحية لن تستقيم الحياة ولن يتمكن الانسان من العيش حياة آمنة وطويلة وصحية...

كنت أسأل الناس الذين هم من اصول متحدرة من الأهوار، عن عدد من مات من اخوانهم وهم صغار؟ فتصيبني الدهشة عندما احصل على الجواب.

لقد مات الاغلبية منهم !!تتفشى امراض الاطفال نتيجة الاهمال والتلوث وغياب الرعاية الصحية والمعالجة بالخرافات.

وعندما تقرأ كتاب عرب الأهوار الصادر بالانكليزية ومؤلفه (ولفريد ثيسيگر)

The marsh Arabs

الذي يروي مشاهداته في اهوار جنوب العراق في الخمسينيات من القرن الماضي. يصف المؤلف نمط الحياة الذي يعيشه اولئك الناس، وقد يستغرب القاريء كيف تمكنوا من البقاء ولم ينقرضوا !!

الاوضاع الصحية اكثر من بائسة والمياه الصالحة للشرب معدومة والصرف الصحي كذلك . لاوجود لشيء اسمه مستشفى او عيادة، والوعي الصحي غائب تماماً .

التداوي بالاحراز والتعويذات وبعض وصفات الاعشاب الملوثة !!

كان يصف الشحوب على وجوه الاطفال والكبار نتيجة تفشي بعض الأمراض (الامراض التي يعرفها بحكم كونه اوربي متعلم).

التعليم معدوم ماعدا بعض الكتاتيب ( المُلّة) التي تعطي دروس في القرآن ومعظمها دروس خاطئة ومشوهة.

روى لي أحد الأصدقاء من الاساتذة المحترمين (والذي عاشت عائلته في الاهوار قبل ان يهاجروا الى مدينة العمارة لاحقاً حيث حصل هو على فرصة التعليم)، يقول نقلاً عن جدّهِ: كان الملّة الذي يعلمنا القرآن يقول مايلي: يقول جعفر الصادق في القرآن، لاتربط الجرباء مع الصحيحة لانها سوف تنقل لها العدوى !!! طبعاً هو يقول ذلك بلهجة أهل المنطقة وليس بالكلام العربي النحوي ..

لاحظوا الجهل والتجهيل !! مسخ مصدر القرآن وتقويل الامام جعفر الصادق مالم يقل !!!

لقد كانت هنالك ثلاثة اسباب لنشر الجهل بين هؤلاء البسطاء:

-دوافع سياسية، حيث ان الجهل يجعل القيادة سهلة ويمنع التمرد والاحتجاج لانهما يحتاجان الى الوعي كشرط مسبق للرفض.

-دوافع دينية طائفية سيئة لجعل اتباع طائفة معينة جهلة مؤمنين بالخرافات ولايعرفون الدين الصحيح، لكي يقال عنهم لاحقاً انهم طائفة منحرفة.

-دوافع اجرامية فاسدة تهدف لجمع المال من هؤلاء الناس من خلال ارتداء اللباس الديني وأتخاذ لقب او تسمية مقدسة كاذبة (دون دليل او إثبات)، مثل سيّد او شيخ او مومن الخ ..

اصبح النصب الديني مهنة مربحة في ظل الجهل وعدم الرقابة ...

ولازال النصب الديني الذي يمارسه البعض من اللصوص، فاعلاً في مثل هذه المناطق...

الآن نفهم لماذا يتوسّل بعض الناس بالخروف طالباً قضاء حاجته لانه خروف مقدّس !!

ولماذا يطلبون الحاجة من تراكتور مهجور او خرابة قديمة قُيل لهم ان فيها قبر رجل صالح !!

البعض منهم لازال يترك الله ويتجه الى أضرحة كُشف النقاب عنها حديثاً تعود لاحفاد واحفاد أحفاد الصالحين ..

هذه الأضرحة غير مؤكدة ومزعومة ولاندري مدى صحتها، ولكن الله مؤكد وحقيقي ولايحتاج الى كل هذا الكم من الوسائط من المكائن القديمة والخرفان والخرائب المهجورة التي اكتشفها اللصوص ..

ختاماً، لابد من التذكير بأن هذه المظاهر والممارسات موجودة في كل الريف العراقي من الشمال الى الجنوب، لاسيما البعيد عن المدن الكبرى ومراكز الحكم، ولكن بدرجات مختلفة وأشدّها وأخطرها في الاهوار.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم