صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: مُفتَاحُ الفلاح

مجدي ابراهيميمس الذكر جوهر التجربة الصوفية مباشرة، وتكاد تعتمد عليه كليةً من الوهلة الأولى، ولا يمكن لمجرب للحياة الروحية أن يتخلى عن الذكر بوجه من الوجوه، وهو في نفس الوقت يعيش التجربة ويتذوق حلاوة الحال. والذكر مؤسس على أصول ثلاثة: على القرآن، وعلى الحديث، وعلى الإخلاص. وهذه الأصول الثلاثة تؤسس للذكر على المعطيات الشرعية البارزة، فلا يقدح قادح في ذكر الله والعمل به والاشتغال في طلبه إلا وقدحه مردود عليه مطعون في نواياه. الذكر يغذي العارف في بطن التجربة. ولولاه ما قامت في الإساس تجربته ولا استقامت، هو الفتيل الذي يشعل حركة الروح ويحي القلب بأنوار المعرفة، ويغذي الروح العاقل بجلالة المذكور.

نأتي إلى نصّ كتاب "مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح"؛ لنرى مقصد هذا الكتاب من أجل وأعظم مقاصد الطالبين مشمولاً بالعناية، وإنْ بَدَا من حيث الظاهر مقصداً عابراً لا يؤبه له؛ لكنه في العمق الجُوَّانيّ الباطن هو من أهم المقاصد على التحقيق، يتصل بدوام حضور القلب مع الحق، ولا يتأتى حضور القلب بغير دوام ذكره تعالى؛ ليكون بالقلب فضلاً عن اللسان. فإذا كان ابن عطاء الله السَّكندري في القسم الثاني من كتابه "القصد المجرَّد" قد أوْلى الذكر عنايةً خاصةً، بحيث جعله تطبيقاً لمعرفة الله وحفظاً للقلب من واردات القطيعة؛ فهو يُفْرد "مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح" خاصَّة لذكر الله الذي يجعله العمدة في الطريق، ومُعوِّل أهل التحقيق؛ وتكمن وراء هذا الهدف أسبابه التي يراها المؤلف واجبة لتأليف الكتاب.

غير أن الإشارات إليه ككتب مستقلة كاملة كافية تكاد تكون معدومة؛ فلا يوجد كتاب ـ فيما يرى ابن عطاء نفسه ـ ألف خصيصاً للذكر؛ رغم أهميته البالغة في معروف الطريق، ومعروف الذوق، ومعروف التحقيق. من أجل ذلك شَرَعَ ابن عطاء الله استجابةً لإشارة أخ صالح له في تأليف هذا الكتاب.

للتصوف عند الصوفية عموماً ـ وابن عطاء الله في مقدمتهم ـ غاية هى بلا شك: "الفناء في الحقيقة المطلقة"، هدف التصوف هو "الفناء". والفناء كما تقدَّم في ملاحظات سابقة هو الذي يُشكل جوهر التجربة الصوفية، ولا يصل المتصوف إلى حقيقة الفناء إلاَّ بالذكر؛ إذْ الذكر منشور الولاية كما يقول القشيري: "فإذا استمكن المذكور من القلب، وانمحى الذكر وخُفىَ، فلا يلتفت الذاكر إلى الذكر، ولا إلى القلب. فإنّ ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر أو إلى القلب؛ فذلك حجابٌ شاغل، وذلك هو "الفناء"، وهو أن يفنى الإنسان عن نفسه فلا يحسُّ بشيء من ظواهر جوارحه ولا الأشياء الخارجية عنه، ولا العوارض الباطنة فيه؛ بل يغيب عن جميع ذلك ويغيب عنه جميع ذلك؛ ذاهباً إلى ربه أولاً، ثم ذاهباً فيه أخرى؛ فإن خطر له في أثناء ذلك أنه فنىَ عن نفسه بالكلية فذلك شوب وكدورة. والكمال: أن يفنى عن نفسه، وعن الفناء. والفناء عن الفناء غاية الفناء.

إلى هذه الدرجة يكون الذكر من الأهمية بمكان بحيث يعرج العبد فيه، ومن خلاله، إلى أعلى درجات الاتصال بالحقيقة المطلقة. هذا العروج الروحي يضع وضعاً أن الذكر هو القاعدة التي ينتهجها الأولياء. لقد ورد في آيات سبع في القرآن الكريم؛ كما ورد في الحث عليه في أحاديث الرسول، صلوات ربي وسلامه عليه، وهما أصلان يعتمدها ابن عطاء الله السَّكندري أساساً شرعياً للتشبث بالذكر، وللفناء في المذكور؛ فمن حيث الأصل الأول: يقرأ المسلم في كتابه قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا" ( الأحزاب: آية 41 ـ 42)؛ فيعلم أن الخطاب الإلهي موجَّه للمؤمنين بالذكر الدائم في جميع الأحوال؛ خصّهم بذكر الله ذكراً كثيراً والتسبيح له بكرة وأصيلاً؛ فهذا فعل لا يفعله بمقتضى الخطاب إلاَّ من يتصف بالإيمان؛ فهو علامة إيمان من أول درجة.

ويقرأ المسلم في كتابه قول الله تعالى: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ " (آل عمران: آية 191)؛ فيعلم على الحقيقة أن الذكر يقود إلى الفكر، ومن مقتضى التفكير أن يذكر العبد خالقه في جميع الأحوال، إنْ في حال القيام أو القعود، أو على الجنب، حتى لو أخذه الذكر في ساحات التوَلُّه، فظن به الجنون، فليذكر الله وهو على حال الجنون. وفي الحديث: "أذكروا الله حتى يقولوا مجنون".

ويقرأ المسلم في كتابه قول الله تعالى: "وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب: آية 35)؛ فيفهم من جلالة الخطاب أن الذكر الكثير ليس دروشة يُنسب إلى البهاليل، ولكنه قوة روحية عليا لا تتوافر إلاّ لأصحاء النفوس والأرواح والعزائم. والرجل الذي يذكر الله خالياً حتى تفيض عيناه، هو من النجباء السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلاّ ظلهِّ كما جاء في الحديث. وتكرار كلمة التوحيد أعظم القربات عند الله.

ويقرأ المسلم في كتابه قول الله تعالى: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " (البقرة: آية 152)، فيُدرك من فوره أنه لا يذكر الله بمجرد عزيمته هو، وإرادته هو، وإنمّا ذكر الله في الواقع توفيق لا يقع على الحضور بمحض إرادة الذاكر، وإنما يقع بمحض التوفيق الإلهي، وإنه لقسمة بين الرب والعبد شرطها توفيق الله؛ والله على الدوام مع عبده ما تحركت به شفتاه.

ويقرأ المسلم في كتابه قول الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: آية 28)؛ فيعرف على اليقين أن الطمأنينة القلبية الناشئة في قلب العبد مصدرها ذكر الله بعد الإيمان به؛ فلا إيمان بغير ذكر الله، حيث لا ذكر وقلب العبد فارغٌ من حلاوة الإيمان، إن التجربة لتؤكد أن القلب يطمئن بذكر الله، ويزيد الطمأنينة فيه يقين الإيمان، ولو جاء الذكر في الآية الكريمة بعد الإيمان، فلا يذكر الله إلاّ مؤمن، أو مجبول مفطور على الإيمان، ولا يستغرق في هذا الذكر إلا قوى الإيمان حقيق بكرامة الله مولاه.

ويقرأ المسلم في كتابه قول الله تعالى: "وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِـيّ وَالإِبْكَارِ" ( آل عمران: آية 41)؛ فيعلم أن الأمر بالذكر الكثير والتسبيح بحمد الله بالعشي والإبكار، لهو أجَلَّ فرائض الخطاب الإلهي وأسماها منزلة عند الخالق، وأن التوكيد على الذكر الكثير في أكثر من موضع لهو من أوْكد الفروض، تحجب الغفلة عن القادرين على إتيان الذكر الكثير بغير انقطاع، وتدعهم محفوظين في رحاب المعية بإخلاص؛ وهم ـ بغير شك ـ الذين وَهَبَهُم الله هذه القدرة وَذَاَكَ التبتُّل والانقطاع. إنها ليست تسبيحات بالعشي والإبكار وكفى تأتي بغير حضور، ولكنها ذكر كثير مع انجماع همِّ، وانعقاد خاطر، وتوافر عزم، ومنالات توفيق.

وفي الأوراد الإدريسية ما من شأنه أن يفيد تفسير الذكر الكثير بارتداده إلى المحبة: "إنه قد أمرك بالإكثار (من الذكر) حتى لا يوقفك (على) ما تراه من فضل المرة الواحدة في الاقتصار؛ فإن في الإكثار فضلاً آخر كالعصمة من الشيطان كما ورد، وكفاه شرفاً (أي الإكثار) أنه عنوان على المحبة؛ فإنّ من أحبّ شيئاً أكثر من ذكره كما ورد".

ويقرأ المسلم في كتابه قول الله تعالى:"وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً" (الإنسان: آية 25)؛ فيستجيب للأمر الإلهي؛ ويعلم أنه مأمور بالذكر في كل حال وعلى أيه حال؛ فيتفكر من فوره، لِمَ هذه المواضع السبعة بالتحديد؟! لماذا جَعَلَ الحق في كلامه أن يأتي بالذكر في سبعة مواضع؟ هل هناك علاقة بين مواضع الذكر في القرآن، وبين السَّبْع المثاني في فاتحة الكتاب، وهى كذلك تَعُدُّ قسمة بين العبد والرب؟ لاشك أن التفكير في هذه الأمور يشحذ ذهن المرء شحذاً إلى التأمل في جلالة المذكور، فلا يقلل بحال من أهمية الذكر؛ لأنه بحق مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح كما سمَّاه ابن عطاء، وهو يعتبره الدليل الأوَّل لتأصيل الذكر شرعياً كما جاء في القرآن وحديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه. ومن امتدادات تأصيل الذكر شرعياً يمتد بعدٌ آخر إلهي، حتى إذا طبق الذاكر توصيف الذكر على الطريقة الشرعية، أمتد معه ليكون البعد الإلهي مُعيناً له على الوصول والتحقيق والمعرفة المشروطة على شرطهما.

قالت أم أنس لرسول الله صلوت الله وسلامه عليه: يا رسول الله: أوصني، قال: "أهجري المعاصي؛ فإنها أفضل الهجرة. وحافظي على الفرائض؛ فإنها أفضل الجهاد. وأكثري من ذكر الله؛ فإنك لا تأتين بشيء أحَبَّ إليه من كثرة ذكره".

يلاحظ أنّ وصايا النبوة، وإنْ تكن قاطعة الصراحة بينة الوضوح؛ فهى لم تأتْ لتكون بمثابة وعي فردي أو تطبيق ذاتي يمثله أحدهم دون أن تنعكس على الجملة في سلوكيات المجموع؛ ليكون من ثمَّ أثرها فاعلاً على المستوى الاجتماعي فاعليته على المستوى الفردي. ينبغي أن يُشَكل وعي النبوة القواعد العامة التي تنطلق منها أيدولوجيات الجماعة المؤمنة وتتأسس عليها. وليس يكفي أن يُطبق لدى مجموعة من الأفراد أو فئة قليلة من الجماعات؛ فأفضل الهجرة، هجرة المعاصي، وأفضل الجهاد جهاد الذين يحافظون على الفرائض. أمّا كثرة ذكر الله ففيها الخير كله: "وأكثري من ذكر الله؛ فإنّك لا تأتين بشيء أحَبَّ إليه من كثرة ذكره". هذه هى التجربة: التبتُّل والانقطاع.

ما أجمل وأعظم وأنور وأبقى وأخلد هذه الكلمة. ما أنفذها إلى قلوب الصادقين. وما أتمّها في الدعوة إلى الله: أتمّها من حيث المعنى وأجلاَّها من حيث المبنى، لا شيء أحَبَّ إلى الله من كثرة ذكره. لا شيء:"فإنك لا تأتين بشيء أحَبَّ إليه من كثرة ذكره". لكن كثرة ذكره على قسطاس الحضور والتلقي لهى منبع أسراره وفيض عطاياه، لا تتأتى لأحدٍ إلاَّ بفضل من الله.

قال ابن عباس في قوله تعالى: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ" (العنكبوت: الآية 45)، أنّ له وجهان؛ الأول: أن ذكر الله تعالى لكم أعظم من ذكركم إيّاه. والآخر: أن ذكر الله تعالى أعظم من كل عبادة سواه. وعندي أن الوجه الأول يؤيده قوله تعالى:       "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" (البقرة: الآية 152)، فذكره تعالى بالضرورة يلزم أن يكون أعظم من ذكرنا نحن إيّاه؛ لأن وعده بالذكر لنا كاف لوجه العظمة ومخصص لدخول عباده بالتقريب في معيته، ولو كنا في أنفسنا ذكرناه على الغفلة والسَّهَيَان.

والوجه الثاني: يُسانده قول رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه: "فإنك لا تأتين بشيء أحَبَّ إليه من كثرة ذكره". ومعناه: أن الذكر أعظم من كل عبادة سواه، مادام هو وحده الكفيل بعقد المحبة بين الرب والعبد. وهذا وحده يكفي, ناهيك عن إضافة البعد الخُلقي للذكر وهو بعد تشكله في قلب الذاكر حيويّة العبادة وفاعليتها، ومراجل التجربة وحضرها، وقدرة التوجه وآفاقه العليا المديدة.

أمّا الأصل الثاني: الدليلُ على الذكر من السُّنَة؛ فما يذكره ابن عطاء الله من أحاديث تؤيد وتُعضد هذا الدليل غير مُنكرة، وقد اعتمد الرواية والتزم التخريج. فمن رواية "أبي مسلم الأغر" أنه قال أشهد عَليّ أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا يقعد قوم يذكرون الله إلاَّ حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده". ومن حديث أبي هريرة، رضوان الله عليه، قال:"كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يسير في طريق مكة على جبل يُقال له جُمدان، فقال:"سيروا ! هذا جُمدان، سَبَقَ المُفْرِّدون. قالوا: وما المُفرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً. هذه رواية مسل حديث رقم (4) مراجع على البخاري حديث رقم (2676).

وفي رواية الترمذي قالوا يا رسول الله: وما المُفْرِّدون؟! قال المستهترون بذكر الله؛ يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافاً. والمُفَرِّدون؛ بفتح الفاء وكسر الراء المشددة: يقال فرد الرجل في رأيه، واستفرد، وأفرد، كله بمعنى أي استقل وتخلى بتدبيره. والمراد به الذين تفردوا بذكر الله. والمستهتر بالشيء المولع به، والمواظب عليه عن حب ورغبة فيه. سبق المُفَرِّدون: أي الموحدون الذين لا يذكرون إلاّ الله، أخلصوا الله عبادتهم.

وفي حديث أنس عن رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، قال: "إذا مَرَرْتُم برياض الجنة فارتعوا". قالوا وما رياض الجنة؟ قال:"حَلَق الذكر"، أخرجه الترمذي.

حين يضع ابن عطاء الله هذين الأصلين الشرعيين لنص كتابه "مُفتاح الفلاح"؛ يعطينا المبرر الشرعي لتأسيس ملكات الوعي الروحي لدى الصوفي تأسيساً شرعيَّاً؛ ولتّلبُّس الصوفية بالذكر إلى أقصى ما في طاقتهم الروحية والمعنويّة. وهذا التلبُّس بذكر الله مفتاح التجربة الصوفية؛ إذْ الاستغراق في المذكور يؤدي إلى الفناء، وبحصول الفناء من طريق الاستغراق في الذكر؛ يخوض الصوفي التجربة ويطالع أسرار الملأ الأعلى.

لكن هذا الاستغراق، فيما يقول ابن عطاء، عند الشروع في الممارسة والتطبيق قلما يثبت ويدوم؛ فإنْ دام فصار عادة راسخة وهيئة ثابتة، عُرج به (أي بالعارف) إلى العالم الأعلى وطالع الوجود الحقيقي الأصفى، وانطبع له نقش الملكوت وتجلى له قُدس اللاهوت. وأول ما يتمثل له من ذلك العالم جواهر الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء في صور جميلة تُفَاض عليه بواسطتها بعض الحقائق، وذلك في البداية إلى أن تعلو درجته عن المثال ويُكافح بتصريح الحق في كل شيء؛ فهذه ثمرة "لباب الذكر"؛ وهو مدى ما ينتهي إليه الذاكر (المكافحة والمكاشفة والمكالمة والمشاهدة). لكنما البداية "ذكر اللسان" ثم يرتقي الذاكر إلى ذكر القلب تكلفاً ليرتقي إلى ذكره طبعاً، ثم يستولي المذكور على القلب؛ لينمحي الذكر، وهو ما ينبِّه ابن عطاء إليه فيما يعقبه على هذا الكلام، وهو كلام الغزالي في "الأربعين" حيث يقول في هذا التنبيه:" ذكر الحروف ذكر اللسان. وذكر الحضور في القلب ذكر القلب. وذكر الغيبة عن الحضور في المذكور ذكر السرِّ، وهو "الذكر الخفيِّ".

وفي الحديث قوله صلوات الله وسلامه عليه:"يفْضل الذكر الخفي على الذكر الذي تسمعه الحفظة سبعين ضعفاً". وعلامة وقوع الذكر إلى السرِّ، غيبة الذاكر في المذكور، واستغراقه الدائم حالةً روحيةً عزيزة، أي الفناء يقابل (التجربة الصوفية) أي التحقق. ولهذا قال:"إنّ كل ذكر شعر به قلبك تسمعه الحفظة؛ فإن شعورهم يقارن شعورك، وفيه سرُّ حتى إذا غاب ذكرك عن شعورك بذهابك في المذكور بالكلية يغيب ذكرك عن شعور الحفظة".

ماذا لو قلنا إنّ كل هذا؛ بما فيه من ثمرات الذكر وآدابه، هو موضع إنكار من أناس لا يؤمنون بشيء سوى ما تلمسه أيديهم وتقع عليه أبصارهم وتحسّه جلودهم من مظاهر الملموس المحسوس؟

الذكر عندهم أوهام، والاتصال بالله إنما هو حالة تؤدي عندهم إلى التَّنَدّر والسخرية، والاتصال بالملأ الأعلى عجز وبلاهة وجنون!

قال قائلهم: "هذه أوهام تمثلت في خواطر هؤلاء العجزة الذين أعوزهم العيش على ما يحبُّون، وجهلوا "الاتصال العليِّ" (أي اتصال العلة بمعلولها) الذي يربط بين المعلولات وعللِّها؛ فصوَّروا نواميس الكون على الوجه الذي يشتهون!.

ربما يقدح القادحون في كل موضوعات الصوفية إلاَّ هذا الموضوع (موضوع الذكر) الذي يجيء القدح فيه قدحاً في نصوص الشرع وجحوداً بآيات الكتاب الكريم.

سبحان الله ! حتى ذكر الله لم ينل في طريق القوم إلاّ الجحود والإنكار. لو أن منافع الناس معلقة على رأي الناس في الناس؛ ما انتفع أحد بمنفعة ولا ظهرت على وجه البسيطة قيمة! غير أننا في سياق هذا الحديث لابد من القول: إننا بعرضنا لنص هذا الكتاب، نلمسُ هدف ابن عطاء الله من مفتاح الفلاح، وهو: الوصول إلى "الفناء" في المذكور. والفناء جوهر التصوف الإسلامي، هو التجربة الرّوحيّة للمتصوف المسلم؛ فنحن لم نخرج عن القصد المحدِّد من الفهم حين نجعل "الذكر" كما جعله ابن عطاء الله، أهم الوسائل للفناء في الله، ولدخول التجربة، ولتأسيس فكرة إسقاط التدبير.

هذا؛ وينتقل ابن عطاء إلى أصل ثالث في كتابه وهو "الإخلاص"،  ويشرح معنى الإخلاص في كونه تصفية الشيء عن شوائبه، ثم يتكلم في آداب الذكر كما تكلم من قبل في باب الجهر بالذكر والتحذير من تركه، وفوائده على الإجمال، واختيار الأذكار بما فيها ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكيفية الصلاة عليه بصيغ مقررة ومختلفة إلى آخر ما تضمنه كتابه مفتاح الفلاح وهو بالحقيقة من أمتع كتب المؤلف وأنفعها في ذكر الكريم الفتاح كما قال.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم