صحيفة المثقف

سامي عبد العال: هل تبكي الشعوب؟!

سامي عبد العالليس أقبح لأنفسنا من البكاء عويلاً حول ما لا نستطيع فعلَّه، ثم نذرف الدموع الساخنة كالضعفاء ونلعق التاريخ الذي لن يأتي واسعاً لنمُر. والقبح بهذا المعنى كارثة في حق أنفسنا نحن العرب وبخاصة مع العجز إزاء الأحداث السياسية الكبرى. لأنَّ ذلك يعنى انعدام القدرة على أنْ نكون بمستوى الحياة لا بعض الأعمال فقط. هل يسمعُ العالم مثلاً صراخ العرب حول قضايا تاريخية كموضوع القدس أو احتلال اسرائيل للأراضي العربية وقتل الشباب والأطفال الفلسطينيين؟ ماذا يفيد البكاءُ وسط تحولات الاقتصاد وعواصف السياسة وتطور المعارف والعلوم والتكنولوجيا والحضارة؟... فهذا ما وصلت إليه المجتمعات القويّة التي تعيش عصرها خارج حدودنا، بينما نحن نستعيض عن الانجاز بالإعجاز، ونكتفي بالاستنكار دون الابتكار، وننعم بالإستحمار عوضاً عن التحرر والاختيار.

البكاء أساساً فعل فردي نتيجة الإحساس بالقهر والأسى والضياع، ولو تأملناه زمنياً لوجدناه نوعاً من الخُذلان والندم على ما فات. أمَّا لو كان عملاً جمعياً حول الآمال التي أرهقت الشعوب (هكذا بصيغة الجمع)، فهو طقس جنائزي ليس أكثر، جنازة تواري كياننا تحت التراب دون رجعةٍ (أو هكذا من الأفضل للشعوب المقهورة أنْ تفعل). أن تحمل أكفان الخزي لتتعلم كيف تواري سوءة حياتها، لأنها لا تستطيع الدفاع عن الوجود والآمال وعن الأشقاء المحتلين.

إنَّ البكاء يأتي هذه المرة من العرب تجاه مأساة حقيقية لفلسطين والتهام اسرائيل لوجودها التاريخي والإنساني. إن فلسطين هي الجرح النازف منذ سنوات وسنوات ولم يلتئم، ويبدو أن مصيرها سيظل مجهولاً طالما تم تعليقه بأهداب دامعة وإرادة هشة. حتى غدت ثقافة المقاومة بهذا الطابع هي أدبيات الندب والشجب والتنديد وشق الجيوب ولطم الخدود واغراق الشاشات بالبصق والشتم، وذلك الأمر أصبح ظاهراً من أعلى المؤسسات الحكومية العربية وحتى الشعبية، وكأننا نجسد عجزاً تاريخياً يكبل وجودنا دون هوادة!!

أخشى ما أخشاه أنْ تذهب الإنسانية نحو "المستقبل الافتراضي" في حين نرجع نحن العرب إلى حيوانية بدائية. وأنْ نقبل- تحت مطرقة الانتهاك الأمريكي والاعتداءات الاسرائيلية- أدوار القبائل البائدة طائعين خانعين كما كنا في الحروب القريبة منذ منتصف القرن الماضي. ونستل ريشات حول رؤوسنا لنستغرق قرونا في أصوات تغمغم تجاه بعضنا البعض دون مجيبٍ. ثم نمارس ركض الوجود بشكل عبثي فوق الموت وعبر الأوهام السياسية الوثيرة .

للأسف كان هذا حال العرب بعد إعلان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وها هو يتكرر مع الاعتداءات الدامية على غزة والقتل المتواصل على الهوية الفلسطينية. لو نتذكر جيداً، فإنه قبل توقيع دونالد ترامب بأيام على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أخذت الفضائيات العربية في النباح الشاكي الباكي حتى الرمق الأخير. وللأسف لم تكن شعوبنا أكثر شأواً من ترجمة حرفية لمقولة عبدالله القصيمي: " العرب ظاهرة صوتية". فلم يفعل رئيس أمريكا الأشقر آنذاك سوى أنْ نكأ الجراح بأظافره الحادة.

هي جراح الهزائم من الأندلس ونكبة فلسطين ثم نكبات العرب بإهدار التنوع العرقي والديني والفكري والثقافي في مجتمعاتهم... وصولاً إلى قرب ضياع التاريخ والجغرافيا وبقايا الحضارة. وراهناً ظهر شتات الإنسان لدينا في مرآة الواقع العربي اليومي، هذا إنْ كان الواقع يرى شيئاً أصلاً. لأنه واقع أعمى يدهس الشعوب وحقوقها بلا استثناء. وربما أنَّ عجلة التقهقر إلى الوراء ستأكل مزيداً من لحمنا الحي، وربما لن تقتل ولن تدغدغ، بل ستمزق أنسجتنا بكل قسوة إن لم ننتبه بقوة!!

لقد استغلت اسرائيل ذلك الوضع الباكي لتتوغل في جسد فلسطين الحي وقد مزقته إرباً إرباً ما بين الضفة والقطاع وأزالت الحدود والكتل السكانية وأخذت في تسريب المستوطنات داخلها تمهيداً لقطع مفاصل المجتمع الفلسطيني وتكسير وحدته. ويجري كل ذلك تحت سماع دوي الصراخ والبكاء العربي من المحيط إلى الخليج. الحكام يتأتئون ويرغون ويزبدون أمام هذه الكوارث بينما تحملهم الشعوب المسئولية التاريخية عن ضياع فلسطين. ومن الاتجاهين لم يظهر غير النحيب الشعبي الذي يكاد يُغرق الخريطة العربية.

والأبعد أسفاً أنَّ البكاء هو الطريق العائد إلى نشأة العجز العربي في التاريخ. هو عجز موروث وله أسبابه وأشكاله حتى باتت الأجيال تسلمه بكل أريحية إلى بعضها البعض. من يُرد أن يعرف أين جذوره، فليحفر داخل بكاء الأطلال والبكاء فوق أشباح القبور وأمام خيمة المحبوبة وعلى الخرق البالية من المناصب الرسمية وآثار السلطة وزوالها وأمام سياسات الافقار والتوسل بالأضرحة والأولياء والدراويش وتصيد لقيمات ضالة لسد الجوع من المارة واستجداء الحقوق المشروعة من الأنظمة السياسية المغتصبة.

فكرة البكاء لدينا هي تصفية حساب سريع التأثير مع الذات ومع الواقع حتى لا نشعر بأية مسئولية أخرى. ولكن عندما يتحول إلى مناخ عام، يعدُّ ندباً للحظوظ وإضاعة الفرص نحو حياة أفضل للشعوب. أقرب الأمثلة هذا البكاء والنواح مع كل ظهور للأحداث الارهابية والسياسية التي تتحول إلى تراجيديا حية بدلاً من رسم الخطط والاستراتيجيات للنهوض بالمجتمعات العربية الاسلامية.

والغريب أن الاحداث والكوارث الناجمة عن الفقر والتجويع والتخلف لها إتباعها النوّاحُون الذين يتزايدون ويهرعون وراءها كما يهرعون إلى المراقد المقدسة. ويمثلون الأداء الباكي في طقوس جماعية نراها جميعاً على شاشات التلفاز من لعن الأقدار واستجداء الحلول السياسية والدعاء للحكام والمسئولين برغد العيش وطول المقام. ذلك لعل الله يرفع الوباء والبلاء عن حياتهم، وكأنَّ هؤلاء الناس النوّاحين لا يعرفون أن الكوارث فعل بشري له جذوره التاريخية التي يمكن معالجتها لو كانت هناك دول ديمقراطية حقيقية وأن السياسة ليست أقداراً ندفعها بالبكاء والعويل وأن حياة العوز مجرد سياسات مفروضة بقوة الواقع ونهب الثروات.

وتكملة لتلك الظاهرة العربية التي تحل بألف وجه وقناع، نجد أنه حتى في غمرة الحب والتعلق بالمحبوبة سيحدو اللغة (كحداء الإبل) هوس البكاء والتمسح ببيت المحبوبة كمن يتمسح بالأضرحة ويقبلُّها يميناً ويساراً، ولا يغيب التماثل الثقافي لذلك الوضع في ظواهر أخرى على خلفية ذاكرة البكاء (عشقاً وموتاً وتقديساً) خلال تاريخنا الشعبي كما ينشد قيس بن الملوح بصدد بيت ليلى:

أمُر على الديار ديار ليلى ... فأقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا

وهنا الانتقال وارد تماماً من ذاكرة الشعر كلغة إلى إمكانية البكاء العام بالطريقة نفسها نتيجة ضعفة الشعوب والمجتمعات وانتشار القهر والخنوع. لكن الذي يختار هذا الشكل من الحياة لا يستحق أنْ ينتصب إلى أعلى، عليه أنْ يهلك كمداً بين الحفر والجدران المهدمة. وإذا كان العرب ينهمكون بالغناء والرقص في هذه الأثناء لمغالبة الواقع الكئيب ونسيانه، فليس ذلك سوى الهروب الكبير حيث الانحدار.

السؤال المفصلي إذن كالتالي: كيف نرفض ذلك المصير العربي العاجز إزاء الأحداث؟! يضعنا أبو القاسم الشابي في متن قصيدته " إرادة الحياة "... لا لكي يحوطنا بنظرات عابرة، لكنه يسكب داخل المتلقي بعضاً مما يشعر كنوع من تطهير الرواسب التاريخية. أليس الشعر هو أكبر علاج للشعوب الفاقدة للبوصلة الثقافية؟! ألم يكن الشعر الحقيقي هو وجدان الشعوب والمحرك لها؟! فالشاعر دوماً لن يتحدث بلسان الأنا الفردي التي يمجدها نيتشه في كتابه (هذا هو الإنسان) ذات عناوين وأسئلة براقة: (لماذا أنا مُدمر، لماذا أنا حكيم، لماذا أنا مُهلِّك؟!)، بيد أنَّ إطار المعنى لدى الشاعر التونسي مختلف تماماً: " إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلابد أنْ يستجيب القدر" (أبو القاسم الشابي، أغاني الحياة، الدار التونسية للنشر والتوزيع، تونس 1970، ص 240).

لأنَّ القدرة الشعبية الحية ليست موضوعاً فردياً كإرادة الأبطال في الأساطير اليونانية، ولا هي قرينة نَفَسْ العنترة (نسبة إلى عنترة بن شداد) كرمز للقوة والتحدي إزاء القبيلة. لكن القدرة الشعبية هاجس حيوي لشعب ما هو الأمل. ليس متميزاً من بين الشعوب الأخرى لكنه بمثابة: الشعب النابض بالحياة وكفى .. هكذا بصيغة ألف ولام التعريف. حيث إنَّه أي الشعب ليس مجهولاً إلى ذاته ولا مقذوفاً إلي الحياة بليلٍّ، وبالتأكيد فإن كل شعب من هذا الصنف هو غير تلك الشعوب الباكية إذا أراد. مما يتوقف عليه تحريك الأمور بقبضة الجمع إزاء التحديات والكوارث.

هنا فإن الإرادة الإنسانية تسبق كل الكائنات، لأنَّها ليست أعمال كائنة إنّما هي ضرب من الأصالة، التفتُّح، الانبثاق، الفيض. ففعل الشرط (إذا الشعب يوماً أراد...) هو زمن فاعل لا يحتويه توقُّع دون أنْ يكون الشعب هو القائم به. و الشعب كلمة لا يوازيها القدر أيضاً، لكنه بمثابة القدر ذاته بموجب سبق إرادة الشعب نحو ما يريد. وبالتالي يبدو فعل الشرط جواباً للشعب الحر في الوقت عينه. أي أن الزمن واحد رغم اختلاف النقلتين بين الإرادة والفعل وبين التحدي والاستجابة. فمن يحرك القدر هو الشعب ومن يستجيب هو بالمقابل قدر الشعب. وكأنَّما الأقدار في الحياة تلتقي في حركة عامة لدى الشعوب، فنحن من نصنعها ونصر عليها ونواصل الحياة عن طريقها.  والأقدار بالمثل تشبه الحياة العامة في الثورات والسياسة وفن العيش وحرية المصير لأنَّها إرادة وجود الكل لا البكاء والنحيب.

وربما ذلك بمثابة الاستثناء الخاص الوحيد الذي يعتبره أبو القاسم الشابي قاعدةً عامة. فالحقيقة يحملها ما يترتب على الاستجابة بالمعنى السابق.. " ولابد لليل أن ينجلي.. ولابد للقيد أنْ ينكسر" (الديوان نفسه، ص240). والبُدُّ المذكور هنا عبارة عن فعل حتم يأخذ مساره بفضل الهدف منه كما ترتئيه الشعوب. فلابد لليل أن ينقشع.. هذا الدال اللغوي والثقافي الذي يتشكل بمجمل المعاني التي قد يستدعيها في المجتمعات. فالليل هو الظلم، هو القهر، هو المأساة، هو الضياع، هو الذل، هو العبودية، هو الاحتقار (أسباب البكاء العاجز كما نراها الآن). فتلك الأشياء الباكية لا يصح( فيما وراء التعبير) أن تتجسد كظواهر على صعيد شعبٍ ما. لأن الأخير يمتلك من الاستثناءات الكاسحة ما يجعله صاحب أي قاعدة يريد، بما فيها كسر جميع القيود. حتى أنَّ الضرورة التي قد نراها محكمةً وقاهرةً ستبدو من ثمَّ احتمالاً وارداً باستمرار. فلا ضرورة هنالك أيا كانت تحُول دون إرادة الشعوب الحرة.

ولذلك لا معنى للبكاء الذي يمارسه العرب إلاَّ أن يكون نوعاً من التنفيس المُر عن عجز الإرادة العامة. ذلك حين لا يقوى الإنسان على تجاوز الحواجز والمشكلات، شاعراً بالهزيمة النكراء دون مفر. وعندئذ يجعله النكوص على النفس محتقناً ومتجمداً على شفا الضياع. إذ كيف سيفعل شيئاً خارج التوقعات بينما تخُور كلُّ قواه؟! وبأي سبيل يدفع أمراً قاهراً كان قد قصم ظهره من قبل؟ إنَّ الحياة لا تُعطي أسرارها وقواها الخفية إلَّا لمن يمخر أمواجها العاتية. "ومن لم يعانقه شوق الحياة... تبخّر في جوها، واندثر" (الديوان نفسه، ص 240).

ولعلنا الآن في المجال العربي– بعدما لم نفهم استثناء أبي القاسم الشابي- نحصد ثمار سنوات العبودية لكل من هبَّ ودبَّ. عبوديةٌ لحُكام وساسة أقزام لا يرتفع رأس أحدُهم أعلى من رباط حذائه، وعبودية لمجتمع قاهر يطاردنا ليلاً ونهاراً كالحيوانات في الغابة، وعبودية لرجال الدين لنجعلهم الأكثر صيتاً والاعلى خطاباً والأقوى قداسة، وعبودية لصورة الدولة المارقة إسرائيل كأنها مصير العرب الحتمي. وتحولت أجواء الديانات التوحيدية إلى أجواء وثنية يمتطيها اللصوص والإرهابيون والساسة لاقتناص مآربهم. لأول وهلة قد لا تُريد بعض الشعوب هنا أو هناك الحياة الحرة، لأنَّها لم تصب بعدوى (ألف ولام التعريف كما أشار أبو القاسم الشابي)... فهي مازالت فاقدة للوعي الثوري، لوعي الحياة كما هي في نزقها وصلابتها.

إن جفاف نبض الحياة يؤدي إلى جفاف الروح، روح التطلع إلى الأعالي. ما أجمل أنْ يعيش الإنسان فوق الذرى ليشتم رائحة السحاب وينغمر بهواء الجبال النقي والأبدي.... يواصل الشابي " ومن لا يحب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر" (الديوان نفسه، ص 241). لأنَّ سريان روح الحياة يجب أن يدفع إلى" الما فوق ". إنَّ الشعب برمته قد يكون متسلقاً جيداً للجبال دون السقوط بينما يعجز آحاده عن ذلك. لكن في جميع الأحوال عليه ألاَّ يخاف شيئاً لأن الحياة مغامرات فوق الذري بلا سقف.

وأي شعب سيصعد إلى الحرية فإنما يدخل هذا الاحتمال الكوني الإنساني، مع الطبيعة والحياة كتفاً بكتف وساقاً بساق ورأساً برأس." فلا الأفقُ يحضن ميت الطيور... ولا النحل يلثم ميت الزهر" (الديوان نفسه، ص241). إن المجاز الوسيط المفهوم ضمناً هنا هو الطبيعة، تلك الطاقة النامية في كل الكائنات. وهي القانون الذي يسري داخل الحياة طراً من أقصاها إلى أدناها. إنّها النور الذي يشد الجميع نحوه، قائلاً: إليك هذا التجلي الأبرز في الوجود. أليس ترى أنَّ الحياة أكثر إبداعاً لو تظللت بنورها؟

لكن كيف يكون النور ظلاً.. وهو النور الخالص؟! إذ لا ماهية له ولا ظلام فيه حتى يتظلل به الإنسان. سؤال يحتاج إلى ممارسة تجارب الحرية لا الإجابة عليه بشكل نظري. والأهم بالنسبة للبكاء العربي، هل الشعوب العربية ضد حياتها؟! هل بإمكان شعب أنْ يكره نفسه من خلال كراهية الحياة؟ هل تريد شعوبنا العيش في الظلام حقاً طالما تستمرئ العبودية والبكاء؟ بالطبع لا، لكن.." من تعبد النورَ أحلامهُ... يباركه النورُ أنَّى ظهر"( الديوان نفسه، ص 243).. فعلى الدوام هناك نور بلا ظلام ولو كان محجوباً حينما يتطلع الإنسان إليه. أي عندما يشق النور طريقه باتجاه الإشراق، حيث يفترض تجلياً لا يعود مظلماً مهما يكن. ولأنَّ التطلع للمستقبل يجب أنْ يكون ديدناً موصولاً للمجتمعات الحية، فإنَّه يكتسي هدوء العبادة وقوتها، إنَّه طقس وجودي مع الكائنات التي تستحم يومياً بأشعة النور. كأنَّ التطلع نحو هذا الهدف الحر أو ذاك نوع من القداسة، فهناك المباركة الآتية بأنفاس إلهية وراء الغمام لكل ساعٍ نحوه. وهي في النهاية أنفاس إنسانية حرة نتيجة الإيمان بالإرادة والقدرة، فظهور النور هو محصلة ظهور إرادة الشعوب وتتويجاً لها.

وبالتالي لا يأتي النور لدى الشعوب همساً ولا توجُساً ولا بكاءً، لكنه عندما يوقظ عناصر الطبيعة الأصيلة داخلها يترك أثراً كأصوات الأجراس. وبفضل كونه استنهاضاً من داخل إرادة حرة آنذاك، فيعبر عن " لهيب الحياة، وروح الظفر" (الديوان نفسه، ص 244). وبذلك يكون المجال متاحاً لعدوى النفوس، من العام إلى الفردي في النهاية عكس المعتاد. فالاستثناء المشار إليه لدى أبي القاسم الشابي لا يولد إلاَّ استثناءً في نهاية المطاف" إذا طمحت للحياة النفوسُ... فلابد أنْ يستجيب القدرُ" (الديوان نفسه، ص 244). وكأنَّ القدر بعد الاستجابة الأولى التي هي للشعب وداخل إرادته سيدفع بالنفوس الفردية عبر أتون الكل، هذا المجموع على نطاق أكبر. أي إثارة تلك الإرادة العامة التي هي روح الحياة وصولاً إلى أبعاد التاريخ. لا مناص حينئذ من تذوق هذا الطموح البعيد، حيث لا تدانيها شهوة تلك التي تسعى بصلابة إلى تغيير الحال والمآل دون أي نحيبٍ.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم