صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمود محمد الحويري .. المؤرخ والعالم والإنسان كما عرفته (1)

محمود محمد عليحياة المرء، طالت أم قصرت، لا تقاس بالسنين والأيام، ولكنها تقاس بما خلف وراءه من أعمال مجيدة، ومآثر طيبة، وآثار مخلدة، قد لا تبدو عظيمة إبان حياته، ولكنها لا تلبث حتي تبين واضحة بعد مماته، كالمصباح المضئ لا يعرف قدره، حتي ينطفئ سراجه، ويتورى ضيائه.

قصدت أبدأ كلامي بهذا القول لأتحدث عن مؤرخ كبير، وعالم جليل، ألا وهو الأستاذ الدكتور "محمود محمد علي الحويري"- أستاذ تاريخ العصور الوسطي بكلية الآداب – فرع سوهاج – جامعة أسيوط، وهذا الرجل كان من طرازاً قائماًً بذاته في قائمة من تصدوا للكتابة التاريخية في مصر في العصور الوسطي، وربما في صعيد مصر بأسره، وهو ينتمي إلي جيل بذاته، له سماته الخاصة ونظرته الخاصة إلي العلم والمعرفة، وهو مؤرخ كبير، ومحقق أصيل، ومؤلف نادر من بقايا العلماء الموسوعيين الذين لم يقفوا عند فترة تاريخية بعينها؛ بل درسوا كثيراً من جوانب تاريخ العصور الوسطي (سواء الأوربية أو الإسلامية) غير مكتفين بالفترة التي تخصصوا فيها، فأعاد إلينا نماذج العلماء الأسلاف في التعلُّم والتعليم والتأليف، والعكوف على العلم الذي أفنيت فيه الأعمار.

ولهذا يعد محمود الحويري من أهم رعيل المثقفين الأوائل في صعيد مصر في العصور الوسطي،  إذ تعد أبحاثه حول صعيد مصر بمثابة سجل حي من الذكريات الخصبة، كما أنه يعد مؤرخ عتيق ومجدد معاً، فهو من الباحثين المصريين الذين ساهموا في تاريخ صعيد مصر ليس بكتبه ومقالاته العديدة في هذا التاريخ ومشاركاته ومحاضراته، ومساهماته وفي تعليقاته، وهو إنسان من نوع نادر، يعتني بصحته وملبسه، وأكله وشربه، وكان يمتلك قلباً كبيراًًً في اخضراره وحيويته فى الحياة، وهو صاحب رؤية تاريخية، وكان مفكراً ومؤرخاً. جمع بين جدية التحليل وغزارة الانتاج.. لم يغب التاريخ عن حياة  الحويري فكرس له حياته. لكنه لم يبقه تاريخاً جافاً، بل أدخل إليه أسلوبه الأدبي، وكأنه ولد ليكون مؤرخاً، أو يسهم في صناعة التاريخ، الذي كان يدافع عنه، ويردد دائماً جملته: "تعلم الناس من التاريخ أن لايتعلموا".

وقد عرفت محمود الحويري وعاصرته بعد ذلك إلي أن انتقل إلي جوار ربه، فعرفت فيه من الفضائل الوطنية والإنسانية ما يعجز الحصر : عرفته رجلاً بكل ما في الكلمة من معني، غالبته الأيام فغلبها، وقارعته الحوادث فقرعها، ونازلته الأزمات فنزلها يصارعها حتي هزمها، كان أستاذا في فنه، لا تستعصي عليه منه المشكلات، وكان محدثاُ  تشيع في حديثه العذب أجمل اللفتات، وكان كاتباً، تشيع في حديثه العذب أجمل اللفتات .. كانت تلك حالة، وكانت هذه صفاته، بل أكثر من ذلك، كان مثلا للصديق الوفي، الذي يضحي في سبيل صداقته، كما كان يبذل الجهد والفكر في سبيل سعادة الوطن وسعادة بنيه .. كان الحويري رجلاً، فصار قصة في كلمات، وكان بيته يعج بالباحثين من طلبة الدراسات العليا، يتحدث إليهم فيه، ويفيض عليهم من واسع علمه، وسعة اطلاعه ومعرفته .

ومحمود الحويري (مع حفظ الألقاب) كان شعلة وهاجة، وحركة دائمة، ملأ علينا أسماعنا وأعيننا وأفئدتنا، وغذي أرواحنا، فلم يترك لنا لحظة إلا شغلها، ولا فراغا إلا ملأه، كان طرازاً فريداً من الأساتذة، ذو شخصية علمية لا تقلد ولا تقلد بين الشخصيات التي عرفها تخصص العصور الوسطي في مصر، وكان مما يستلفت النظر إلي شخصيته أنه خلق لنفسه تقاليد عُرف بها، ولم يعرف بها غيره . ولقد ميز نفسه بهذه التقاليد، كما ميز نفسه بطائفة خاصة به من السمات والصفات والخصال، وظل حياته أمينا لها، مخلصا لتلك الشخصية  التي خلقها لنفسه . كان يكفي أن يذكر اسمه في أي مكان، وفي أي وسط، لكي تقفز إلي الذهن، ليست صورة محمود الحويري التي عرفها الناس فحسب، بل مجموعة من آرائه وجهوده ونظراته للحياة والتقدم، استقل بها ولم تغادره طوال حياته، كيفما كان العمل الذي يقوم به، أو الوظيفة التي يشتغلها، كان الحويري ثابت بغير نظير، ولا مثيل ولا قرين.

هذا وقد كان الحويري علي حظ عظيم من عزة النفس، وعلي جانب من جمال العهد، وفيا إلي أقصي حدود الوفاء، وفيا لتلاميذه يسهل عليه بذل كل نفيس ليحقق لهم بعض سعادته، وفياً لعمله يزيد أبداً في معلوماته وتجاربه، ظل علي ذلك إلي آخر أيامه، وفياً لأصحابه لا يدخر جهدا في مرضاته، وإدخال السرور علي قلوبهم .

وكان أيضاً يتمتع بمحبة الجميع بداية من طلال الليسانس والدراسات العليا وجميع زملائه الذين تعاملوا معه، وكان يراجع أعمال البحث التاريخي مع طلاب الدراسات منذ بداية اختيار الطلاب الموضوع عن حتي طبعه، ثم كان يجبر الطلاب المسجلون علي قراءة بطاقات أبحاثهم أمامه، كل بطاقة علي حده، فكان يصحح المعلومات التاريخية، وكان ينصح الطالب بإعادة صياغتها، ثم كان يعلم الطلاب اللغة العربية والكتابة الصحيحة، وكان لا يفوت الأخطاء النحوية علي الإطلاق، وأهم ما يتميز به أنه كان يعاملوا طلاب الماجستير والدكتوراه الذين يسجلون معه معاملة الأبناء وكان يشتهر بدماثة الخلق والجدية، وكان دائما يوصي طلابه بالأخلاق الكريمة والأمانة العلمية، وكان يجتهد ويبذل قصاري جهده في العمل علي تعيين طلابه من جملة الماجستير والدكتوراه في الجامعات المصرية، وله تلاميذ كثر في معظم كليات الآداب بالجامعات المصرية .

ولد الحويري بمدينة أسوان، وبالذات من قرية اسمها "سلوا" تابعة لمركز كوم أمبو، وكان يقيم في مدينة "دراو" وكان له منزل عبارة عن عمارة سكنية بدراو أشبه بفيلا، وكان عنوان الماجستير بعنوان "أسوان في العصور وكانت أعظم كتبت عن صعيد مصر، وهو الدراسات التي كتبت عن صعيد مصر، وهو الذي فتح كل مجالات البحث التاريخي بمنطقة الصعيد بعد أن مهملة من الباحثين بسبب صعوبة البحث فيها، والرسالة جاءت بين ضفتى الكتاب استقت مادتها من كتب المصادر التي لا يرقى إليها أي شك , إلى جانب المصادر الوثائقية التي تشمل الأثار والمخلفات الخطية والنقوش . وهى توضح ما تمتعت به أسوان من موقع فريد، ودورها فى النشاط السياسي والاقتصادي والثقافي في مصر العصور الوسطى . وأخيرًا البناء الاجتماعي والعناصر السكانية التي استوطنتها . وهى بهذا دراسة فريدة وجديرة بأن تحظى بقبول واسع لدى المثقفين في هذا الزمان والرسالة تقع 316 صفحة ؛ وفي هذه الرسالة أبرز الحويري أهم فترات أسوان تاريخيا لأنها كانت رمز الثقل في العلاقة بين المسلمين والنوبيين سلماً وحرباً وهو صراع استمر منذ عهد عمرو بن العاص حتي بداية دولة المماليك، وفي كان مشرفا عليه الأستاذ الدكتور إبراهيم طرخان أستاذ تاريخ العصور بجامعة القاهرة، وأما الدكتوراه، فكان عنوانها "اتحاد القوة العربية الإسلامية ضد الصلبيين في بلاد الشام والعراق"، وكتاب من أجمل الكتب التي كتبت عن الحروب الصليبية ودور قادة العراق في توحيد الصف العربي الإسلامي ضد الحملات الصليبية وخاصة " عماد الدين زينكي صاحب الموصول ونور الدين محمود ثم صلاح الدين الأيوبي، كما ألقي الضوء في كتابه عن فرقتي "الداويه والاسبتارية"، وهما من  الفرق التي قامت بدور فعال في تقوية الصف الصليبي ضد المسلمين من خلال وجودهم في الإمارات الصليبية.

وقد عُين الحويري بكلية الآداب بسوهاج مدرسا للعصور الوسطي منذ  نشأ قسم التاريخ بكلية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، ثم أعير سيادته للتدريس في عدة دول عربية؛ وكان من أهممها المملكة العربية السعودية، ثم سافر إلي عدة  دول أوربية كان منها إنجلترا، حيث كتب فيها من خلال وجوده في لندن أعظم دراسة عن الفايكنج في أوربا وكانت أول دراسة عن الفايكنج في أوربا والعالم الإسلامي، ومازال هذا الكتاب ومعظم كتبه تتداول في المكتبات الأوربية والعربية، ثم ذهب إلي أمريكا، وفي الثمانينات من القرن الماضي حصل الحويري علي أستاذ مساعد 1980، ثم أستاذ خلال عام 1984م .

وللحويري كتابات كثيرة من أهمها علي سبيل المثال لا الحصر: أسوان في العصور الوسطي، ومنهج البحث في التاريخ، ومصر في العصور الوسطي من العصر المسيحي حتي الفتح العثماني، واللومبارديون في التاريخ والحضارة 568-774م، ومصر في العصور الوسطي : دراسة في الأوضاع السياسية والحضارية، وساحل شرق افريقيا منذ فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي، ساحل شرق إفريقية منذ فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي، علاوة علي ترجمته لكتاب رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية .. وهلم جرا.

وفي تلك الكتب كشف لنا الحويري علي أنه كان عالماً وبحاثة، وكان مؤرخاً كبيراً، لا يداهن، ولا يرائي، يصدر عن عقيدة، ويعمل في غير جلبة، عرفه الصغير، ولمس فضله الوزير ورجل الشارع، وهو صورة فريدة من صور الرجال، بعلمه وبيانه وعمله ووطنيته، فطر علي صفات نادرة، سيرته في مراحل عمره سيرا حفل معه بالطيبات، واتجهت قواه منذ صباه لخدمة المصلحة العامة، وعمل علي هيئته في تواضع خال من التمجد والتبجح، وما طلب العوض والمكافأة عما أجهد نفسه فيه، ذلك أنه كان متشعباً بروح النهوض، ويعرف كيف يرضي ضميره بأداء فرض لا بد من قضائه.

كما كان الحويري يملك سعة إطلاع ومعرفة في تاريخ العصور الوسطي، فينتقل في بحوثه، من فن إلي فن، بأسلوبه الفذ، ولهجته التي اشتهر بها، بهمة وعزيمة، لا يعتريه ملل أو كلل، وقد اجمع جمهرة من المتخصصين العمالقة في العصور الوسطي، من أمثال الدكتور "قاسم عبده قاسم" و"زبيدة عطا"، من عار قدره بأنه نعم الرجل ثبات علي المبدأ، واستقلال في الرأي، وإدراك لمعني الحياة الحرة، والصلابة في القومية، والإخلاص للوطن، والدفاع عن تاريخ صعيد مصر مسقط رأسه، ويفني في خدمة قومه، وفي خدة وطنه .

والحويري بلا شك يمثل صفحة عظيمة في تاريخ صعيد مصر، قل رجل لم يقرأها، أو ينل منها فقرة، أو سطرا وآثاره معروفة في مكتبات لندن والكونجرس، وهو في الإنسانية من المضحين .. وكان رجل خلق يداعب تلاميذه، ولذا كان له بين طلابه منزلة وحساب ... لام الناس عليه إصراره علي تصغير نفسه سنا، ولكني لم آخذها عليه، لأنه كان يحب أن يشعر بالتوثب وبالفتوة إلي العمل، فهي عنده حقيقة ومنطق، وعند غيره مغالطة وسفسطة .. يعيبون عليه أنه كان يوزع جهده في مائة ناحية وناحية، ولكني كنت أراه يقطع نفسه إرباً إرباً، ليساهم في كل خير، ويدرأ في شر.

إنه باقة من الجهود الزكية، إنه مكتبة واعية متحركة، إنه سجل لكل ما يقرأ ويشاهد، إنه جامعة في رجل ... كانوا يتغامزون بأنه في عمله الإداري لا يتبع برنامجاً، ولا يتقيد بنظام، وكنت أري فيه نزوعا للحرية لا يطيق القيد (والقيد ولو كان الجمان منظماً لم يحمل)، غير أنه كان لا يستغل هذه الحرية للراحة أو التسلية، للكسب أو للسعي لنفسه، بل كان كالنحلة لا يكل دأباً وعملاً، والناس يلتفون حوله فيقطفون عسلاً .

رأيته بين تلاميذه يعلمهم كما يعلم الأب أولاده، ويرشدهم إلي معاني جميلة في الحياة لو هدوا إلي تحقيقها لارتفع مستواهم، وشاهدته مع طلابه من الدراسات العليا يدربهم ويلفتهم ما يفيدهم في بحوثهم، وحضرته في مجالس الأساتذة يفيض من حكمته، وكان عقله أوسع من أن يحصره في العمل الإداري .. ما سمعته يطعن علي أحد، ومن آذوه غير قلائل، أما هو فقد نبل شميته أن يصفح الصفح الجميل، ويقيم من نفسه الأعذار لأرباب الشذوذ والنشوز، ولا يبادر إلي تخطئة المخطئ إلا إذا نفذ صبره .. وكان إلي التفاؤل أميل منه إلي التشاؤم، يري الدنيا بعين المغتبط المحبور، ويصمد للحوادث في احرج ساعاته، لا يتأفف ولا يسخط مهما ألحت عليه الأوجاع، ويحمد الله علي ما ابتلاه وأنفذه مما  تحبه الطبيعة هي أشد مما وقع فيه.. نعم هو مثال نابغة، لا يلهيه عن تحقيق أمانيه عائق، ولا يدهشه تعقد المشاكل، ولايهنأه العيش إلا إذا  تم له الممكن، لإنجاز ما شغل قلبه ... سار في ناحية عينها لنفسه ولم يجر في خططها علي مثال سابق، فأمتاز بلون خاص من ألوان التأريخ للعصور الوسطي وهو البحث في كل ما لم تبعث به أيدي الباحثين في  الكشف عن تاريخ صعيد مصر فلأول مرة نعرف من خلاله تاريخ قفط، وقوص، وجرجا، والبلينا، وإخميم، سوهاج، وأسيوط، بني سويف .. وهلم جرا.

وكان محمود الحويري إماما في التأريخ لصعيد مصر في العصور الوسطي، كما كان حجة في منهج البحث التاريخي، وكان كاتبا حكيماً، وأكاديمياً عظيماً، كان يحفظ الكثير من كلام المؤرخين قديمه وحديثه، وكان يبتدئ الكلام سهلاً، ثم لا يلبث أن يتدفق سهلاً، وكان رحمه الله بعيد الأغراض، واسع الأهداف، فما ذكر مصر في كتاباته إلا وذكر صعيدها، وما ذكر الصعيد إلا ذكر أسوان موطنه، وما ذكر أٍسوان إلا وذكر معها مدينة دراو، وما ذكرت "دراو" إلا وذكر معها أهله وعترته من "آل الحويري" .. والذي ترك الدنيا فقيراً من كل شئ إلا من الأصدقاء، والمقدرين، والمعجبين، والمترجمين.. تلك هي ثروة الأفذاذ، كبار القلوب، لقد فقدت العصور الوسطي أحب حبيب لها، وأعز عزيز عليها، وأدعو الله سبحانه وتعالي أن يجزيه خير الجزاء.

كما كان الحويري علي كثرة متاعبه، وتنقلاته بين أسوان وسوهاج والقاهرة، يختلس من الليل ساعات، ومن الراحة فترات، فكان يوزعها بين خاصة إخوانه، وكان يخص تلاميذه المقربون من طلبة الدراسات العليا بنصيب من تلك الساعات، وكانت زيارته لا تحين إلا في ساعة من الليل مهما شاء أن يبكر، فقد كان كثير التعاريج في طريقه، ومع ذلك كان لا يتكلف ولا يتصنع... وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم