صحيفة المثقف

صالح الطائي: حب مسكون بالموت

صالح الطائيقراءة موضوعية في رواية وكر السلمان للأديب شلال عنوز

رغم التعب الكبير الذي يسببه الصيام لمن هم بمثل عمري، وملل الروتين الحياتي الذي يسببه الحجر الصحي الطويل والمستمر، وثقافة التباعد المفروض، وانعدام فرص اللقاء بالأحبة والأصدقاء، فضلا عن حالة امتناع الكتابة التي أعاني منها، والتي بدأت في الآونة الأخيرة تباغتني بشكل متكرر وكأنها تعلن نهاية أمجادي الكتابية، ومع التعب الشديد الذي سببه تنوع مواضيع القراءة المفرطة التي مارستها خلال الأيام المنصرمة؛ بين كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع والدين والأدب، مع معاناة ضعف البصر وتكرار انقطاع الكهرباء وموجات الحر التي بدأت غزوها لبيوتنا، رغم كل ذلك، إلا أن العيش لثلاثة مساءات متتالية مع رواية (وكر السلمان) أعطاني دفقات من التنوع الذي كنت بحاجة لمثلة دفعا للملل ولكي أحرك ركود واقعي الروتيني الجاف.

ووكر السلمان رواية كتبها الأديب الأستاذ شلال عنوز، بدت مشحونة بالحوارات والحركة والترقب والمفاجئات الغريبة، ومع تشابك أحداثها واللقطات الاسترجاعية الكثيرة لحوارات وأحداث قديمة تتكرر هنا وهناك، إلا أن استذكارها لمحطات ساخنة من حياتنا الواقعية في أخطر حقبة زمنية مرت بنا، خلق بيني ـ ومعي كل من خاض تلك التجربة المرة ـ وبينها وشيجة بدت دسمة في بعض جوانبها الخفية، ولاسيما وأن الرواية تحدثت عن حقبة كنا خلالها مشاريع موت مؤجل ينتظر التنفيذ على مدى ثمان سنوات عجاف، امتدت من عام 1980 ولغاية عام 1988 حينما كانت جبهات الحرب الاعتباطية العبثية الغبية تطحن أعمارنا على مشارف بوابة الوهم الشرقية التي أقامت السياسة الفاجرة على مصراعيها نصبا للشيطان تحيط به الأبالسة الصغار ويدعمه الأرباب المزيفون بدولاراتهم المضمخة برائحة البترول والعمالة، ونصبت غير بعيد عنها مجاميع مجرمة أطلقت عليهم اسم (مفارز الإعدام) كانت مهمتهم تنفيذ أحكام الإعدام الفورية بالرجال المهزومين أو المضطرين للانسحاب تحت وابل النيران وصرخات الموت المحتم بدون محاكمة أو أمر من قاضٍ أو استجواب أو دليل. هذه المفارز التي كانت تجبرنا على التقدم لا ولاء للمجرمين الأغبياء ولا حبا بالبطولة الزائفة ووهمها، وإنما أملا في عيش يوم آخر في ترقب الموت المؤجل، ولاسيما وأن أصدقائنا والمحيطين بنا كانوا يتساقطون حولنا كأوراق خريف مبكر الواحد تلو الآخر، ومع ذلك لا يتركون في نفوسنا حُزنَ مفارقٍ أبديٍ بقدر وجلِ اللحظاتِ القادمة أن يكون أي منا هو الذي سيترجل عن صهوة غبائه ليعانق التراب.

2067 وكر السلمان

يومها لم تكن المذابح تكتفي بالقتل الكيفي بقدر كونها ساحة لعب للكبار وما نحن سوى احجارا على رقعة شطرنج يمتعون أنفسهم بتحريكها دون علم ولا دراية وكأنهم يتعمدون التخلص منا أو أن موتنا لا يعني لهم شيئا؛ مثلما هي حياتنا كانت رخيصة عندهم، الكبار كانوا يمنون النفس بالـ(عفية) التي ينتظرون خروجها من فم كبيرهم الطاغية الأخرق النزق الغبي الجاهل الذي علمهم الخنوع مقرونة بعدد من أنواط الشجاعة وأوسمة البطولة التي أساءت للشجاعة التاريخية نظرا لابتذالها ورخصها ومنحها لأوطأ الدرجات وأحطها بما في ذلك منحها لعمال الخدمة القائمين على توفير الراحة والمتعة للضباط، وحرمان الأبطال الحقيقيين منها.

ثلاث ليال تبدأ من ساعة ما بعد الإفطار لتمتد على مدى ساعة أو أكثر خصصتها لقراءة وكر السلمان، تلك الرواية التي كانت رائحة العقد النفسية المدمرة تفوح من أسطرها مثلما هي رائحة الموت تفوح من صورها المتشابكة، وتملأها صور توحش الإنسان والأمراض النفسية الخطيرة التي تخلفها الحروب على المشاركين فيها، والتي بدت لعبة أجاد شلال عنوز صياغتها وكأنه يسعى للمراهنة على خزين ذكرياتنا المر المترع بالمخازي التي سببها تنازل الإنسان القسري عن حريته وبعض كرامته لمجرد أن يعيش يوما آخر لا يدري ماذا سيحدث بعده!

وهذا يعني أن رواية وكر السلمان بوصفها أدب حرب قد اختارت الجانب غير المباشر، فالمعروف أن أدب الحرب يكون مباشرا وغير مباشر، المباشر منه يتناول الأحداث الحربية المفصلية بدقة راسما صورة للواقع تنز من جنباتها الدماء والآهات والوجع، أما غير المباشر فيختار جزئية من عالم الحرب العام الذي يشمل الجبهة وامتدادها المجتمعي؛ قد تكون غير مهمة، يختارها من ذاك الواقع المعقد الذي تختلط فيه مديات المجتمع والجبهة، ثم يقوم بتضخيمها لتشغل كامل الحدث من خلال أحداث قد تكون غير واقعية ولكن العلم يؤكد أنها محتملة بسبب ما تتركه الحروب ومعاركها الدموية من أثر على نفسية المقاتل، ذلك الأثر الذي يتأخر ظهوره أحيانا إلى ما بعد مفارقة المقاتل للخطوط الأمامية بسبب عوق أو إصابة مباشرة، وكأنه يرسم ذيولا غير مرئية للحرب قد تكون أكثر منها ضررا لأن حاملها يعيش وسط مستويات مختلفة من البشر الذين يمكن أن يؤثر فيهم على خلاف تواجده النمطي في الوحدة العسكرية التي تضم غالبا شريحة متقاربة في أعمارها وثقافتها.

ورغم الجو المأساوي الذي شاع في أجواء الرواية إلا أنها بدت في رصانتها الأدبية إدانة صريحة وواضحة للحروب بكل أنواعها، ودعوة لأن يحترم الإنسان إنسانية أخيه الإنسان ولا يفرط بها إرضاء لحاكم مجنون أو فكر متطرف أو عقيدة محرفة، فالعقلاء يضعون الحرب احتمالا قهريا محتملا يمكن أن يُستخدم حينما تغلق كل الأبواب الأخرى، طالما أن هناك سبلا أخرى ممكن أن يتم التفاهم من خلالها، أما المجانين والمصابين بداء العظمة والساعين إلى سد عقد النقص في حياتهم فالحرب لديهم هي الأصل وكل ما سواها استثناء، ولهذا السبب كنا لا نخرج من حرب إلا لنتهيأ للدخول إلى حرب أخرى.

ومع أنه ليس من اليسير إحصاء الأعمال الأدبية التي تناولت حروباً على مر التاريخ، إلا أن دراسة سريعة لتطور هذا النوع من الأدب، وإشغاله حيزا مهما في الساحة الأدبية العالمية العامة تُظهر بشكل جلي ذلك الدور البارز والكبير للأدباء والمثقفين والباحثين والأكاديميين في مناهضة الحروب وإدانتها من خلال نتاجاتهم الأدبية، مع أن الحروب نفسها بكل مسمياتها القومية والإقليمية والدينية كانت المحفز لولادة تلك القصص التي زودت لغة السرد الأدبية بذخيرتها التي مكنتها من رسم صور بدا بعضها في غاية الدهشة والغرابة. الإنسان الأديب نفسه وجد في جذوة تلك القصص محفزا مكنه من إعادة صياغة الحدث ليس الآن بل منذ أن شمر هوميروس عن ساعده ليسطر ملحمتي الإلياذة والأوديسا، وقد استخدم الأديب قلمه لكي يدين تلك الحروب ويعلن اشمئزازه منها ومن وحشيتها الطاغية ولاسيما بعد النهضة الفكرية التي أشعلت جذوتها الثورة الفرنسية عام 1789، حيث انبرى المستنيرون والمفكرون والفلاسفة الكبار من أمثال كانت وهيغل وسبينوزا ليدينوا الحروب من خلال كتاباتهم.

يومها بدأت الأقلام المثقفة تسخر من تلك الحروب العبثية وتدينها بشدة، فانبرى الروائي الفرنسي الكبير ستاندال، (1783-1842)، ليجعل من روايته (الأحمر والأسود) وسيلة لإدانة تلك الحروب والسخرية منها. بل إن أدباء آخرين عبروا من خلال رواياتهم التي كتبوها عن انطباعاتهم الشخصية بحتمية سقوط ونهاية حقبة الحروب العبثية الدموية، تجد ذلك واضحا في (دون كيشوت) للروائي الإسباني الشهير سرفانتس، والبؤساء للكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هيجو. وبعدها جاء المد الجارف على يد المنظرين اليساريين والأدباء العالميين مثل إيريش ماريارُمارك، وإرنست همينغواي، وروجيه مارتن ديغار، ولويس فردينان سلين وآخرين غيرهم تركوا بصمة مشرقة أسهمت في دعم ثقافة وأدب إدانة الحروب.

إن انعدام هذا النوع من الأدب الجاد والحقيقي قبل عام 2003 في العراق كان سببه تخويف وإرهاب المثقفين والكتَّاب الذي مارسته السلطة القمعية، من أجل مواصلة نهجها العسكري العدواني وتطلعات القادة الأغبياء، ولذا جاءت كل قصص وروايات أدب الحرب التي كتبت في تلك الحقبة داعمة لفلسفة الحرب ساعية لتمجيد بطولات الطاغية وتحويل هزائمه إلى انتصارات كاذبة، ففي خضم التطورات الدراماتيكية التي حدثت أثناء وبعد حرب الخليج الأولى، بادرت الحكومة المتورطة في الحرب إلى تشجيع الأدباء على الكتابة الزائفة مقابل الحصول على مكاسب مادية ضخمة، انتجت كما وفيرا من الروايات الكاذبة المصطنعة البعيدة عن الواقع، ولم تبدا مرحلة الكتابة بوعي إلا بعد التغيير في عام 2003 حيث انزاحت سلطة القمع وشعر الأدباء بأجواء الحرية التي اتاحت لهم الكتابة دونما خوف، فانتج ذلك كما كبيرا من أدب الحرب العراقي الجاد، منه روايتنا التي نحن بصدد الكتابة عنها (وكر السلمان).

صدرت رواية وكر السلمان عن اتحاد الأدباء والكتاب في النجف الأشرف بواقع 220 صفحة تزين غلافها لوحة للرسام العالمي الإنكليزي ديفيد ماكوشي.

 

د. صالح الطائي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم