صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمود محمد الحويري.. المؤرخ والعالم والإنسان كما عرفته (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن أستاذنا الدكتور محمود الحويري ذلك المؤرخ والعالم والإنسان كما عرفته، فأقول: لقد عاش الحويري حياته "مسكونا" بالعصور الوسطى، ولها أعطى جلّ وقته واهتمامه. ودرسها بكل وجوهها وتفاصيلها. وقدّم عنها عشرات الأعمال "المرجعية"، ورسم لها صورة، أقل سواداً وأكثر إنسانية، من الصورة التي سادت عنها طيلة قرون عديدة. وهكذا نال بجدارة لقب "مؤرّخ صعيد مصر في العصور الوسطى" بامتياز، وهو أحد أشهر المؤرّخين الصعايدة، وأحد المرجعيات العالمية المعترف بها في المجال.

ومن مظاهر التجديد لدى محمود الحويري، اهتمامه بما أسماه "الخيال السياسي"، الذي بحث في مكوناته من رموز وطقوس وأحلام وصور. وطبّق ذلك على الفترة التاريخية التي جذبته طيلة حياته، في كتابه " خيال العصر الوسيط".

وحول رؤية الحويري فيما يتعلق بتقسيم التاريخ الإنساني السائد، نجده يؤيد المدرسة الفرنسية إلى مجموعة من الحقب المتمايزة. ويرى في عصر النهضة الأوروبي امتداداً للعصور الوسطى التي سبقته. كما لا يتردد في التساؤل عن ما إذا كان عصر النهضة الأوروبي عصر الاكتشافات والنزعات الإنسانية والعقلانية؟

ويلفت الحويري متابعا المدرسة الفرنسية إلى أن هناك خطأ شائعا، يقول أصحابه انه مع اكتشاف العالم الجديد "أميركا" من قبل كريستوف كولومبوس عام 1492، "تغيّر العالم تماما". ويبين أن هذا رأي خاطئ، فالعالم لم يتغيّر تماما آنذاك، وكولومبوس " إنسان من العصر الوسيط".

والحويري مؤرخ كبير ومحقق أصيل ومؤلف نادر من بقايا العلماء الموسوعيين الذين لم يقفوا عند فترة تاريخية بعينها؛ بل درسوا كثيرا من جوانب التاريخ الإسلامي غير مكتفين بالفترة التي تخصصوا فيها، فأعاد إلينا نماذج العلماء الأسلاف في التعلُّم والتعليم والتأليف، والعكوف على العلم الذي أفنيت فيه الأعمار، هو الراحل الدكتور “محمود الحويري” الذي جمع بين دقة البحث وسلامة المنهج، وجمال الصياغة والأسلوب، والمزج بين علمي الحديث والتاريخ، والانطلاق من الوقائع والأحداث إلى النقد والتحليل الذي يعطينا عبرة التاريخ بجانب سرد قصة الماضي.

وكان الحويري يمثل علامة في دراسة الإمبراطورية، وله دراسة رائعة في الجانب، وهو كتابه الرائع بعنوان رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية، وفي مقدمة الكتاب يقول الحويري: "احتلت الإمبراطورية الرومانية مكانة خاصة في التاريخ، اختلفت عن مكانة غيرها من الدول والإمبراطوريات التي قامت خلال التاريخ، ولا ترجع أهمية هذه الإمبراطورية إلي اتساع رقعتها الجغرافية، التي اشتملت علي مواطن أقدم الحضارات التي عرفها الإنسان، إذ ابتدأت في القرن الثالث قبل الميلاد واستمرت باقية إلي القرن الخامس الميلادي في الغرب الأوربي وإلي القرن السابع في الشرق، ولكن أهميتها ترجع إلي أساسا إلي أنها وقعت تاريخيا في نهاية العالم القديم، فقد تعرضت تلك الإمبراطورية منذ القرن الثالث الميلادي لعوامل الضعف والتفكك من داخلها وخارجها، ففي الداخل استشري الفساد في جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادي والعسكرية، ولم تعد روما مركز العالم وحضارته، بعد أن أسس قسطنطين العظيم عاصمته القسطنطينية في أوائل القرن الرابع، ومن الخارج اشتدت غارات الجرمان والمتبريرين علي حدود الإمبراطورية، حتي إذا أتي عام 476م زالت تلك الإمبراطورية في الجزء الغربي منها، وقامت علي أنقاضها ممالك جرمانية عديدة، وهنا لا ينبغي أن نضع في الاعتبار الرأي الذي نادي به بعض المؤرخين من أن عام 476م يمثل بداية الاختلاف عما ألفته العصور القديمة بأسرها، وإن كنا في الوقت نفسه نتلمس لهم العذر إذا كان الغرض تسهيل دراسة هذه الفترة الزمنية الهامة، التي امتدت ألف عام وكانت أشبه بالوادي بين جبلين شاهقين أحدهما يمثل الماضي والآخر يمثل الحديث، والواقع أننا لا نستطيع علي وجه الدقة أن نضع حداً فاصلاً – أو تاريخياً معيناً – يؤكد نهاية عصر وبداية عصر آخر، لأن الأحداث التاريخية متداخلة بطبيعتها، وإن كانت هناك خصائص عامة لفترة الانتقال التي انسلخت خلالها ملامح العصور الوسطي من العصور القديمة، أبرزها انحلال المجتمع الروماني، وتأسيس الممالك الجرمانية، والقضاء علي الوثنية وظهور الديانة المسيحية، ثم اتخادها ديانة رسمية للإمبراطورية . ويمكننا أن نلمس فترة الانتقال ونتتبعها برجوعنا إلي الوراء عند مستهل القرن الثالث، دون أن نرتبط خلاله بسنة معينة نحدد بها مطلع العصور الوسطي .

وفي هذا الكتاب تناول الحويري بالدراسة أوضاع الفترة الأخيرة من الإمبراطورية الرومانية، وهي فترة زمنية تميزت بتشعبها وشدة تعقيدها، لما حملته بين طياتها من تغييرات وأحداث هامة، تناول الحويري جوانب التاريخ السياسي والعسكري والديني والاجتماعي والاقتصادي . وقد استهدف الحويري من وراء ذلك الوقوف علي سمات – أو فجر – العصور الوسطي الأوربية، وهنا يقول الحويري :" ولا بد لي من القول بأن تلك الدراسة قد سبقني إليها أساتذة ثقاة أجلاء متخصصون في تاريخ العصور الوسطي، ومن ثم لا أزعم أني أتيت بالجديد فيها . فمن الصعب علي أي باحث أي يقدم شيئا في موضوع قد طرقه غيره بعناية، وقد يكون التجديد في الطريقة – أو الرؤية – التي يعالج بها أحداث الموضوع، مع إبراز لنواح لم يطرقها غيره أو مسها مساً خفيفا . وهو ما حاولت الوصول إليه، وكان من أسباب اختيار عنوان الكتاب علي الوجه الذي صدر به .

وقد خصص الحويري الفصل الأول لدراسة " أحوال الإمبراطورية الرومانية في القرنين الثالث والرابع "، فتناول الحويري ما أصاب تلك الإمبراطورية من ضعف وجمود انعكسا علي جميع أحوالها، ذلك أن الفتوحات قد توقفت، واصحي علي الإمبراطورية أن تحافظ علي حدودها، وتدهور النشاط الاقتصادي،وتضاءل نفوذ طبقة السناتو، وانحدرت الطبقة الوسطي، وانعدام النظام بين صفوف الجيش لاسيما بعد أن استعان الأباطرة بالجند المرتزقة، وأدخلوا البرابرة في صفوف الجيش، مما أدي إلي القضاء علي مجد الإمبراطورية الحربي، وقد تناول الحويري في ذلك الفضل أيضا التغير الذي طرأ علي المنصب الإمبراطوري، والدور الذي لعبته الفرق العسكرية في تنصيب الأباطرة، بعد أن اختفت السلطة المركزية، وصارت الولايات تحت حكم زعامات محلية، وفي أواخر القرن الثالث وصل دقلديانوس إلي عرش الإمبراطورية، فأدخل بعض الاصلاحات وأعاد تنظيم الجيش، ثم أتي من بعده قسطنطين العظيم الذي اعترف بالمسيحية من ناحية، ونقل العاصمة إلي القسطنطينية من ناحية أخري، ولا شك أن ما قام به كل من هذين العاهلين ساهم في إنهاء الأوضاع القديمة في أوربا .

أما الفصل الثاني وعنوانه " المسيحية والإمبراطورية الرومانية "، فقد تحدث الحويري فيه الديانات الوافدة من الشرق، وهي كيبيلي من آسيا الصغرى، وميثراس من فارس، وإيزيس من مصر، وأوضح الحويري أن تلك الديانات رغم انتشارها الواسع بين الطبقات الفقيرة والوسطي، إلا أنها لم ترض بعض المثقفين، فاتجوا إلي المذاهب الفلسفية، خاصة الرواقية التي اتفقت مع تقاليد المجتمع الروماني . وكان أن ظهرت المسيحية التي أعطت الأمل للمواطنين الرومان، وسط ظلام البؤس الذي أحاط بهم، ولكن التعاليم التي أتت بها تلك الديانة قوضت أركان العالم القديم، فلحق الأذى والاضطهادات بأتباعها، حتي كتب لها النصر في النهاية . كما ألقي الحويري الضوء علي آباء الكنيسة، الذين كان لهم الفضل في استئصال شاقة الوثنية.

وفي الفصل الثالث وهو بعنوان " المجتمع الجرماني وعلاقته المبكرة بالإمبراطورية " تناول الحويري فيه عادات ذلك المجتمع وتقاليده، كما وصفها المؤرخ تاكيتوس، وتعرضت لبنائه وجوهر تنظيمه السياسي ودور المرأة فيه . وفي هذا المجال أبرز الحويري تحرك الجماعات الجرمانية من مواطنيها الأصلية فيما وراء نهري الراين والدانوب إلي حدود الإمبراطورية في القرن الأول، ثم تتبعت غزواتها التي غدت بمثابة ضغوط مستمرة علي طول الحدود منذ أواخر القرن الثاني.

أما الفصل الرابع وهو بعنوان " غزوات الجرمان وتأسيس ممالكهم في غرب أوربا "، فقد عالج الحويري فيه أهم الجماعات الجرمانية التي اقتحمت حدود الإمبراطورية ومزقت أوصالها، وهي جماعات الهون والقوط الغربيين، والوندال، والأليماني، والبرجنديين، والفرنجة، ثم تناول الحويري كيف ظهرت تلك الجماعات تاريخيا، وعني الحويري بتوضيح أحداثها، خاصة بعد أن تغلغلت في أراضي الإمبراطورية الغربية حتي استطاع بعضها تأسيس ممالك علي أنقاض تلك الإمبراطورية في القرن الخامس الميلادي، والجدير بالذكر أن تلك الجماعات التي تغلبت علي الإمبراطورية الغربية اختلفت في طباعها، فمنها من نشر الرعب والفزع في أنحائها مثل الوندال، ومنها من انتهي المطاف بها إلي العيش في وثام مع الإمبراطورية ونهلت من حضارتها مثل البرجنديين، ومنها من أخذت تحركتها طابع الاستقرار، بدلا من مجرد غزو هدفه الحصول علي كسب مادي، مثل الفرنجة .

وفي الفصل الخامس والأخير وهو بعنوان " سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب الأوربي (476م) رأي الحويري أن يبدأ بسنة 395م، التي انقسمت فيها الإمبراطورية الرومانية إلي شرقية وغربية، مما جعل الأحداث في الشرق تسير في طريقين مختلفين . ففي الغرب سيطر القادة العسكريون علي مقاليد الأمور، وصار بيدهم تولية الأباطرة وعزلهم، في الوقت الذي أخذت فيه الشخصيات الرومانية الطموحة تحارب بعضها بعضا أملا في الوصول إلي العرش، وفي ذلك الفصل بين الحويري أن أحداث الإمبراطورية الغربية في تلك الفترة المظلمة من تاريخا، لا يمكن فصلها علي أحداث الإمبراطورية الشرقية المعاصرة آنذاك، وقد عالج الحويري انثيال العناصر الجرمانية والمتبربرة علي إيطاليا سنة 476م بحثا عن الخط والمغامرة، حتي استطاع زعيم متبربر عزل آخر أباطرة روما وإعلان نفسه ملكا علي إيطاليا . وفي نهاية ذلك الفصل أورد الحويري آراء بعض المؤرخين حول تدهور الإمبراطورية الغربية، وسقوطها فريسة في أيدي الجرمان .

وثمة نقطة مهمة وجديرة بالإشارة وهي أنه عقب انتهاء الحوير من الانتهاء من كتابة رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية، شرع بعد ذلك علي الفور في تأليف كتاب بعنوان " اللومبارديون في التاريخ والحضارة 568-774م، وقد صدرت طبعته الأولي عن مؤسسة دار المعارف المصرية سنة 1986م، وفي مقدمة هذا الكتاب قال الحويري :" رأيت بعد أن صدر كتابي " رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية " أن أتبعه بآخر يتناول أساسا أحد الشعوب الجرمانية المتبربرة التي غزت الإمبراطورية الرومانية وأسست ممالك لها، خاصة أن من كان لهم سبق الريادة في الاشتغال بتاريخ أوربا العصور الوسطي، وقدموا للمكتبة العربية فيضا من مؤلفات وترجمات ضافية في إبداع وأصالة وسعة أفق، لم يقدموا دراسة مستقلة عن شعب جرماني ما، باستثناء الأستاذ الدكتور " إبراهيم طرخان"، الذي وضع كتابه القيم " القوط الغربيون" . وأخيرا وجدتها فرصة مواتية لأقدم جهد المقل دراسة شاملة عن اللومبارديين في إيطاليا تعالج تاريخ مملكتهم وحضارتها .

ويستطرد الحويري فيقول : ومما حدا بي إلي اختيار هذا الموضوع أن اللومبارديين علي عكس الشعوب الجرمانية الأخرى، كانوا آخر شعب جرماني يشق طريقه إلي إيطاليا غازيا فاتحا سنة 568م، قادماً من " جرمانيا" عالم البرابرة الواسع، حاملا معه تقاليده وعاداته نقية من الحضارة الرومانية، حيث قدر له أن يلعب دورا رئيسيا في أحداث هذا القطر علي مدي قرنين من الزمان ونيف . كذلك لم يحظ هذا الموضوع إلا بفصل في الكتاب القيم المعروف الذي وضعه الأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، وهو " أوربا العصور الوسطي" الذي طبع عدة مرات، ولا زال يلاقي قبولاً واسعا في جامعات العالم العربي، وفيما عدا ذلك، فليس هناك غير صفحات أو جزء من فصل تناول هذا الموضوع من زاوية ؟

ثم يقول الحويري: "وبداية أود القول أنه كان بوسع الإمبراطورية الرومانية أن تحافظ علي وحدتها وتماسك بنائها خلال الفترات التي تعرضت فيها لغزوات الشعوب الجرمانية في القرنين الثالث والرابع للميلاد، ولكن أحوالها السيئة وأباطرتها الضعاف حالوا دون حماية حدودها . وقد حاولت الإمبراطورية في الغرب الأوربي إبان القرنين الأخيرين من حياتها أن ترد عنها غائلة الجرمان، ولكن محاولتها باءت بالفشل، حتي إذا أقبل عام 476م كانت أعجز من إنقاذ نفسها من الانهيار . ففي هذا العام دهمها طوفان من الجرمان والبرابرة، جعلها تسقط فريسة سهلة في أيديهم . علي أنه رغم سقوطها العاثر، وضياع وجودها السياسي القديم، فإن فكرة تلك الإمبراطورية ظلت عالقة في أذهان الأوربيين طوال العصور الوسطي . بدليل أن الأباطرة الشرقيين اعتبروا أنفسهم امتدادا للأباطرة الرومان السابقين وورثتهم، وما حدث في رأيهم سنة 476م أنه لم يعد ثمة سوي إمبراطور واحد للإمبراطورية يحكم في الجزء الشرقي منها . والحق أن الإمبراطورية الرومانية الغربية بعد انهيارها لم تعدم بعض الأباطرة البيزنطيين العظام، الذين عقدوا نيتهم علي ضرورة إحيائها، وإعادتها إلي سابق مجدها قوية موحدة . وكان من أبرزهم جستنيان (527-565م)، الذي تمكن بفتوحاته الكبيرة من القضاء علي ممكلة الوندال في شمال أفريقية، واجتثت جذورالقوط الشرقيين من إيطاليا، كما اقتطع الجزء الجنوبي الشرقي من مملكة الغربيين في أسبانيا . بيد أن الجهود التي بذلها العاهل البيزنطي لإحياء الإمبراطورية الرومانية القديمة، مع كل عظمتها وصدق دوافعها، لم تحقق الهدف المرجو منها، إذ بعد موته بثلاث سنوات، اجتاح اللومبارديون إيطاليا، وسلبوا أجزاء عديدة من أراضيها . إذ انثالوا عليها من وراء الألب في صورة كتلة متراصة، في وقت كانت تئن تحت وطأة الشقاء والويلات التي خلفتها حروب جستنيان . وما أن انقضي زمن وجيز حتي استطاعوا الاستيلاء علي شمال إيطاليا والأجزاء الداخلية التابعة لبيزنطة، حيث أسسوا مملكة عاشت بين سنتي 568، 774م، تغيرات خلالها أحوال تغييراً جذرياً .وبعيارة أخري، دخلت إيطاليا مرحلة جديدة من تاريخها، من أبرز خصائصها ذلك النزاع الذي احتدم بين هذه المملكة والقوي السياسية وهي : الإمبراطورية البيزنطية، والبابوية، ومملكة الفرنجة في الغال (فرنسا) . ولعل القارئ الكريم المشتغل بتاريخ أوروبا العصور الوسطي، يستطيع أن يلمس أن أوضاع مملكة اللومباردين التي ظهرت علي صفحات هذا الكتاب، لتشعب تاريخها وتشابك أحداثها، وإن كانت مقصودة لذاتها، إلا أنها كانت أيضاً محوراً لدراسة القوي السياسية السالفة الذكر، التي غيرت مجري تاريخ هذه المملكة .

وأيا كان الأمر، فقد رأي الحويري أن يقسم الكتاب إلي خمسة فصول، الفصل الأول، وعنوانه " اللومبارديون قبل غزوهم إيطاليا" تحدث فيه عن الفترة المبكرة من تاريخهم التي عرفوا خلالها بالعنف والضراوة، والميل إلي خوض الحروب، وتتبعت هجراتهم وتحركاتهم إلي أن صاروا في منطقة الدانوب الأوسط بجوار بانونيا في حوالي سنة 165م . ومما يذكر أن المصادر التاريخية الرومانية والإغريقية تقف منذئذ صامتة حيال أحداثهم لفترة تزيد عن ثلاثة قرون (166-508) . وقد تناول الحويري في هذا الفصل أيضا الحروب التي دارت بينهم وبين القبائل الجرمانية الأخرى، وعلي وجه الخصوص الهيرولي والجيبدي، حيث أسقطوا الأولي من قائمة الشعوب الجرمانية المستقلة، مما يترتب عليه علو شأنهم من ناحية، ولفتوا أنظار الإمبراطورية كقوة يحسب لها حساب خطير من ناحية أخري، أما بالنسبة للجييداي، فقد أنزلوا بهم كارثة، لم تقم لهم بعدها قائمة .

أما الفصل الثاني، وعنوانه " اللومبارديون في إيطاليا " فقد ضمنه الحويري أحداث الغزو اللومباردي لإيطاليا، وما صاحبه من تساقط مدنها الشمالية الواحدة بعد الأخرى دون مقاومة تذكر من الأهالي أو الحاميات البيزنطية . ولا شك أن الحروب التي جرت علي أرض إيطاليا في السنوات الأخيرة من عهد جستنيان، والتي عادت بأوخم العواقب عليها وعلي سكانها الآمنين، قد منحت ألبوين – فاتح إيطاليا –ميزة جعلته يحقق هدفه بسهولة، ونعني بذلك قيام مملكة اللومبارديين في إيطاليا، وفي هذا الفصل أيضا تحدث الحويري عن فترة انقطاع الملكية المعروفة في تاريخ اللومبارديين بفترة الشغور (574-584م)، وما تخللها من تفاقم حدة الخلاف والمنازعات والفوضي داخل صفوف دوقاتهم، وهي ظاهرة خطيرة لا نجد لها نظير في بقية الممالك الجرمانية الأخرى . علي أنهم في نهاية تلك الفترة أدركوا أن انقسامهم لي أنفسهم في غياب السلطة المركزية، وما جره ذلك من تحالف بين الإمبراطورية البيزنطية ومملكة الفرنجة جاء نذير بضياع كيانهم، كل ذلك جعلهم يفيئون إلي رشدهم، ويجمعون كلمتهم علي عودة الملكية وتدعيمها .

ويعرض كتاب الحويري في الفصل الثالث منه، وهو بعنوان "صراع القوي السياسية في إيطاليا في القرن السابع " لنهوض البابوية، وظهورها في صورة قوة سياسية لعبت دوراً رئيسياً في أحداث إيطاليا في هذا القرن . ذلك أن الإمبراطورية البيزنطية وريثة الحق الشرعي في إيطاليا لم تتراجع عن موقفها العدائي من اللومبارديين، وبمعني آخر لم يمسك أباطرة بيزنطة أيديهم عن إيطاليا، ولكن عجزهم الواضح عن رد اللومبارديين من ناحية، وفشلهم في حماية الكرسي البابوي من ناحية أخري، جعل البابوية لا تأخذ موقف المتفرج السلبي، إذ نهضت بأعبائها، ومارست سلطتها العلمانية علي روما ضواحيها . وتأسيساً علي ذلك أخذ نفوذ البابوية في الازدياد، وخاصة في عهد جريجوري العظيم ( 590-604م) الذي تأهب للدفاع عن روما ضد اللومبارديين . وفي هذا الصدد مكنته موارده المالية الضخمة ونفوذه القوي، من تحمل مسئولية الحفاظ علي مدينته وتأمينها . وحرصا علي مصالحه بذل جهده لإبرام اتفاقية سلام بين اللومبارديين والبيزنطيين في سنة 599، جاءت بمثابة اعتراف صريح بالوجود اللومباردي في إيطاليا، رغم حقيقته المؤكدة . وفي هذا الفصل أيضا استعرض الحويري أعمال الملوك اللومبارديين في الربع الأخير من القرن السابع، فضلا عن الوضع السياسي الذي بقيت عليه إيطاليا مقطعة الأوصال، وموزعة بين ثلاث قوي، اللومبارديين، وبيزنطة، والبابوية.

أما الفصل الرابع، وعنوانه، " اللومبارديون في إيطاليا في القرن الثامن "، فقد تحدث الحويري فيه عن أهم أعمال ليوتبراند أعظم ملوكهم قاطبة، وكيف استغل النزاع الدائر بين البابوية والإمبراطورية البيزنطية حول النزاع اللاأيقوني لصالحه، فعول علي بسط نفوذه في إيطاليا كلها، ولكن البابوية فوتت عليه غرضه . إذ في سبيل المحافظة علي بقائها وتأمين مصالحها، استعانت بقوة سياسية من خارج شبه الجزيرة الإيطالية، وهي مملكة الفرنجة . والواقع أن سياسة هذه المملكة في بداية الأمر كانت تقضي بالامتناع عن التدخل في شئون إيطاليا، إلي أن تمكنت البابوية من اجتذابها إلي جانيها ضد اللومبارديين، الأمر الذي يعتبره الحويري أول سابقة خطيرة من نوعها في تاريخ إيطاليا العصور الوسطي، أحدثت انقلابا في ميزان القوي السياسية لصالح البابوية، في الوقت الذي كانت بداية النهاية لمملكة اللومبارديين . وأخيرا لم تستطع هذه المملكة أن ترد عنها قدرها العاثر، فسقطت علي أيدي شارلمان عاهل الفرنجة سنة 774 . ويعتبر سقوطها أمرا حاسما في تاريخ إيطاليا، حطم القاعدة الصلبة التي كان بإمكان الوحدة الإيطالية أن ترتفع عليها، واستحال تحقيقها حتي الثلث الثاني من القرن التاسع عشر.

أما الفصل الخامس والأخير، وهو بعنوان "حضارة اللومبارديين"، فبحث الحويري في أوضاع اللومبارديين الحضارية المتمثلة في تنظيمهم السياسي، وديانتهم، وجيشهم، ورومنتهم، ورعاياهم الرومان، ومجتمعهم، وحياتهم الفكرية، وفنهم، وعمارتهم، وفي هذا الفصل أيضا ألقي الحويري الضوء علي أحوالهم في القرن السابع، وإذ توقفوا عن كونهم برابرة أجلاف بسبب تأثرهم بالحضارة الرومانية، ويتضح ذلك في تحولهم إلي المذهب الكاثوليكي، واستخدام اللغة اللاتينية لغة رسمية، وصياغة قوانينهم ذات الطابع الجرماني المحض.

وفي النهاية فإن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا الأستاذ الدكتور المؤرخ محمود الحويري حقه، صحيح أن هذه الكلمات جاءت متأخرة فكثير ممن يطلقون علي أنفسهم لقب أساتذة لا يعرفون قدر هذا الأستاذ المؤرخ، فتحية طيبة للدكتور محمود الحويري الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر المبدع الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الدكتور محمود الحويري، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم