صحيفة المثقف

جاك أطالي: كُونْفُوشْيُوسْ أو "الرٌجُلُ الْفَاضٍلُ"

عبد الله هاشي551 – 479 (قبل الميلاد)

- بقلم: جاك أطالي

 ترجمة: عبد الله هاشي


 حدث ذلك في الصينن إبان الثورة الثقافيةن عام 1973ن عندما تناهت الى مسمعي للمرة الأولىن عبارات ممعنة في تحقير كونفوشيوس الذي أمسى في تلك الأيام أكثر الناس عرضة للتشنيع من قبل نظام للحكم باتت تمتلئ يداه بكل الأسباب والمبررات المعقولة التي تشفع له الشعور بالمقت تجاه كل ما يمثله الرجل ويرمز اليه: باعتباره نموذجا للاستقرار والثباتن ورمزا تتجسد فيه دلائل التوازنن ومنافحا شديدا عن حصون الحقيقةن والمعرفةن وتوقير الآباء والأجداد والسلف الغابر. بالنسبة لعدد قليل من المثقفين والأدباءن ممن يجرؤون على تقديم أنفسهم كذلك ن والذين لا يزالون من الممكن الالتقاء بهم ومصادفتهم في هذا المكان أو ذاكن يبقى كونفوشيوس ذلك المنهل العذب الذي لا محيد عن الوقوع في أسره الحافل بفتنة الرهبة والصمت.

وابتداء من ذلك التاريخن سيظل كونفوشيوسن هذه المنارة المتلألئةن مستحكما في مفاصل تفكيري كلما شرعت في محاولات الإجابة عن أسئلة الرهان المركزي في مدارات حياتي الفكرية: - هل يحتاج السياسيون والقائمون على شؤون الحكمن في مساعيهم المختلفة وشتى ضروب ممارساتهمن الى أهل الحكمة والفكر والنظر؟ أم ترى هؤلاء لا يقومون عند أولئك سوى كما تقوم المحسنات الزخرفية العادية تتزين بها التيجان الهشة المحكوم عليها بالزوال فوق هاماتهم؟ والصين اليومن وهي تشهر الاعتراف بكونفوشيوسن باعتباره المعلٌم الذي لا يعلى عليهن هل باستطاعتها إقامة دولة القوانين المبنية على الاخلاق والوقار التي ظل يحلم بها وهو في ذروة واحدة من أشد فترات الفوضى والاضطراب في تاريخ أمبراطورية السماء؟ ثمن أخيران هذا التساؤل المثقل بالأهمية والخطورةن والذي يفرض نفسه بشأن الرجلن كما بشأن العديد من الشخصيات المصادفة في هذا الكتاب *: - كيف للمرء أن يحقق ذاته في بيئة حافلة بالمكائد والمؤامرات المرصودة برمتها للحيلولة دونه وأهدافه؟

ذلك لأننان ونحن في مستهل هذا القرن الواحد والعشرينن الذي يصفه الكثيرون بأنه قرن الصين بامتيازن نجد سلطات هذا البلدن منذ تقلد دينغ كسياو بينغ مقاليد الحكمن تفضل الركون الى الاحتماء بتلك الظلال الزاخرة بالتعاليم وبالوصايا التي تعود الى ذلك الحكيم الذي يدعونه " المعلٌم كونغ "ن والذي أطلقت عليهن في القرن السابع عشرن عناصر الجمعية اليسوعية الفرنسية اسم " كونفوشيوس ": هذا الصوت الجهوري المليء بالأسرار والالغازن الذي ظلن على امتداد القرن السادس قبل الميلادن ينثر الاقوال والكلمات التي ذاعت أصداؤها في كل الآفاقن ويبادر الى الأعمال والمساعي التي عمت تأثيراتها الاصقاع الدانية والقاصيةن زمن حكم أمبراطورية زهو الآيلة للسقوط والأفولن في حقبة شهدت حملات اقتتال شديدة ما بين الامارات والطوائف المتنازعة على النفوذ والسلطة. هكذان قام كونفوشيوس بإعداد عقيدة سياسية واجتماعية لم تلبث العائلة الملكية الحاكمة هانن في القرن الثاني قبل الميلادن ان اتخذت منها " دينا للدولة ". كما أنهن والى حدود زمننا الراهنن لا يزال كونفوشيوس يشكل الخلفية المركزية الصلبة لكل أشكال التنظيم والهيكلة التي تتفاعل فيها الأفكار والتمثٌلات لدى الغالبية العظمى من شعوب آسيان في إطار بنية أخلاقية شديدة الصرامة والتزمتن وبالغة الروعة والاثارة معان حيث تمتزج نصائح السعادة في الحياة ووصاياها بالآراء السياسية في الحكم الرشيد وحسن تدبير شؤون الناس والمجتمع.

ولقد دأب المؤرخون الصينيونن منذ ألفي سنةن على الحديث عن هذه الحقبة الغابرة كفترة لتعاقب " فصول الربيع والخريف "ن وذلك من باب الإحالة على مجموعة من الحوليات التي تضمنت رواية للوقائع والاحداث الجسام التي عرفتها السنوات الفاصلة ما بين 722 و481 قبل ميلاد المسيحن في منطقة كوفو المتواجدة الى الجنوب لما يعرف حاليا ب بيكينن على ساحل البحر الأصفرن بالإقليم المعروف حاليا بسم شاندونغن حيث تأسست إمارة لو. هنالكن في تلك البقعة من بلاد الصينن وفي تلك الفترة التي سبقت بقليل المرحلة المشهورة باسم "حقبة الممالك المتقاتلة "ن عاش ذلك الرجل الذي سندأب على تسميتهن هاهنان كونفوشيوس.

ولقد كانتن بحقن حقبة عجيبة وخارقة للعادةن عاشتها البشرية جمعاء على امتداد الكرة الأرضية برمتهان اتسمت بالحيرة الأخلاقيةن وبالاضطرابات السياسيةن وبالتجليات الصوفيةن وباكتشافات للعقل وللفردية الإنسانية: ففي الهندن ظهر جاوتاما بوذان الذي سيمهر القارة الاسيوية بفلسفة أخرى تنضاف الى مذاهبها الفلسفية الكبرى. وفي الشمال الشرقي لما يعرف حاليا بإيرانن سيؤسس زاردشت ما سوف يحمل إبان حكم الامبراطور داريوس الأول [ المتوفى عام 486 ق.م ] تسمية الدين الرسمي للأمبراطورية الفارسية. وفي فلسطينن سيعلن أشعيا الثانين عن ميلاد ديانة توحيدية اتسمت تعاليمها بالصرامة اللافتة وبالتزمت الشديد. أما على الساحة اليونانيةن فقد سطع في مدينة مليطة المؤرخ هيكاطين الذي اشتهر بكتاباته الساخرة من الخرافات البالية والأساطير الغابرة للأولين ؛ وذلك في فترة يعلن فيها طاليس عن الخسوف المرتقب الذي ستعرفه الشمس بتاريخ 28 ماي 585 ق. م ؛ بينما كان ينهمك الفيلسوف اليوناني أناكسيمندر في رسم المعالم الكبرى لأول خريطة لبلاد أيونية في أسيا الصغرىن والتي كانت عبارة عن تخطيطات هندسية بارزة لعالم دائري الشكل يحتل فيه بحر إيجة النقطة المركزية ؛ هذان بينما كان فيتاغوراس مستغرقا في محاولاته الاستباقية عشية انبثاق دلائل التفكير العلمي ومخاضات ميلاد العلوم. أما في منطقة الألطاين شمال البحر الأسودن فقد انشغلت الشعوب الشيثية بتطوير موروثهم الفنين وإدخال المحسنات الجديدة على مجموعة ما توفر لديهم من الاعمال الإبداعية البارعة الرونق والدقة والجمال. وفي أمريكا الوسطىن شرعت شعوب الحضارة الاولميكيةن المشتهرة بتماثيلها الزاخرة بالألغاز وبالأسرار الغامضةن تفتح أبوابها المغلقة أمام الموجات الجديدة الوافدة من الثقافات المحيطة. وعلى القارة الافريقيةن استطاعت الثقافة النوكية في نيجيريا أن تبدع أشكالا ترابية من المشويات في غاية البهاء والجمال والسمو الفني البديع.

والأمر الذي لا مراء فيهن أن المعلٌم كونغ (كونفوشيوس) لا بد أن يكون قد تنامى الى علمه بعض من ملامح الوضعية التي كان عليها العالم خلال تلك الحقبة من التاريخ. ذلك لأنه من المفترض أن يكون مولده عام 551 ق.من ووفاته عام 479 ق.من إبان حكم العائلة الملكية الحاكمة زهو (التي يمتد حكمها من 770 الى 256 قبل الميلاد). ولقد اشتهرت هذه العائلة الملكية الحاكمة بضعف الرغبة في الاضطلاع بمهمات توحيد البلادن وبقلة الميل الى العمل على استتباب الأمن والاستقرار مثلما تفرضه السماء على كل العائلات الملكية الحاكمة. فبات من المتعذر عليها تجسيد الاستقرار والدوام. وهكذان انقسمت البلاد في عهدها الى نحو عشرة من الطوائف والامارات المتواصلة الخصومةن والمتجددة التنازع والمنافسةن هي: جينن كينن كين وين زهينغن لون سونغن زهون شينن ووو. وكان يتعاقب على عرش كل واحدة منها ملوك يمكن تشبيههم بالأمراء والدوقات الذين عرفتهم أوربا في القرون الوسطى. قد دأبوا على إقامة المراسيم الغريبة ذات الطقوس العصيةن والشعائر المغرقة في الغموض والتعقيدن المرتبطة في مقاصدها بعبادة قدماء الأجداد والاسلاف الغابرين في الازمان السحيقة. كما خلت مجالسهم وقصورهم من القساوسة والكهنة وأحبار الكنيسةن خلافا لما ظلت تشهده في نفس الحقبة من الزمن كل من مصر وبابل والهند.

ولقد كان المجتمع الخاضع لسلطة هذه الطوائف والامارات يتميز بانضباطه لنظام تراتبي في غاية الصرامة والدقة. فكان الدوقات وسادة القوم وأعيانهمن ممن أصابوا حظا من الثراءن يرتبون في الدرجة الموالية لمراتب الملوك والامراء. ثم يأتي من بعدهم في درجة أدنى الأقل ثراء منهمن ممن يلتمسون لأنفسهم ولذويهم أسباب العيش لدى أصحاب القوة والنفوذ من النبلاء والسادةن كموالي ومعتمدينن وكقائمين على أشغال العناية بالخيل وبالإصطبلاتن ومتعلقات أعمال الفروسيةن ومهمات حمل السلاحن وأيضان بصفتهم أدباء وحملة للأقلامن مكلفين بأعمال النسخ والكتابةن وكموظفين مشرفين على تسيير الممتلكات الخاصة للوزراء وكبار المسؤولين في البلاطن والسهر على الاضطلاع بإدارة ما يحوزونه من الثروات والغلالن بل وحتى بصفتهم خطاطين ونساخا أو أمناء على شؤون تصنيف المحفوظات وترتيب السجلات والوثائق.

ومن الجدير بالذكر أن الكثيرين من هؤلاء الادباء وأصحاب القلمن أو من يمكن نعتهم بمرتزقة الفكرن كانوا معتادين على الانتقال بما يتراكم لديهم من الخبرات والتجارب من هذه الامارة الى تلكن ومن هذا البلاط الى ذاك. ذلك لأنهم لا يكسبون في مقابل الخدمات التي يقدمونها لأسيادهم لا نفقة ولا أملاكا ولا حقوقا. فقد كانت ميزة " المستشار " هي كل ما يتبقى لهم من نصيب على أعتاب القصور وخدمة الامراء والملوك والسادة. من الصحيح أنه كان يسمح لهم بالاستمتاع بما توفره بيوت الاسياد من لذيذ الطعام والشراب والنساء وأسباب العيش الباذخن غير أنهم ظلوا محظورين عن ممارسة أية سلطة تراتبية محددة. وكثيرا ما كان الامراء يلجؤونن على سبيل التسليةن الى حبك المواجهات بينهمن فتندلع الاصطدامات المفخخة في إطار من المناظرات الكلامية القوية والمبارزات الخطابية المشوقة. إلا أن كثرة الترحال والاسترسال في الاسفار لازمتهم لفترات تطول وتتجدد. فكانت بلاطات الحكام لا تكف عن ايفادهم في البعثات الديبلوماسية والمهمات السياسية الى البلدان المختلفة ن في كل المناسبات ذات الأهمية وفي كل المحافل ذات الصلة. وفضلا عن ذلكن لم تكن أجواء القصور لتخلو من الدسائس وشتى ضروب المكائدن سواء ما بين الامراء أو في صفوف هؤلاء المستشارين أنفسهمن والذين كثيرا ما تنتهي بهم المسارات على أعتاب القصور الى عقوبة الطرد والابعاد وحصاد التغريب والنفي. وكان من الطبيعين في ظروف أخرىن أن يتجه بعض من الاتباع والمقربين في المحيط الى الارتباط بأحد المتميزين منهمن فيتشكلون من حوله في مجموعة وثيقة الاواصر من التلاميذ النجباء والمساعدين المخلصينن يحدوهم الطمع والطموح الى أن يقاسموا المستشار الأديب وحامل القلمن في يوم من الأيامن بعضا من حظوظه الموفورة المرتقبة ن ساعة تبتسم له الدنيان فيفوز بثقة هذا الأمير أو ذاكن أو حظوة هذا الملك أو ذاك السيد.

كانت الصفوة من أهل الادب والمعرفة تحظى بمهمات التربية والتعليمن وتحرير الخطابات الخاصة بالاحتفالات والمناسبات الرسميةن وتنظيم الاستقبالات في أعياد البلاطاتن والسهر على تدوين المحفوظات والسجلات المنتظمة في الزمن على شرف الامراءن وأيضا للمصنفات الخاصة بمجالس الحكم واجتماعات أرباب السلطة. وهذا أفضى الى تراكم مجموعة من المتون المجهولة المصدر في غالب الأحيانن نجد من أبرزها: 1-" كتاب الأناشيد " (اعتمده كونفوشيوس وظل يستند اليه طيلة حياته)ن وهو مجموعة من الاشعار الغنائية التي ترسخت تقاليد أدائها في الاحتفالات المختلفة والمناسبات السعيدة المتفرقة. 2 -" كتاب التحولات "ن المنسوب الى أحد دوقات مملكة زهو. 3-" كتاب الطقوس والمراسيم ". 4-" مذكرات الشعائر ". 5-" كتاب التاريخ "ن الذي يجمع ما بين نماذج متفرقة من الإجراءات القضائية والمرافعات القانونيةن وبين عدد من التصورات الجاهزة لتحرير خطابات الملوك والامراء. وفضلا عن ذلكن يتضمن الكتاب بيانات الفضائل التسع التي يجب أن تتوفر في الملوك والامراءن وهي: 1- الوعي بمدلول الحكم ومقاصد قيادة الشعب. 2- العدل والنزاهة والانصاف 3- المرونة وسلاسة العريكة. 4 - الحزم والجد والثبات. 5 - البساطة والابتعاد عن التكلف. 6- الشجاعة والاقدام. 7- الصفح والرأفة والحلم. 8 - الهمة والحمية والاجتهاد المتواصل. 9- التلطف والتواضع الجم. فمن توفرت فيه جميع هذه الفضائلن يكونن بحقن أهلا لشغل مكان الامبراطورن ومستحقا لاعتلاء منصب الملك. أما الذي تتوفر فيه ستة منها فحسبن فيكون أهلا لشغل منصب الأميرن ومستحقا للتكليف بالاضطلاع بتدبير شؤون المقاطعة أو الاقليم. وأما الذي تقل مجموع فضائله عن ثلاثة منهان فيصنف في حكم العاجز حتى عن تسيير أمور عائلته.

ابتداء من القرن السادس قبل الميلادن شرعت تتكشف الأسماء الحقيقية لأصحاب هذه المتونن فتبدد ما أحاطها على مر الزمان من الاغفال والتكتم. حينئذن سطعت على الأفق بضعة من الشخصيات المرموقة التي بسطت هيمنتها على تاريخ الصين الأدبي والفلسفين يأتي في مقدمتهم الحكيم لاو تسون الذي عاشن على ما تقول الأسطورةن في إمارة سونغن حيث انتشرت عقيدته بفضل كتابه الذي يحمل عنوان: " كتاب الطريق والفضيلة " = إنها الطاويةن والتي تعني " تعليم الطريق "ن وتقضي تعاليمها بالحظر التام لكل تدخل للإنسان في المجرى التلقائي لعناصر الطبيعة وتوازنها الفطري الأصيل. ويذكر بأن كونفوشيوس كان يعيشن تقريبان في نفس الفترة من حياة لاو تسون وفي نفس المقاطعة أيضان وإن كان يحظى بشهرة أوسعن وبنفوذ أكبر. ذلك لأن أجداد كونفوشيوس كانوا ينتسبون الى إحدى العائلات النبيلة لسلالة الكونغ التي استقرت في إمارة سونغن والمتصلة بالقرابة الى المدعو يي يينن الوزير الأول للامبراطور شينغ طانغن الأب المؤسس للعائلة الملكية الحاكمة شانغ. ويذكر أن جد كونفوشيوس هاجر الى امارة لو (الواقعة حاليا في جنوب شرق شاندونغ)ن وكانت دولة صغيرة وضعيفة محاطة بمجموعة من الامارات الشديدة القوة ن مما اضطرها الى إقامة تحالفات عديدة تفاديا للاجتياحات والغزوات المحتملة.

ويذكر أن أب كونفوشيوسن الذي أنجب من زوجته الأولى تسع بناتن كان يشتغل مستشارا لدى الوزير الأول لإمارة لو. ولما بلغ الرابعة والستين من العمرن أقام علاقة غرامية مع فتاة في مقتبل الشباب تدعى زينغ زاي اعتادت على التردد على رابية تسمى نيكييو بغرض الدعاء والصلاة لكي ترزق بولد ذكر. وفي عام 551 ق.من والذي صادف السنة الثانية والعشرين من حكم شيانغن دوق لون جاء المخاض الفتاة الشابةن فوضعت مولودا تحمل رأسه حدبة ذات حجم بارزن وهو ما يفسر اطلاق اسم كييو عليه (نسبة إما الى " الرابية " أو الى " الحدبة ") = إنه كونفوشيوس.

وصادف أن أدركت المنية الأب من دون أن يكون قد اعترف بأبوته للطفل ذي الثلاثة أعوام. أحجمت الأم عن إخبار الولد بحقيقة مولده ونسبهن فعاشا معا في عوز شديد وفقر مدقع.

في نفس الفترة من التاريخن أقدم فيثاغوراس على تأسيس جمعية ضمت عناصر من الطبقة الاستقراطية لمدينة كروطونن مزجت في أنشطتها الثقافية ما بين الفلسفة والدين والعلم من جهةن وبين طقوس الاساطير الاورفيوسية اليونانية من جهة ثانية. ولقد انهمك فيثاغوراس يستغرقه السؤال والتأمل في قضية الاعداد باعتبارها العناصر النهائية المكونة للمادة. فانبرى يبحث في سبيل تثبيت مدارجها الرمزية وتدعيم أبعادها الروحانية. وهكذان انتهى الى وضع نظرية في التناسب قابلة للتطبيق في الطبيعة وفي الموسيقى على حد سواء.

سيبلغ كونفوشيوس الثالثة عشرة من عمره سنة 538 ق.من عندما أصدر الأمبراطور الفارسي قورش مرسوما يسمح لليهود المنفيين الى بلاد بابل بالعودة الى ديارهم. وهي السنة نفسها التي اتخذ فيها الأمير الشاب ساكيامونين من شمال الهندن قراره بالتخلي نهائيا عن كل أسباب السلطة والجاه والثراءن ليتفرغ كلية للتعليم والوعظ والإرشاد الديني = هذا الأميرن هو الرجل الذي سيصبحن بعد فترة من الزمنن حاملا لاسم بوذا " النبيه ".

سيبلغ كونفوشيوس العشرين من عمره سنة 531 ق.من وسيشتهر بالثقافة الواسعةن وبالذاكرة القوية ن مما مكنه من استمالة أول عنصر من مجموعة أنصاره وأتباعه ومريديهن وكان اسمه نان كونغ جيانغسو. كما أن كونفوشيوس سيتزوج في عام 529 ق. من وهو في سن الثانية والعشرينن وسيزدان فراشه الزوجي في العام الموالي بمولود ذكر. ومن أجل التماس أسباب المعيشةن سيشتغل مثل أبيهن وكان لا يعرف عنه أي شيءن كمستخدم بإحدى مرافق الإدارة التابعة لدوقية إمارة لون لكنن في مراتب مهنية متدنية للغايةن كمسؤول عن قطاع الحبوبن ثم كمشرف على قطعان الماشية لصاحبها البارون جين الوزير الأول بالوراثة لهذه الدوقية. فيسطع نجمه ويعرف التألق لنباهتهن ومثابرتهن وجديتهن لحد ما أصبح في سن السادسة والعشرين نظيرا لما نطلق عليه في زمننا المعاصر وزير الاشغال العمومية.

ازداد الأنصار والمريدون والاتباع من حول كونفوشيوس. وصادف أن كان من بينهم أحد أبناء البارون مينغ شيزين الذي طفق يصطحب معه كونفوشيوس في زيارات متواترة الى بلاط العائلة الملكية الحاكمة زهون حيث مقر إقامة الامبراطور. ولقد اعتاد المعلم كونغ (كونفوشيوس) على المجيء الى البلاط الملكي وفي نيته إمعان الفكر والنظر في ما تحفل به أوساطه من العادات المختلفةن والطقوس والأعراف المتنوعةن ومعاينة الأعياد والاحتفالات المقامةن والمراسيم والتشريفات المرعيةن والنظر في السجلات والمحاضرن والاطلاع على مدونات الاخبار والوقائع التي تزخر بها الغرف البعيدة والمنسية في مختلف أجنحة الاقامات والقصور الإمبراطورية. وتجدر الإشارة الى استفادة الصديقين المترافقين من الخدم والاجراء وعربات النقل وسائر التسهيلات التي وضعها البارون جي رهن إشارة نجله وصاحبه كونفوشيوس أثناء تنقلاتهما ورحلاتهما. وتتحدث الأسطورة الصينية عن واقعة ذلك اللقاء الذي جرى ما بين كونفوشيوس والحكيم الكبير لاو تسون لاسيما حينما توجه اليه هذا الأخير يخاطبه قائلا: " إن الرجل اللبيب ذي الفطنة والذكاء ن غالبا ما يخاطر بحياتهن لأنه يعشق كشف الحجاب عن مساوئ الاخرينن وإفشاء أسرار ما يخبئونه من النقائص والعيوب. كما أن الرجل ذي الثقافة الرفيعةن المتمرس بأصول المناظرةن والبارع في معتركات الجدال والنقاشن غالبا ما يكون عرضة للمخاطر المتعددةن بسبب جنوحه الى إبراز مكامن العجز والوهن في طبائع النفوس لدى البشر ".

وتركز الأسطورة على الاندهاش والوجوم الذي اجتاح كونفوشيوس وإمساكه عن الكلام لمدة ثلاثة أيام كاملة من جراء التأثير القوي الذي أحدثه في نفسه هذا اللقاء الفريد بالحكيم لاو تسو. ولقد كان الرجل من قبل ذلك حريصا على الايمان بالحقيقة وعلى المناداة بالجهر بهان فإذا به يجنح الى معالجة الالغاز الغامضة لمسائل التوازن والتسوياتن ولقضايا التراضي والتوافق والاجماعن التي تنادي بها العقيدة الطاوية.

عندما توفيت أمه سنة 527 ق. من باحت له صديقتها العجوز بالاسم الحقيقي لأبيهن وبالمكان الذي يوجد فيه قبرهن مما سمح له بدفن أمه بجوار قبر أبيه. ولما تبين لكونفوشيوس بأنه يسير على آثار أبيهن دون علم منهن قر قراره بمواصلة تقديم خدماته للبارون جين الوزير الأول في بلاط إمارة لو.

وحدث سنة 522 ق.من أن جاء الدوق جينن حاكم الامارة المجاورة كين لزيارة الامارة لون مصحوبا بوزيره الأول يان يينغ. وأثناء استضافتهن طلب اللقاء بالشاب كونفوشيوس البالغ من العمر حينها تسعة وعشرين سنةن ويشغل منصب وزير. ثم إن الدوق جين بادر الى سؤال كونفوشيوس عن العلامات التي بواسطتها يستطيع التعرف الى الملك الصالح. وفي عبارة بالغة البيان ترسي الى الأبد ما لدلالة الكلمات والتصورات من أهمية جسيمةن بالنسبة لكونفوشيوسن وأيضان بالنسبة للفئات الاجتماعية القائمة على الانضباطن وللمجتمعات الحريصة على النظامن أجاب كونفوشيوس: " يجب على الملك أن يكون ملكا حقيقيا ن ويجب على الوزراء أن يكونوا وزراء حقيقيين ن ويجب على الآباء أن يكونوا آباء حقيقيين ن كما يجب على الأبناء أن يكونوا أبناء حقيقيين ". " حسن جدا "ن رد عليه الدوق موافقا. وواصل رده يقول: " إذا لم يكن الملك ملكا حقيقيا ن ولا الوزراء وزراء حقيقيين ن ولا الآباء آباء حقيقيين ن ولا الأبناء أبناء حقيقيينن حينئذن مهما بلغت محاصيل بلادي من الوفرة ن فمن المؤكد أن لا شيء سيصلني منها ". بعبارة أخرىن عندما لا يكون أي شخص في مكانه الحقيقين عندما لا يكون الامراء والآباء غير مؤهلين للوظائف التي يضطلعون بمسؤوليتهان وغير جديرين بالمناصب التي يشغلونهان عندما يكون الشعب عاجزا عن التمييز بين ما يدخل في باب الخير وبين ما يدخل في باب الشرن حينئذن يسود الاضطراب وتعم الفوضى. ذلك لأنه إذا تصرف الأمير في تدبير شؤون دولته باعتباره أميران فسيكون حكمه في مصلحة الرعية كلهان أما إذا لم يتصرف الأب باعتباره أبان ولا الابن باعتباره ابنان فإن الأبواب ستشرع أمام جرائم المحارم المختلفةن والجنايات والآثام المتفرقة. وبالتالين فإن طاعة الأب تشكل الضمانة الحقيقية لترابط العائلةن كما أن الامتثال للأمير يشكل الضمانة الحقيقية لتماسك الدولة. على أن هذه الطاعةن وذلك الامتثالن يظلان مشفوعين بما يعود للأبناء وللرعايان على حد سواءن من إمكانيات الحق في التحذير والتنبيه في حالة ما إذا جنح الأب أو الأمير الى الطريق الخاطئ أو اتجه الوجهة غير المضبوطة. ولسوف ينقضي ردح غير قليل من الزمنن بعد ذلكن قبل أن يقوم جاك بوسو ويه [ الاسقف والمؤرخ والمفكر السياسي الفرنسين المتوفى عام 1704 ]ن بصياغة فكرة مماثلة في واحدة من رسائلهن يقول: " إنكم اليوم تخلطون نظام الكلمات خلطان وغدان لسوف تخلطون نظام الأشياء. ذلك لأنكم إذ تنطق ألسنتكم في استهتار بقواعد اللغة ومساطر النحو والصرفن لسوف ينتهي بكم المطاف الى الاستخفاف بقواعد العقل وازدراء مساطر الحق والصواب. فاللغة الثابتة الأركانن المحفوظة البنيانن يستحيل أن تتعرض للاستنزاف والوهن. وإنها بالاحتضانن وحسن المناولةن واللطف في الاستعمالن لتجود بكل السخاء على محبيها بما يحتاجون اليه من المفاتيحن فتسلس في أياديهم دواليب القيادةن وتتيسر أمامهم مقاليد السلطة ودروب الحكم. وإنهن أيضان بالإهمال والتقصير المتواتر، وبالهفوات الاملائية والنحوية المتراكمةن تجفف فيهمن لا محالةن منابع الفكر والنظرن فتتقطع في قلوبهم أوصال الحكمةن وتندثر في نفوسهم كل أسباب النبوغ والعقل ".

هكذان على امتداد الأطراف الشاسعة لبلاد الصينن الرازحة تحت أنيار البلبلة والقلاقل والفوضىن استطاع كونفوشيوسن بإرسائه دعائم الهيمنة الوطيدة للمفاهيم والتصوراتن تدشين عهد جديد من تاريخ الصينن انتشر فيه التدوين انتشارا واسعان مثلما سادت فيه القوانين الموضوعة على كل مفاصل المجتمع والحياة. ولقد كان ذلك بمثابة التعبير الواضح البيان عن واحدة من القواعد الكونفوشيوسية الجوهرية ن مفادها: إن اعتلاء سدة الحكم يعني في ما يعنيه الإحاطة بفن تنظيم الأشياءن والتمكن من المهارات الضرورية لقيادة الشعب حسب طقوس معلومةن وعادات مضبوطة ومحددةن وذلك بهدف ضمان المحافظة – الرمزية على الأقل – على صرح النظام الملكين المفترض تمتعه بالمناعة الدائمة ن وخلوه المؤكد من عيوب التوازن ن ومهاوي الاعتدال ن مهما اشتدت مخاطر الأعداء والمنافسينن وتعددت خيانات الاتباع والمناصرين. ذلك لأن من أوجب الواجبات على الملك أن لا يغفل عن بذل كل ما أوتي من القوة لكي يلتزم كل المواطنين باحترام القانونن وتفادي كل ما من شأنه أن يزرع بذور الشك في الدلالة المسطرة للكلمات. وإذا كان الكثير من المواطنين مستعدين للقبول بهذا الالتزام والعمل بهن فسيكون منهمن أيضان من سيتعرضون لاحقا للهلاك لعدم إدراكهم بأن النظام الديكتاتوري يبتدئ في اللحظة التي يقرر فيها الحاكم تمتيع نفسهن حصريان بجميع الصلاحيات والحقوق التي تسمح له بوضع وتحديد وتعديل دلالات الكلماتن والقوانينن والعقود.

وهو الفحوى الذي ضمنه كونفوشيوسن فترة من الزمن لاحقان جوابه عن سؤال لأحد تلاميذه المفضلين يدعى زيلو: " إذا دعاك حاكم مملكة وي للاضطلاع بمهمات في الحكمن فماذا تراك ستفعل؟ " سأل التلميذ زيلو. - " سأشرعن في البدءن بوضع المحددات المضبوطة للاستعمالات السليمة والصحيحة للمصطلحات والكلمات ". أجابه كونفوشيوس. " حقا؟ " رد عليه التلميذ ن وتابع: " يا لقلة واقعيتك وجهلك بما ينفعك. فلأي غرض مفيد تصلح لديك كل هذه المصطلحات المحددة ن وكل تلك الكلمات المضبوطة؟ " -" إنكن بحقن تكلمني بخشونة مفرطة ن وتغلظ لي في القول "ن رد عليه كونفوشيوسن ثم استطرد يقول: " اعلم أنه إذا افتقرت مجموعة الاصطلاحات والكلمات للدقة والتحديد ن انهار الخطاب الذي يعتمدها وسقط في الاضطرابن وانعدم فيه وضوح المقصد. وإذا خلا الخطاب من ميزة الترابط والاتساق ن أصبح من المستحيل تنفيذ الأوامر والقرارات التي تتأسس عليه. ولما يتعذر تنفيذ الأوامر والقرارات المتخذةن يصبح من غير الممكن إعادة إنتاج الاشكال المرعيةن والعلاقات الاجتماعية المناسبة ذات الصلة بالعادات والشعائر القائمةن وللمعزوفات والالحان والمصنفات الموسيقية الموضوعة. وحينما تتأكد استحالة السيرورة الطبيعية للأشكال والأصول المقررةن ينتهي المطاف بالعدالة والانصاف الى هاوية الإفلاس والاخفاق. وعندما تتقلص مساحة العدل في الأرضن تستحكم الحيرة والبلبلة على الاذهانن فيعجز الناس عن التمييز بين المعاملات الصائبة والخاطئةن وتخفق الآراء في التفريق بين النهج النافع والنهج الذي تلزم الرغبة عنه والفرار منه. لذلك تجد الرجل الحكيمن الموفور الرزانة والعقلن على دراية كافية بالأهمية الجسيمة التي تكتسيها المفردات الدقيقة والواضحة في صياغة القوانين الجديدة المفترض إصدارهان وتوسيع مجال العلم والدراية بها لدى عموم أفراد الشعبن بحيث إنه عندما يصدر الأمر من الأوامرن يتيسر على الفور سبيل انتقاله الى التطبيق والتنفيذ. وأهل الحكمة والرأي بعيدون كل البعد عن الميل الى الاستعانة بالمصطلحات الملتبسة الدلالةن والكلمات المشحونة بالتصورات المتنافرة ن والمحتملة للوجوه المشبوهة والغامضة ".

وهو ما سيعبر عنه كونفوشيوس ألف مرة ومرة بأسلوبه الحافل بالاستعارات الرفيعة. فحين طلب منه تقديم تفسير لما يمكن أن يبرر إقامة الولائم والاحتفالاتن وتنظيم القداساتن احتفاء بذكرى الامبراطور الأولن والأب المؤسس للعائلة الملكية الحاكمةن أجاب: " لست أدري. والذي لا مراء فيه أن كل من توفرت له المعرفة الصحيحة بالأسباب والمبررات الكامنة وراء ذلك ن سيتمكن من إمساك الدنيا برمتها في قبضة يده ".

وعندما قرر أحد الأمراءن ممن سيلتحق كونفوشيوس ببلاطه في وقت لاحقن إلغاء عيد الأضحى المحتفل به بذبح خروف صغير بمناسبة تقليد الروزنامة الذي يؤديه الامبراطورن مثلما تفرضه الطقوسن أمام أتباعه المقربينن كان رد فعل كونفوشيوس أن عقب في سخرية: " آه. إذن أنت شغوف بصغار الخرفان؟ أما أنان فإني أفضل الهيام بالأعراف وعشق الطقوس ". ستتواصل كلمات كونفوشيوس في زمن موالين متناثرة تطرق الأسماع والأمكنة ؛ قال: " لا ريب في أن الذي يستطيع وضع كل شيء في موضعه الحقيقين يتمتع بحظوة الاقتراب من طريق العلم الأعظمن ووهج القداسة المطلقة. ذلك لأنه كلما وضعت طبيعة الأشياء تحت محك الفحص والتقصين ارتفعت الخبرات والمعارف الى أقصى مراتب السمو والكمال. وكلما بلغت الخبرات والمعارف هذا السمو الرفيعن وذلك الكمال البديعن تخلصت الإرادة من كل معوقاتهان وبلغت العزائم تمام اشتدادها النافذ. وحينما تتحقق للإرادة أسباب القوة والسطوةن تنتظم للتو مجموعة خلجات الفؤادن فإذا الانسان بكل جوارحه ووجدانه متجرد من العجز والكسلن ومنزه عن الزلات والهفوات. ولما تتعزز فيه النوازع الى تقويم النفسن وتتملكه صبوات تعويدها على الأدب الجميلن تتيسر أمامه سبل إقامة حياة منظمة داخل الاسرة. وعندما يرتفع للأسرة بنيانها المنظم شامخا في عنان السماءن يضحى من السهولة بمكان تثبيت صرح الحكومة الصالحة على رقعة الإقليم أو المقاطعة. وفي الحينن يسود السلم والوئام مجموع المملكةن ويشمل الهدوء والطمأنينة سائر أفراد الرعية ".

الى حدود سنة 520 ق. من استمر كونفوشيوس في عمله كمستشار لدى أمير مملكة لو ؛ وذلك في فترة عرفت فيها روما إقامة اللبنات الأولى لمراسيم عبادة روميليس [ مؤسس روما وملكها الأولن المتوفى عام 715 ق. م ]. في الفترة ذاتهان اضطر الفيلسوف والشاعر الأيوني كسينوفان الكولوفوني للهجرة عن بلادهن واختيار المنفىن بسبب اتساع الغزو الفارسي لبلاد اليونانن واستفحال هيمنة الشعوب الفارسية على كل مفاصل الحياة فيها. وهكذان أسس في مدينة إيليية مدرسة تدعو الى إله واحدن ذي شكل كروين ولا يتحرك. أما في بابلن فقد تزينت قصور حاضرة الإمبراطورية الفارسية بأشكال من النقوش والزخرفات الرفيعة عالية الدقة. ولقد بادر الامبراطور الفارسي داريوس الأول الى استئناف الاعمال التي بدأها نيكاو الثانين من الاسرة الفرعونيةن فتمكن من شق قناة عبر مضيق السويس. وفي بلاد يهوذان عكف النبي زكرياء على استنهاض همة الشعب اليهودين وإعادة الروح الى مكوناته المبعثرةن يبعث فيهم الآمال في استعادة الامجاد الضائعة ن ويحثهم على التمسك بالحلم في عودة الاستقلال المفقود.

في سنة 517 ق. من تمت الإطاحة بدوق أمارة لو على يد وزيره الأول جي ؛ مما اضطره الى الهرب للاحتماء في مقاطعة كي المجاورة. لم يكن أمام كونفوشيوس أي سبيل للتردد: فقد رفض الانضمام الى المتمردينن والتحق بالدوق في منفاه. هنالك في بلاط مملكة كين واتته فرصة الاستماع الى " نشيد تتويج الملك شان "ن الذي ينسب تأليفه الى أحد الملوك في زمن غابر. ويذكر أن كونفوشيوس فقد الشهية الى الطعام والشراب ثلاثة أشهر كاملة من فرط مبلغ تأثره بالألحان الخالدةن وبالوصلات الموسيقية المهيبةن لهذا النشيد العظيم. والحقيقة أن الشغف البالغ الذي أبان عنه كونفوشيوس بذلك النشيد الامبراطورين أحدث تأثيرا عميقا في نفوس فئات عريضة من أفراد الشعب ؛ مما أهاب بالملك الى أن يعرض على كونفوشيوس الاشتغال معه كمستشار في البلاط الملكي. غير أن وزيره الأولن يان يينغن وقف بالمرصاد أمام الاقتراحن وسعى بكل ما أوتي من دهاء ومكر لقطع الطريق على كونفوشيوس خشية امتداد نفوذه الفكرين واتساع هيمنة تعاليمه ووصاياه. فران التردد على الملكن وما لبث أن عدل عن إلحاق كونفوشيوس ببلاطه. ثم إنه خاطبه بالقول: " إنني متأسف جدا. أنت ترى شيخوختي الطاعنة. ولا شك أنك تدرك أن تقدمي الكبير في السنن لا يسمح لين الآنن بتطبيق أفكاركن والعمل بما تنادي به عقيدتك ".

في سنة 511 ق. من سيغادر كونفوشيوس مملكة كي عائدا الى إمارة لون مسقط رأسهن وقد أصبحت مرتعا للفوضى العارمةن وللقلاقل المهولة. وكان كونفوشيوس في نحو الثانية والأربعين من العمرن خائب الظن بالملوك والامراءن منهار الهمة والأمل في بلوغ أهدافه في الحكمن فاقد الثقة في السياسة. فقر قراره على الاعتزالن والتفرغ لنظم القصائد الشعريةن وإبداع الأناشيدن وكتابة التاريخن وتدوين الوقائع والاحداثن ووضع المصنفات الموسيقيةن والتآليف المتخصصة في ثبت الأعراف والطقوس والعادات القائمة والغابرة. ولقد تمر به الساعات الطويلة من الليل أو النهارن يعلل فيها النفس بالأمل في استعادة الحظوة الضائعة في تقديم يد العون للملكن فتعود له الامجاد الملكية الزاخرة بالعز والسؤدد.

في سنة 510 ق. من ستتم الإطاحةن بالامبراطور هيباسن حاكم أثينان المدينة البسيطة والضئيلة الاعتبارن والتي لم تكنن ولو في الاحلامن لتجرأ على التفكير في منافسة مدن أخرى مثل مليطةن وإيفيزةن أو كوغينثة. وهوالإنقلاب السياسي الذي سيفتح الأبواب واسعة في وجه الديمقراطية ونسائمها العطرة.

لسوف تنقضي ما يقارب الثلاثة أعوامن أي بالضبط في 508 ق.من حينما سيتمكن الدوق دينغ من الوصول الى سدة الحكمن واعتلاء عرش إمارة لو ؛ وسيحالفه النجاح والتوفيق في إعادة النظام الى البلادن ونشر الامن والطمأنينة بين أفراد الشعب.

في مستهل القرن السادس قبل الميلادن عرفت مدينة إيفيزةن إقدام هيرقليطسن صاحب المعجزات المدويةن على إدخال تفاصيل غير مسبوقة على نظرية يتشكل بموجبها الكونن أساسان من عناصر غير منتهية الحركةن تتقدم في خضمه الروح والكوسموسن جنبا الى جنبن تشقان سبيلهما عبر سلسلة من المدارات الخاضعة للتغيرات المتواترةن والتحولات المتجددة. عن ذلكن كتب هيرقليطس: " على نفس الدائرةن تترابط البداية والنهاية ترابطا لا انفصام لهن في وحدة مشمولة بالانسجام التام والتناغم المطلق ".

وهي الفترة الزمنية التي سيقوم فيها دوق إمارة دينغ بتعيين كونفوشيوس حاكما على مدينة زهونغدو. بعد مرور سنة واحدة على هذا التعيينن أضحت زهونغدو مدينة نموذجية تتشوف الحواضر الأخرى للاقتداء بها ومحاكاة أساليبها في التنظيم والتدبير. لذلكن سيمنح الملك لكونفوشيوس مهمات جديدةن وصلاحيات واسعة إضافية ؛ حيث سيصبح وكيلا مكلفا بالأشغال العمومية في البلاد كلها ؛ وسوف يقومن كذلكن بترقيته ليشغل منصب الوكيل الأول في العدل. وهذا يفيد بأن كونفوشيوس قد أصبح الوزير الأول للمملكة. ولقد كان الإجراء الأول الذي بادر الى اتخاذه مباشرة بعد هذه الترقيةن هو تنفيذ الحكم بالإعدام في حق سلفهن الذين حسب ما ادعىن " أغرق الدولة في أتون الفساد والاضطراب والفوضى ". ثمن ليطلقن بعد ذلكن حملة شرسةن وحربا ضاريةن على البارونات وكبار الاعيان وسادة القوم الذين لا يترددون في الجهر بالاعتراض على قرارات الملكن ويصرون على الامتناع عن الامتثال لقراراته وأحكامه ؛ حيث دكهم ومحقهم وكسر شوكتهم.

على أن مهاراته في القدرة على الاقناعن وأساليبه في حمل الاخرين على الانفتاح على أفكاره وتصوراتهن لم يكن لها أن تتأثر أو يمسها التعديل والتغيير بفعل مآثره الحربية والقتالية. فقد حافظت طريقته في التلقين والتدريسن ومنهجيته في الارشاد والنصيحةن سواء مع تلامذته وأتباعه ومريديهن أو مع الامراء المترددين على مجلسه بغرض التماس الرأي والنصح والمشورةن على أسسها الأولىن ودعائمها الاصليةن القائمة على اعتماد تقنيات الاستعارة وفنونهان وإيحاءات الخبرة ودروس الحنكة والتجربة. وهكذان ففي إحدى حصصه الدراسيةن نجد كونفوشيوسن في درس مخصص لتفسير فن التعلمن يقدم لنا عرضا مفصلا للطريقة التي تعلم بهان هو نفسهن مبادئ وأصول الموسيقىن على يد معلم يشتهر بالتمرس وبالحنكة الواسعة. والحقيقة أن الدرس الذي يقدمهن في هذا البابن لا يخلو من بديع البلاغة وفتنة الروعة. قال كونفوشيوس مفسرا: " على امتداد عشرة أيام متواصلةن بدا أني لا أحرز أي تقدمن وتكشف لي النجاح أمرا بعيد المتناول. مما حدا بمدرس الموسيقى أن يخاطبني. قال: " بإمكانك الآن أن تشرع في تعلم شيء جديد ". فقلت له: " لقد تمكنت من إتقان دروس النغم وتناسق الأصواتن لكنني لازلت لم أطلع على دروس الوزن والايقاع ". ثم تنصرم أيام معدوداتن فيخاطبني مدرس الموسيقى: " إنك الآن تعرف الوزن والايقاع ؛ وبالتالين بإمكانك الانتقال الى الدروس الموالية ". فبادرت أرد عليهن وقلت: " إنني لازلت غير ملم بفن التعبير ". ولتنصرم الأيامن فيخاطبني مدرس الموسيقى من جديدن قال: " لقد تمكنت من الالمام بفنون التعبيرن بإمكاننا الآن الانتقال الى ما هو موالي ". وإذا بي أجيبه: " إنني لازلت لا أستطيع أن أتمثل في خاطري صورة المؤلفن واضع هذه الموسيقى ". ولسوف تنقضي فترة من الزمن ليست بالطويلة يقوم بعدها مدرس الموسيقى بإرشادي ن حيث قال يخاطبني: " هذه القطعة الموسيقية ألف ألحانها رجل في ساعة استغرقته فيها التأملات البعيدة والخيالات الباهرة. فكانن بين الفينة والأخرىن يرفع عينيه الى الآفاق المترامية على الأمداء أمامه مغمورا بألوان من السرور والفرح السعيدن شاخصا بنظراته الجذلى على معالم ذلك الازل المتراقص حياله بعيدان بعيدان بعيدا. " فوجدتني أنتصب في وجهه وأصرح: " أعتقد بأنني توفقتن الآنن في الوصول الى الهوية الحقيقية للشخص الذي ألف هذه الموسيقى. إنه رجل طويل القامةن أسمر اللونن ويمتلك الفكر العميق والجبار الذي يمتاز به بناة الممالك العظيمة والامبراطوريات ذات المجد والخلود. أوليس الامر يتعلق بالملك وينن المؤسس الأكبر، والأب الأولن للعائلة الملكية الحاكمة زهو؟ " حينئذن نهض مدرس الموسيقىن وانحنى مرتين متتاليتين أمام كونفوشيوسن وهو يقول: " بالفعلن نحن هنا إزاء واحدة من الاعمال الموسيقية الخالدة للملك وين ". وهكذان نستخلص بأنهن لكي نصل الى فهم ما ينطوي عليه التأليف الموسيقي من الدلالاتن واستيعاب ما يزخر به من الرموز والمواقفن لا بد من الانتهاء الى تمثل حقيقي وصائب للمؤلف الذي وضع وصلاته الإبداعية الجميلةن والمتسربلة في تلك الهالة الفنية الحافلة بالأناقة وبالرونق وبالبهاء الآسر.

وبالرغم من السمو الباذخ الذي تطفح به كل هذه التأملات والاشكال من النظرن فقد كان المناخ السائد على طول البلاد وعرضها مطبوعا بالاقتتال المتواصلن حيث سادت الفتنة وعم العنف. وهكذان عرف فصل الربيع من عام 500 ق. من إقدام إمارة لون التي يرأس كونفوشيوس وزارتها الأولىن على توقيع معاهدة سلام مع إمارة كي المجاورةن والتي كان كونفوشيوس قد نزح اليها لاجئا في زمن سابق. ولقد بادر وزيرها الأولن وهو نفسه الشخص الذي كان قد أبعد عن بلاطها كونفوشيوسن عشرة أعوام من قبلن الى تقديم اقتراح بعقد " اجتماع سياسي أخوي "ن بمدينة جياغون على الحدود ما بين البلدينن يحضره عن كلتا الامارتينن الملكان الجالسان على عرشيهمان بصفتهما الشخصيةن من أجل التوقيع على المعاهدة بنفسيهمان ووضع أختامهما عليها. وفي الحينن حزر كونفوشيوس بأن الاقتراح ينطوي على مكيدة للإيقاع بالملك في كمين لا قبل له به. فهب الى الحيلولة دون سفره وحيدا لحضور الاجتماع السياسي الاخوي الموعود. متوسلا في ذلكن كدأبه دائمان بمهارات اجتهاداته الاصيلةن وسطوة خبراته الضاربة في الزمن ؛ حيث عرض مشورته السخية على الملك موضحا ومفسرا ؛ قال: " لقد بلغنين أيها الملكن عن الاسلاف الاولين قولهم بأنه يتوجب على الأمير الراغب في حضور الاجتماع السياسي الأخوي أن يصطحب معه ما يكفي من حراسه العسكريين المدججين بالسلاح ؛ وبأنه يتوجب عليهن على النقيض من ذلكن إيفاد المبعوثين المدنيينن والسفراء الديبلوماسيينن لحضور الاجتماعات العسكرية واللقاءات الحربية. وغني عن البيانن أن القائمين على شؤون الحكم في الازمان الغابرة لا يقدمون على السفر الى البلاد الأجنبية إلا مرافقين بفرقة من الخفر العسكرية المسلحة. وإني أشير عليكمن أيها الملكن أن تصطحبوا معكمن الى هذا الاجتماعن كبار قادتكم العسكريينن وتحرصوا على وضعهم الى يمينكم والى شمالكم ". فما كان من الملك إلا أن أخذ بمشورة كونفوشيوسن وسهر على تطبيقها بكل تفاصيلها. ولقد كان ذلك من طالع سعود الملك. فقد تبين أن الدعوة كانتن بالفعلن مكيدة مهلكة.

على أن حاكم إمارة كي ما انفك يحيك الدسائس والحيل الخبيثة لملك مقاطعة لو. فقد بعث اليه عام 496 ق. من هدية فاخرةن عبارة عن ثمانين من المومسات الباهرات الحسن والجمالن إضافة الى مائة وخمسة وعشرين من أجود أصناف الخيل. ولقد هب كونفوشيوسن مرة أخرىن وفي نيته نجدة الملكن يناشده أن يمتنع عن تسلم الهدية المعروضة. لكن الملك أعرض عن النصيحةن وصرف نظره عن مشورة كونفوشيوسن وتسلم كل ما جيء به كهدايا للقصر بكل الرضى والسرور. فأخذته سنة من النسيان سها فيها ثلاثة أيام متواصلة عن إقامة مراسيم قداسات تعتاد العائلة الملكية الحاكمة على إقامتها والالتزام بمقتضيات أعرافها وطقوسها المرعية. وقد اعتبر كونفوشيوس الوضعية غير مقبولة على الاطلاق. ففي نظرهن لا يمكن لأي مملكة أن يرتفع لها بنيان مهيبن وتتمتع بصرح شامخن إذا تعرضت فيها الطقوس والأعراف للإهمالن وتقاليدها الراسخة للتعدي وقلة التوقيرن والقوانين التي تنتظم فيها للخرق الفاضح ؛ لا سيما إذا حصل شيء من ذلك على يد الشخص الذي يفترض فيه الحرص على مراعات هذه الطقوس والأعراف والتقاليد والسهر على الالتزام بهذه القوانين. ذلك لأنه إذا ما كف الملك في سلوكه وتعامله عن الظهور أمام رعيته بكامل المواصفات الموضوعة التي تميز الملوكن تهدمت جدران المملكةن وانهارت أركانها القائمة.

لهذه الأسباب جميعان اتخذ كونفوشيوس قراره النهائي بتقديم استقالته ؛ فطلب الاعفاء من كل المسؤوليات التي يضطلع بها في بلاط الملك. ولقد قام هذا الأخير بشتى المساعي لاستبقائه وثنيه عن الرحيلن لكن بلا جدوى. ورحل كونفوشيوس عن إمارة لون وراح يجوب البلاد بحثا عن ملك تتوفر فيه شروط حسن الانصات للقولن وحسن العمل بالمشورة والرأي. لقد ترسخت في ذهن كونفوشيوس مقاصد المراد الذي نذر نفسه لهن والمتمثل في غرس فضائل الاستقامة والنزاهة والأمانة في نفوس الملوك والامراءن والتمسك بالمضامين وبالدلالات الموضوعة للأقوال والكلماتن والحرص الشديد على عدم المساس بالعقود المبرمة وبالقوانين الجاري بها العملن والتخلص نهائيا من كل ما يمكن أن يوحي بالتعسف وبالاستبدادن أو ما قد يدخل في باب الرعونة في الموقف والسلوك. ولقد قرر حاكم إمارة لون وهو في حالة يرثى لها من الحزن والاسف على ما بدر منه من عمل أخرقن أن يأخذ القسم من ولي عهد المملكة بالمناداة على كونفوشيوسن بعد وفاتهن للعمل معه في البلاط حين جلوسه على العرش.

في البدءن اتخذ كونفوشيوس سبيله جهة الشرقن قاصدا بلاد وي التي يحكمها صهر الأمير على إمارة لو. عند وصولهن سأله الدوقن حاكم الامارةن عن الاتعاب والمكافآت التي كان يحصل عليها أثناء خدمته في بلاط قريبه الحاكم على لو. لذلك خصصه براتب يعادل ما كان يتلقاهن وهو ما يقدر بحوالي ستة آلاف صاع فرنسي من الأرز [ الصاع الفرنسي يعادل حوالي عشرة كلغ ]. أعلن كونفوشيوس موافقتهن وشرع في مباشرة مهامه وأعماله الجديدة في بلاط دوق مملكة وي. غير أنه لم تكد تنصرم عشرة أشهر على تقلده المنصب الجديد ن وعلى إثر وشايات متواترة ن حتى تفاجأ بضابط مدجج بالسلاح يقدمن بأمر من الأميرن على اقتحام الغرفة التي يقيم فيهان وعبورها ذهابا وإيابا لمرات عديدة. ما كان المعلم كونغ ليحتاج الكثير من الوقت لكي يستوعب دلالة الرسالة. فما عتم أن حزم أمتعته من جديدن واستأنف مسار الترحال.

ولقد ظل على مرور الأيام واثقا من طالعه السعيدن مستيقنا من حظه الموفور. لذلك ولى وجههن هذه المرةن مرافقا ببعض تلاميذه وأتباعه المخلصينن صوب مقاطعة شينن الواقعةن مرة أخرىن جهة الشرق. اجتاز مدينة جوانغ. لما رآه سكانها حسبوه ملكا مطرودا من رعيته في طريقه الى المنافي ؛ فحاصروه وألقوا عليه القبض. غير أنه سيتمكن من الفرار ومغادرة المدينة. بعد خمسة أيام طوال من السؤال والبحث المضنين ينجح تلميذه المكلف بسياقة العربة المغطاة التي يتنقلون بها في ترحالهم من العثور عليه. فخاطبه كونفوشيوس قائلا: " حسبتهم قد قتلوك ". فرد عليه التلميذ: " كيف لي أن أجرؤ على الموتن وأنا أعلم أنك لا تزال على قيد الحياة؟ "

وغني عن البيانن أن الحوارات المنقولة عن كونفوشيوس وتلاميذه وأتباعهن والاحاديث التي جرى فيها تبادل الانطباعات والآراء ما بين الطرفينن إبان هذه الفترة من حياتهم التي اتسمت بالتجوال والترحل والتيهانن ساهمت مساهمة كبرى في صياغة وبلورة شخصية كونفوشيوس في أبعادها المتعددة. ذلك لأن كونفوشيوسن صاحب هذا الصوت الجهوري الفائح بعطر الابتهاج ونسمة الفرحن المنسدل على مجموع المتون المنسوبة اليهن يتموضع الى النقيض تماما مع صورة كونفوشيوس الرجعي والمعادي لكل نزعة الى التجديد ؛ كونفوشيوس المهذارن الواسع الثرثرة والكلام المليء بالتفاهاتن والتي حرص أعداؤه وخصومه على نشرها والدعاية لها في مختلف أنحاء الصينن عبر شتى اللقاءات والمجالس والمناظرات. من الصحيح تماما أن كونفوشيوس كثيرا ما ينزع الى الفكاهة والمزاحن لاسيما في اللحظات التي يشعر فيهان في قرارة نفسهن بفقدان الاعتبارن وانعدام الهيبةن وقلة المراعاة ؛ مما ينزع به الى ممارسة الاستهزاء بالذاتن وسلخ القلب والوجدان بسياط التهكم والسخرية. فعلى سبيل المثالن حينما خاطبه رجل من سكان الأرياف قائلا: " آه. يا لقامة كونفوشيوس الفارعة. وإنه لسيد العارفينن لا تخفى عليه خافية. سوى أنه قليل الخبرةن ضئيل الحنكة ؛ إذ لا تعرف له مهارةن ولا يدري أحد أنه يتقن حرفة ". أجابه كونفوشيوس: " وإذنن في أي مجال تريدني أن أتخصصن وأية حرفة ترى أنها تناسبني؟ أهي الرماية بالقوس؟ أم سياقة عربات نقل المسافرين؟ " وفي ذات مرةن دخل بمعية تلاميذه وأتباعه مدينة لم يسبق لهم أن زاروها من قبلن أو عرفوا عنها شيئا. فكان أن تفرقوا في دروبهان وتوزعوا في أحيائها وحاراتها. ثم بلغ الى علم تلاميذ وأتباع كونفوشيوس بأن رجلا طويل القامة يقف عند البوابة الشرقية للمدينةن وأن جبينه العريض يجعله يبدو كأنه ملك من قدماء الملوك أو أمبراطور من الزمن الغابر. سوى أنه في مظهره شبيه بكلب تائه متخلى عنه. ولما عثر عليه تلاميذه وأتباعه وأبلغوه بالأوصاف التي علموا بها عنهن علق كونفوشيوس على ذلك بالقول: " إنني لا أعرف ما إذا كنت أشبه حقا الملوك الاقدمين أو الاباطرة الاولين. على أنه في ما يخص تشبيهي بالكلب التائه المتخلى عنهن فالقول صائب كل الصواب ؛ القول صائب كل الصواب ".

ولقد لبث كونفوشيوس ومصاحبوه من المريدين والاتباع والتلاميذن على امتداد خمسة أعوام متتاليةن يغدون ويروحون عبر بقاع متفرقة من بلاد الصينن تقترن في أحوالهمن مثلما الكلاب الضالةن ألوان من التسكع والتيهان والشرود. فمكثوا في ذهاب وإياب عبر مقاطعات وين وسونغن وزهينغ (الواقعة حاليا شمال مدينة هونان)ن علاوة على مقاطعة شين التي أقاموا بها لأكثر من العام في ضيافة مأمور من هيئة القضاء. ولقد تواصلت حيوية كونفوشيوس قوية وهمته محتدمة ومتجددة ؛ فلم تُخمد حماسته الانكساراتن ولا نالت من مأمله العثراتن ولا من عزيمته انسداد الأبواب. استمر يمني النفس بإسماع صوته عاليا في كل بقاع الدنيان وفي ما وراء كل بحار الأرض. لذلك نجده يقول: " لا يفتأ المعلم يؤكد ويعيد التأكيد بأن الطريق لم تتيسر الى الآنن وأن معالمها لم تتوضح على طول المدى بعد. وإني مقدم على الإبحار وخوض غمار الموج على ظهر عوامة لأتجه قاصدا أعالي البحار وأقاصي المحيطات. فمن تراه سيصحبني في رحلتين إن لم يكن زيلو؟ " وفور سماع تلميذه زيلون هب عليه يملأه السرور والفرح. فما كان من المعلم إلا أن تابع كلامهن وقال: " من الأكيد أن زيلو إنسان يفوقني كرما وطيبة وبسالة. وإذنن كيف لنا بالحصول على المال الذي سيكفي لتمويل رحلتنا؟ " ولما اعترف له زيلو بأنه عجزن ذات مرةن عن تقديم فكرة موجزة وواضحة لمذهبه لأحد السائلينن رد عليه كونفوشيوس: " لٍمَ لَمْ تقل له بكل بساطة: إنه رجل ينسى حاجته الى الطعام والشراب حينما يجتاحه الهيام بالأفكار المستفحلةن وتغمره الحمية الكاسحة في معمعان القضايا والأمور الملحة. رجل يتخلى عن الانشغال بهمومه ومتاعبه عندما يصادف أطياف الرضى وبسمات السعادة ن وتصافح يمناه يد التفاؤل وعناق طالع السعد الجميل. رجل يعجز عن أن يتبين أمام عينيه شبح الشيخوخة الوشيكن ومخالب أرذل العمر المقترب ".

بحلول سنة 491 ق. من كانت قد انصرمت خمسة أعوام على كونفوشيوس في عيشته الجديدة عبر الأرياف ؛ قاسى فيها ضنك البداوة وعذاب التنقل والترحال. وكان قد بلغ الستين من العمر، عندما تناهى الى علمه خبر وفاة دوق إمارة لون الذي سبق أن أخذ من ولي العهد على الامارة الوعد الممهور باليمين باستدعائه للعمل الى جنبه في بلاط القصر. كانتن بحقن الفرصة المؤملة التي ما انفك ينتظرها كونفوشيوس ذلك الانتظار الطويل المقرون بالحنين الغامر للعودة الى الموطن الحبيبن والاقدام بكل الحماس الشديد على مباشرة الاعمال العظيمة وتحقيق الاحلام البعيدة. لكن الحاكم الجديد على المملكة كان له رأي آخرن إذ فضل المناداة على تلميذ لكونفوشيوس اسمه ران كيو ليشغل المنصب المرتقب. وعلى كل حالن كونفوشيوس رجل على درجة عالية من الفطنة والحكمة والعقل لكي يصرف النظر عن حلم عزيز عليه لا يفتأ يصبو اليه شديد الصبوة في كل لحظة وحين. لذلكن فقد اشتد في صدره الايمان الراسخ بالمستقبل السياسي الكبير الذي يشعر بكل وجدانه بأنه منذور له منذ الأزل. ولقد كان يرى بأن الرجل صاحب المؤهلات العظيمةن والكفايات النادرةن لا بد وأن ينتهي به المطافن في يوم من الأيامن طال الزمان أو قصرن الى انتزاع الاعتراف له بالجدارة والاستحقاقن وكسب الإقرار لأفكاره وآرائه بالصواب وبالحكمة وبعد النظر.

في نفس الفترة الزمنيةن اندلعت الحروب الميديسية [ نسبة الى كلمة ميديس التي أطلقها اليونانيون على شريحة من الفرس ؛ وهي حروب امتدت على طول النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد ما بين ملوك الفرس وعدد من المدن اليونانيةن تخللتها أعمال في الحرب دراماتيكية وبطولية ستخلدها العديد من المتون اليونانية (هيرودوت) والفارسية (إيشيل). يذكر ان هذه الحروب انتهت بانتصار اليونانن وستشكل السبب البعيد لقيام الاسكندر المقدوني بحملته التاريخية الكبرى على بلاد الشرق. (عن الموسوعة الفرنسية) – المترجم ]ن ما بين الفرس والإغريق. ولقد تحتم فيها على الامبراطور الفارسي قشيرقشن الذي تولى العرش خلفا لأبيه الامبراطور داريوس الأولن العمل على إخماد نيران الانتفاضات والفتن المندلعة في كل من بابل ومصر. وعقابا منه للبابليينن أصدر أوامره في عام 482 ق. من بتدمير معبد الإله الأكبر" مردوخ ". ولقد دك تمثاله المنتصب في قلب حاضرة بابل ن وحوله الى غبار.

هكذا قرر كونفوشيوس العودة الى بلاد كاي المنهمكة في الحرب مع إمارة وو. ثم إنه واصل ترحاله لسنوات كثيرة أخرىن قاطعا الصحاري الواسعةن تصطحبه مجموعة قليلة ممن تبقى حوله من المريدين والتلاميذ والاتباع. ولقد ابتدأ ينفد ما بين أيديهم من الطعام والمؤونة. وزحف الانهاك على مرافقيه ونالت منهم الامراض والعلل. وتبين لكونفوشيوس بأن الرفاق ممن لا تزال لديهم الرغبة في مواصلة المسير معه قد أدركتهم نوازع التذمر واستحكمت فيهم خيبة الآمال. فعمد على الفور وأخرج " كتاب الأناشيد "ن وانتقى باقة من روائع الشعر القديمن ثم شرع يلقي على مسامعهم: " وليسوا بالجواميس ولا بالنمور / ومع ذلك / تراهم يجوبون الفيافي القاحلة / ويهيمون مترحلين عبر شعاب الصحراء ". وها هو يخاطب تلميذه المفضل زيلون يسأله: " هل تعتقد بأن في مذهبي عيب ما؟ أولا ترى بأنه خطأ كله؟ كيف يعقل أن أجد نفسي في مثل هذه الوضعية المزرية؟ " فأجابه تلميذه زيلو بأن هذا الامر برمته حصل بسبب الغلطة التي ارتكبوها جميعهم. ذلك لأنهم افتقروا الى ما يكفي من الاعتدال والرزانةن والى ما تستوجبه الأحوال من العفة والوداعة والعقلن مما كان سيغري الأمراء بالرغبة في خدماتهمن والملوك بالقبول بإلحاقهم للعمل في بلاطاتهم. وأضاف تلميذه الاخر زيلونغ بأن مذهبه شائك الاوصالن عسير على الاستيعابن بعيد عن متناول الافهامن لحد يستحيل فيه على عامة الشعب التفاعل معه بالإيجاب والقبول. وأضاف تلميذ آخر من تلاميذه يدعى يان هوي: " إن مذهبكن أيها المعلمن على مستوى راق من السمو في الفكرن ودرجة عالية من التهذيب الرفيع ن مما يجعل من المتعذر على أفراد الشعب العاديين التفكير في مجاراتهن والنزوع الى الايمان بهن والاقتداء بأصحابه والداعين اليه. ومع ذلكن فإني أرى من الضرورين أيها المعلمن أن تبذل كل ما لديك من الجهد والطاقة لكي تنشر أفكارك بين الناسن وتوصل مذهبك الى أبعد مكان على هذه الأرض. فماذا يهم أن لا تكون أفكارك مفهومة؟ وما الذي يمنع أن يكون مذهبك يلفه التعقيد والغموض؟ إن الصدود الذي تتعرض له أفكارك وتعاليمكن والرفض الذي يواجه به مذهبكن ليدلن بما لا يدع أي مجال للشكن بأنكن أيها المعلمن حكيم حقيقي وأصيل ".

بحلول عام 484 ق. من انتهى اليقين بكونفوشيوس الى الإقلاع عن التعلل بالآمال الكاذبةن والإفراط في الأحلام الخادعة ؛ فقرر العدولن بنحو لا رجعة فيهن عن الاهتمام بالحياة السياسيةن والتخلي نهائيا عن عادة الالتفات الى أي شيء يمكن أن يتصل بسيرة البلاطات والقصور، ودواليب السلطة والحكم. هكذان بانصرام زمن الانتظار الطويل للأمجاد الواهيةن يعود كونفوشيوس الى موطنه الأولن ومسقط رأسهن مع أن الأمير القائم على شؤون الحكم فيه لا يفتأ يجهر بعدم حاجته اليه في بلاطهن وضعف اقباله على ما ينادي به من التوجيهات والوصايا. يعلم كونفوشيوسن الآنن بأن الرجل صاحب المواهب الفذةن والقدرات النادرة التي يتلكأ الناس في الإقرار بها ن فيفرون من الترحيب بهن ملزم بالهدوء وبالكتمانن وبالركون الى الاحتراس والرصانة. يعلمن كذلكن أن المنفذ الوحيد المتبقي أمامه أن يشتغل كرجل تعليم وتربية وإرشاد. وسيكون عليهن فضلا عن مهامه في التربية والإرشاد والتدريسن أن يفسح المجال واسعا أمام تأملاته الملحة حول عقوق الملوك والامراء أهل الحكمة والعلمن ونظراته المتدافعة بشأن نكران السادة وكبار القوم لجميل أصحاب الفكر وأفضال حاملي المواهب والعقل.

وكان " كتاب التحولات " في مقدمة المتون المدرجة في برنامجه التعليمي ؛ علاوة على مواد الشعر والتاريخ والموسيقىن وأخرى من " كتاب الطقوس والمراسيم ". وكان عدد التلاميذ من حوله في ازدياد مطردن لحد ما قارب الثلاثة آلاف نفر. وقد دأب كل عام على تنظيم المباريات بغرض انتقاء نخبة تتشكل في كل مرة من اثنين وسبعين مرشحا من بين المتمدرسين المتمكنين والمتفوقين في الفنون الرئيسية التالية: 1 - الطقوس والمراسيم. 2 – الموسيقى. 3 – الرماية بالقوس. 4 – سياقة العربات. 5 – القراءة 6 – الرياضيات. ولقد كانت الفصول الدراسية التي أحدثها كونفوشيوس مفتوحة الأبواب أمام الناس جميعان ولم تكن أبدا محصورة في أبناء الملوك والامراء والاعيان والسادة. كما حرص كونفوشيوس شديد الحرص على تدوين الدروس كاملةن وإثباتها في محاورات سوف تظهر للوجود في كتاب زمنا طويلا بعد وفاته. وهي المحاورات التي تشكل المتن الحقيقي الوحيد المسند اليهن والذي لا تحوم أية شبهة حول نسبته اليه.

وجدير بالذكر أن الكلمة الأولى في الفصل الأول من كتاب " المحاورات " هي كلمة " دراسة ". وتستحوذ على الصفحات الأولى فقرات تكيل التبجيل والمديح لسلسلة من التمارين الأخلاقية الهادفة الى اكتساب الخبرات الإنسانيةن وذلك قبل الانتقالن في صفحات مواليةن الى تلقين المهارات النظرية وأصول الفنون ومبادئ العلوم والمعارف. ذلك لأن الأفعال والممارسات الأخلاقية تأتي في المقام الأولن والحمولات المعرفية والنظرية تأتي بعدها في المقام الثاني. ولقد ظل كونفوشيوس لا يكف عن التأكيدن المرة تلو المرةن قائلا: " إن من أوجب الواجبات على الفتى أن يكون ابنا بارا في البيت بين أفراد أسرتهن مهذبا ولطيفا جم التوقير والاحترام في المجتمع وبين أوساط الناسن أمينا وموثوقا بهن محترسا وعلى درجة كبيرة من الفطنةن محبا لقومه وعشيرته ولكل أفراد الشعب الذي ينتمي اليهن شغوفا بالتعرف الى الافاضل من الناس من ذوي الاخلاق العالية والسمعة الطيبةن ساعيا الى التقرب منهم لكسب صداقتهم والإفادة من صحبتهم. فإذا تبقت للفتىن من بعد كل ذلكن بقية من الوقت والطاقة والجهدن فليكرسها لقراءة الكتب ومطالعة المصنفات المختلفة والمؤلفات الكثيرة ". ويستطرد كونفوشيوسن فيقول: " إن الرجل ذي الخصال العظيمةن والمنزلة الرفيعةن يأكل باعتدال ولا يسرف أبدا في الطعام والشراب ؛ وإنه لا يشترط في مسكنه توافرا لوسائل الراحة الكثيرة ورغد العيش الباذخ ؛ وهو مثابر ونشيط في الاعمال والمصالح والشؤون المختلفة ؛ عارف بأهمية اللباقة والتأني في الكلام والجوابن وإبداء التعقيب والملاحظة ؛ تراه أثناء التردد على أهل الحكمة والمعرفةن يشغل نفسه بالتشبع بقيم الاستقامة والانصاف والنزاهة. إن هذا الرجل ن بكل هذه الميزات والمواصفات ن يمكن بكل الصدق أن نقول عنه بأنه يحب " الدراسة " (الفصل الأول – 14) ". ومما ينسبن أيضان الى كونفوشيوس ما صرح به لتلميذه زيزهانغن الذي روى الحديث في هذه " المحاورات " قائلا: " أعلن كونفوشيوس بأنه رفض المشاركة في الحكم ؛ وأنه لهذا السببن توافر لديه الوقت الكافي للتفرغ لدراسة الأدب والفنون ". ومما رواه هذا التلميذن كذلكن عن كونفوشيوسن قوله: " ثلاثة فضائل لا غنى عنها لكل الرجال: 1 – الفطنة والاحتراس والحذر. 2 – الرحمة والشفقة والحنو. 3 – القوة والصلابة والمنعة. ولكي يؤتي اكتساب هذه الفضائل ثماره المرجوةن لا بد لها أن تتميز بخاصية تشترك فيها جميعا: أن تكون حقيقيةن وأن يتوفر فيها الصدق. وغني عن البيان أن في الرجال فئة تملك بالفطرةن منذ المولدن العلم بالقوانين الأخلاقية الخمسة الكبرى. وهناك فئة ثانية منهم تأتيهم عن طريق التربية والتعليم. وأخيران ثمة الفئة الثالثةن وتكتسبها مقابل جهود مضنية من البحث والاجتهاد والطلب. وكيفما كانت السبل المتوسل بهان فإنها تبقى دائما على حالها الأصلي بعيدا عن كل تبدل أو تغير. لذلكن تجد هؤلاء يلتزمون بالقوانين الخمسة العامة بلا جهد أو مشقة ؛ وتجد أولئك يراعونها بدون أية صعوبة ؛ بينما لا تتمكن الفئة الثالثة من الالتزام بها إلا من خلال التعب الشديد وبذل الجهد الكبير. والمحصلة في الختام واحدة ومتماثلة بالنسبة اليهم جميعا ".

وبالتالين يمكن القول بأن العنصر الجوهري في تعاليم كونفوشيوس يكمن في غزارة الشعور بالرحمة والحنون أو ما سماهن هو نفسهن " باكتمال المكارم الإنسانية " – وهي العبارة التي تكررت 109 مرة في هذه المحاورات ن وذلك على غرار عبارة " الرجل الفاضل " التي لا تقل عنها أهميةن حيث وردتن كذلكن 107 مرة -. ذلك لأن اكتمال المكارم الإنسانيةن والتشبع العميق بمشاعر الحنان الفائض والرحمة الدافقةن هو السبيل الامثل لبلوغ درجة " الرجل الفاضل ". ففي رأيه أن هذا الرجل الفاضلن الذي قدرته يد الفضيلة فأحسنت تقديرهن وصاغته أنامل الجدارة فأبدعت صياغتهن وتشكل بالخبرة وبالتمرس فتأكدت كفاياتهن ليتموقعن بكل أريحيةن في قمة هرم النخبةن سليلة جماعة النبلاء والسادةن المتحدرة من مراتب الطبقات الاقطاعية والارستقراطية.

ولما بادر تلميذه زيغونغ يسأله أن يبين له كيف السبيل للتعرف على الرجل الفاضلن أجابه كونفوشيوس: " الرجل الفاضل لا يدلي بالموعظة في الناس إلا بعد أن يخضعها للتطبيق والتجريب حتى تتأكد حمولتها النفعية والعملية ؛ وإلا أحجم عن التحدث عنها والنصيحة بها. الرجل الفاضل يعطي الأسبقية للمصلحة العامة على المصلحة الخاصةن لقناعته بأن ما ينفع الناس جميعا واضح التقدم على ما قد يفيد الفرد الواحد فحسب. وذلك على النقيض من الشخص العادي من العامةن والذي لا تشغله سوى منفعته الشخصية دون أي اعتبار لما قد يعود بالنفع على الآخرين ". وبالتالين فالرجل الفاضلن في نظر كونفوشيوسن قوي الايمان بما تكتسيه قيمة الإيثار من أهمية كبرى في الحياة. ومما يذكر عنه أيضان قوله: " عندما تستحوذ في المرء جوانبه الفطرية على جوانبه الثقافيةن يتحول الى كائن همجي ومتوحش. وإذا هيمنت الجوانب الثقافية على عناصر الفطرة فيهن تحول الى كائن واسع الحذلقةن كثير التظاهر بالمعرفة والتشبه بالعلماء. لذلكن فإن إقامة التوازن المضبوط ما بين الفطري والثقافي في الانسان هو السبيل الأمثل الذي يضمن له اكتساب صفة الرجل المهذب ". ويضيف: " أوليس مما يبعث السرور في النفسن اعتكاف المرء على الدراسة والتعلم وطلب المعارفن ثم انتقاله بعد ذلكن في الوقت المناسبن الى إجراء التجارب على كل تلك الدروس المكتسبةن ومباشرة الاختبارات التطبيقية على كل تلك العلوم المحصلة؟ أوليس من السعادة الغامرة أن يكون للمرء أصدقاء يشدون الرحال لزيارته بين الفينة والأخرىن يقصدونه للالتقاء به مهما بعدت المسافات وكثرت مشقات الطريق؟ أولا يوصف بالرجل المهذب ذلك الانسان الذي حرمه الناس من الاعتبار المستحقن وضنوا عليه بالتقدير الذي هو أهل له ن ومع ذلك ن تجده على سبيل التعففن يتفادى أن يستسلم لمشاعر الاستياء منهمن والوقوع في الهم والغم بسببهم؟ ثم إن كونفوشيوس يضيفن أيضان هذه العبارات الحافلة بالأفكار البديعةن فيقول: " ألا ترى الى أن رامي السهام يتقاطع مع الرجل الفاضل في الصفة المشتركة التالية: فحينما يخطئ السهم الهدف ن فلا يصيب قلب المرمى ن ينقلب الرامي للتوٌ على نفسه يبحث في ثناياها عن السبب في الخطأ والعلة الكامنة وراء الإخفاق في إصابة الهدف. ذلك لأن الغلطة الحقيقية هي تلك التي تستعصي على الإصلاح ن ويتعذر في جبرها التقويم ". ويقول كونفوشيوس أيضا: " إذا صادفت رجلا متمتعا بالميزات الراقية والنادرةن فحاول ما استطعت أن تتشبه بهن وترتوي نفسك من معين مياهه العذبة. أما إذا صادفت رجلا قليل الفطنة والذكاءن ضعيف المروءة والعقلن فحاول ما استطعت أن تفتش في نفسك عن عيوبه فتستأصلهان وتستبين في ذاتك مساوئه ونقائصه فتبادر الى معالجتها ". ويقول أيضا: " الرجل الفاضل يضع العدالة فوق كل اعتبار. فالرجل الفاضل المتصف بالشجاعة لكنه يجهل العدالةن يصبح متمردا تلهو به نوازع العصيان. والرجل الضعيف المروءة والعقل المتصف بالشجاعة لكنه يجهل العدالةن يصبح قاطع طريق قد ذهبت به رياح الشر كل مذهب ". إن الفضيلة العظمى التي تشكل جوهر الرجل الفاضل تكمن في الشعور بالاحترام للذات وللآخرين. يقول: " يتوقف مذهب المعلمن بكل بساطةن على المبدأ المتمثل في نقطة واحدة تتلخص في الوفاء للذات وللآخر ". ولا غرو فالوفاءن بحقن ليشكل الخصلة المركزية للرجل الفاضلن وهي التي تمهد السبيل لتحقق اكتمال المكارم الإنسانية الزاخرة بالرحمة الدافقة والعفو الكبير.

ولقد كان كونفوشيوس حريصا على تلقين تلاميذه وأتباعه ومريديه الدرس البليغ الملخص في أنه لكي تمارس السلطةن وتدير دفة الحكمن يجدر بكن أولا وقبل كل شيءن أن تتعلم كيف تحترم نفسكن وتحيط شخصك بالتوقيرن وتصون ماء وجهك في كل ظرف وحال. يقول: " إن المتهاون في شؤونه الخاصةن المتقاعس في توفير العناية بذاتهن والاهتمام بكل ما له صلة بشخصهن ليس باستطاعته إيجاد الحلول الصحيحةن والوصول الى التسويات المطلوبة للمسائل المتعلقة بهن لاسيما منها ما يتصل بقضايا أسرته والمحيط الاجتماعي لمقر إقامته. ذلك لأنه لم يسبق أبدا لرجل ضنين التعهد بنفسهن شحيح الرعاية بأفراد أسرتهن وهؤلاء هم المفترض إحاطتهمن أكثر من غيرهم جميعان بالحدب والسهر الدائم والحبن أن سلست في يده مقاليد الحكمن فتدبر بما يقتضي الحال من علو الهمةن وسعة الحميةن شؤون مملكته أو إمارتهن وهي المفترض أن يتعهدها بشغف أقلن وبعاطفة قلبية مرشحة للزوال في كل حين ". أما بخصوص ما له علاقة بالاحترام الواجب للآخرينن فقد كان جواب كونفوشيوس عن سؤال تلميذه زي يو بشأن مكمن البر بالوالدينن ومرتكز الاحسان اليهمان قال: في الوقت الراهنن كل امرئ منا سعى لضمان المعاش لوالديهن فسيعرف بين الناس كابن بار. على أنه لا يخفى أننان كذلكن نوفر الطعام والشراب للبهائم وللكلاب. لذلكن إذا لم يتوافر للأب وللأمن بالإضافة لما يكفيهما من المعاشن قدر موفور من التوقير والاحترام والحب ن فهل سيتضح الفرق؟ وهل سيتكشف الاختلاف؟ "

هكذان كان كونفوشيوس في تفكيره طليق العنان ن صريح اللسان ن في العبارة جرأةن وفي الكلمة عطر من نسمات الحرية ؛ لا ينفك يستعين ببديع الاستعارات الممهورة بألوان من الشغفن ولا يتردد أبدا في النهل من طبق الفكاهة والجذل.

وللإنصافن لم يكن أحد يفوقه في شدة الايمان بقيمة الرحمة والحنوٌ ودفء المشاعر الإنسانية. ويجب الإقرارن أيضان بأن ما كان يدعو اليه كونفوشيوس لا يختلف في شيء عما سوف ينادي به من بعدهن في فترات زمنية لاحقةن كل من أرسطون وبويسن وابن رشدن وابن ميمونن وأقطاب النهضة الاوربيةن وكبار أعلام الفكر والفلسفة والتنظير في عصر الانوار: لا شيء يهم أكثر من الدلالة المقدرة للكلمات ؛ ولا شيء يهم أكثر من الوعد الصادق وكلمة الشرف ؛ لا شيء يعلو على الاجلال والتوقير الواجب للعلوم والمعارفن وللحاملين لمشاعلها في كل بقاع الأرض من مفكرين وفلاسفة وعلماء ؛ لا شيء أعظم أهمية من الاحترام الواجب للكرامة الإنسانية ؛ ولا شيء أشد ضرورة في هذه الحياة للإنسان من الفنن ومن الابتسام والضحك. ولقد عانى كونفوشيوس معاناة أليمة في علاقاته المخيبة للظنون مع الناس من حوله ؛ ومع ذلكن فقد سعى جهد استطاعته لتفهم ما تنطوي عليه مواقف البشر الغريبة الاطوارن وسلوكاتهم البعيدة في الكثير من الأحيان عن أن تكون عاقلة. قال: " ليس من سوء الحظن ولا من التعاسةن أن يقابلك الناس بالنكرانن وبالتجاهلن وبقلة التقدير ؛ ولكن المصيبة الكبرىن والشؤم الحقيقين أن تعاملهم بالمثلن فتكيل لهم النكران الكاسحن والتجاهل المكينن فتُسقط من عينيك تجاههم كل اعتبار وتقدير ". ومما قاله أيضا: " الكل أكبر من مجموع الأجزاء (...) لا تقلق إذا لم تلتفت اليك الأنظارن فعجزت عن إثارة الانتباه اليك والى وجودك. ذلك لأنه من الاجدر بك أن تنشغل كثير الانشغال في سبيل إنجاز أعمال عظيمة تثير الانتباه اليك وتجلب الأنظار الى وجودك (...) كل شيء له دوما عواقبهن فلا شيء معدوم التبعات. وبالتالي ن لا شيء أبدا خلو من أسباب محددة ومبررات معلومة (...) التعلم الذي لا يقترن بالتفكير عبث لا تجدي فيه الجهود. والتفكير الذي لا يقترن بالتعلم مهلكة".

كتب كونفوشيوس يتحدث عن نفسهن قال: " في الخامسة عشرة من عمرين انصرفت الى الدراسة وتحصيل المعرفة ؛ لما بلغت الثلاثينن تمٌ لي الالمام بأصول العلوم ومبادئ المعارف المختلفة ؛ في الأربعينن انتهيت من الانسلاخن بصورة نهائيةن عن كل أشكال الشك والظنن والتخلص من نوازع الحيرة والتردد ؛ أما حين بلغت الخمسينن فقد تكشفت أمام بصيرتي أحوال السماءن وانبجست لمداركي ما تنطوي عليه من الخبايا والاسرار ؛ وفي الستينن وضعت يدي على كتاب المعاني المستغلقة الوافدة على سمعين ومفاتيح الإشارات المستعصية المتناهية الى فهمي ومعرفتي ؛ ولما أتممت السبعينن شرعت أستسلم لرغبات القلب أنٌى حلٌتن أجاريها تارةن وأنقاد لها تارة أخرىن لكن بمقدارن ودون أن أسمح لنفسي بتجاوز الحدود المسطرة ". وقال أيضا: " إذا بلغت سن الأربعين من عمركن ورأيت أنك لا تزال أرضا مفروشة للحقدن ومحلٌاً متيسرا للتعصب والرغبة في الانتقامن فاعلم بأنك ستبقى على هذه الحال المضطربة بالضغائن والمقت طوال حياتك ". ثم إنه أضاف قائلا: " إنني لا أدمدم استياء من السماءن ولا أتذمر محتجا ومعترضا عليها ؛ كما أني لست بالذي يتهجم على الناسن محمٌلا إياهم مسؤولية إخفاقاتي ومصائبي. إنني مولع بدراسة الأشياء الشديدة البساطة حتى أتمكن من اختراق الأشياء الشديدة التعقيدن والفائقة الأهمية والسموٌ. وما أنا بالغريب في عيون السماء ؛ إنني مألوف لديهان وتعرفني ". لا شكوى ولا ظلامة. لا تكبر ولا غطرسة ؛ لا خيلاء ولا غرور: " فالرجل الفاضل يجتاحه الحزن المكين لإحساسه بأفول مواهبه ونضوب قريحتهن لكنه لا يغتم ولا يحزن أبدا للغربة الجاثمة عليه بين الناسن ولشح نصيبه من الاهتمام والعرفان بالجميل ".

ولا غرو أننا نصادفه أحيانا ما يجري أحكامه وتأملاته في كلام الآخرينن فيعمد الى تسريب مقاصده ونواياه في ما يصدر عنهم من الاقوال والردود. ففي ذات مساءن قصد تلميذه زيلو مدينة يريد الدخول اليهان فاستوقفه الحارس القائم على بوابتهان وسأله عن هويتهن فأجاب: " أنا تلميذ كونفوشيوس. " فرد عليه الحارس قائلا: " آه. أوليس هو ذلك الرجل الذين مهما بلغت صعوبة الأشياء واستحال منالهان تراه لا يرجع ولا ينكص عن السعي اليها ومحاولة تحقيق مراده منها أبدا ".

وإذا كان كونفوشيوس يمتنع عن الحديث في موضوع الموتن قاصدا الى إقامة منظومة أخلاقية ثابتة البنيانن منتظمة في إطار معلوم من العادات والطقوس والأعراف ؛ مشددا على الأهمية القصوى للبحث والدراسة والمطالعة من جهةن وللصدق والإخلاص وسلامة الطوية من جهة ثانيةن فإنه ما فتئ يستنكف عن تنصيب نفسه كقطب من أقطاب الفكرن أو كمدرسة ملهمة للتلاميذ وللمريدين وللأتباع ؛ حيث ظلن على الدوامن وعلى العكس من ذلك تمامان يحرص الحرص الشديد على أن يغرس في نفوس تلاميذه أصول التفكير النقدين ومحبة الاستقلال بالرأي ن والاعتماد على التأمل الذاتي الأصيل. قال: " لا أفعل سوى أنني أميط الجانب الواحد من اللثامن فإذا عجز طالب العلم عن إماطة الجوانب الثلاثة المتبقية منهن فالغلطة غلطته ".

ولقد كان الهدف الجوهري الأخير الذي حدده لنفسه يتلخص في بلوغ مدارج المسرات البديعةن ومنازل الفرحة المترعة بالمتعة واللذة ؛ وهو ما يفسر ورود هذه الكلمات في مناسبات متعددة من أقواله. قال: " إن الرجل ذو المعرفة الواسعة بالشيءن والمطلع على ما فيه من الاسرارن لا يملك أي فضل على ذلك الرجل الذي يتعلق بهذا الشيء عشقا وغراما. وإن الرجل المتعلق بالشيء لاشتداد عشقه له وغرامه بهن لا يملك أي فضل على الرجل الذي يسمو بهذا الشيء الى مراتب الافراح والمسرات الحافلة بالسعادة والزاخرة بالملذات ".

حينئذن كان كونفوشيوس قد بلغ السبعين من العمر. وقد اجتمعت لديه مجموعة من الكتابات المنتخبة ضمها مؤلفه ذي العنوان: " كتاب المستندات والصكوك ". كما قام بالعديد من الأبحاث والتحقيقات في مجال علوم الموسيقى وفنون الطرب والعزف والغناء. وانبرىن كذلكن لتحرير مؤلف هام وضع له كعنوان: " حوليات فصول الربيع والخريف "ن الذي يذكر أنه انتهى منه عام 481 ق. من الموافقة للسنة الرابعة عشرة من حكم الدوق آي. وهي السنة نفسها التي توفي فيها واحد من أعز تلاميذه الى قلبه يدعى يان هوي. وهي الوفاة التي سيضطرب لها فؤاده اضطرابا شديدا. فقد أبصر فيها علامة دنو أجلهن واقتراب يد المنية منه. قال: " إنني أرى يد السماء ممتدة اليٌن تريد أن تنزع عني رسالتين وتسطر لي خاتمة مهمتي ".

بعيدا عن المنطقةن هنالك في الطرف الآخر من العالمن كان الامبراطور الفارسي أحشورش الأول [ المتوفى عام 465 ق. م ]ن يقود حملة عسكرية كبرى لغزو بلاد اليونانن حيث سيقوم بإحراق أثينا عام 480 ق. من وستلتهم ألسنة الحريق الحصن الأول الشاهق للمدينة ؛ وهو الحصن الذي أرسى بنيانه الامبراطور اليوناني بيسي ستراتوس [ المتوفى عام 527 ق. م ]ن ليكون قلعة منيعة ضد هجمات الأعداءن حيث صمد زمنا طويلا أمام الاجتياحات المختلفة للغزاة والفاتحين.

في بداية شهر ماي سنة 479 ق.من سيخطف الموت واحدا من أفضل التلاميذ المخلصين لكونفوشيوس يدعى زي لو. حينهان ستجرفه نذر الختمن وستنسدل عليه أردية النهاية. بفقدان مريده الاثيرن وتلميذه المقربن تأكدت أمام كونفوشيوس استحالة أية إمكانية لاستئناف الطريق ن ومواصلة المسير. فأنشد وفؤاده ينفطر من الحزن والألم: " آه منك يا جبل طايشان المنهد. آه منك أيتها الرافدة الكبيرة المنهارة. آه منك أيها الفيلسوف الراحل منصرفا الى حال سبيله ".

سبعة أيام بعد وفاة تلميذه زي لون يوم الحادي عشر من شهر ماي من عام 479 ق. من وعن سن الثانية والسبعينن يغادر كونفوشيوس هذه الحياة. كانت وفاته تصادف السنة السادسة عشرة من حكم الملك آي. كما صادفت سنة وفاة كونفوشيوسن أيضان قيام الفيلسوف اليوناني بارمنيدس الإيلي بإرساء نظريته حول " الكائن الممتنع ". وفي الهندن السنة نفسها أيضان يدرك الموت بوذا ؛ وكان قد أفاد كثيرا من الرعاية التي أحاطه بها ملوك ماجادها وأمراؤها وسادتها ؛ والذين لم يبخلوا عليه بالتشجيع والتعطف والحمايةن حيث سيحظى مذهبه بالانتشار الواسع والقبول الحسن في مختلف أطراف وادي الغانج.

تلك حكاية كونفوشيوسن وتلك قصة حياته. وعلى كل حالن فقد رويناها مثلما دأب على روايتها الرواةن ومضى في رسم تفاصيل أخبارها الحكاة. وإلى ذلكن فالمرء مدعو لتوخي جوانب الحذر والارتياب. ذلك لأن التواريخ المقررة على طول الحكاية على درجة عالية من الترميز لحد ما يجعل من الصعوبة عدم التسليم بأن قصة حياة الرجلن في أجزاء متعددة منها على الأقلن ليست سوى ضربا من الخرافات والاوهام والتصورات الخيالية. فإذا كانت الفرضية تدفع بمولده سنة 551 قبل الميلادن أوليس الداعي اليها الحاجة الى ظهور رجل عظيم بعد انصرام خمسمائة سنة كاملة على وفاة الملك زهون حكيم الحكماء في زمانهن وفريد عصره بين الملوك؟ وإذا كان كونفوشيوس قد بلغ الخمسين من العمر حين حصلت الدعوة الى " الاجتماع السياسي الاخوي " بمدينة جياغون حيث تمكن من الإفلات من المكيدةن وإفشال المؤامرة ؛ أوليس ذلك لأن سن الخمسين عند الصينيين هي سن بلوغ المرء أشدهن واكتمال نضج مكارمه الأخلاقية؟ وإذا كان قد فارق الحياة في سن الثانية والسبعينن أوليس السر في ذلك كون الرقم اثنان وسبعونن في التقاليد الصينية للإحصاء والترقيم والعدن مدرج ضمن الأرقام المتطابقة التي دأب الصينيون على رسمها على المربعات السحرية التي تسمح لهم بإقامة طقوس التنجيمن وتيسر لهم إنجاز متطلبات العرافة واشتراطاتها الضرورية؟ وبالتالين نستطيع أن نؤكد ما ذهب اليه إطمبيلن الباحث في الشؤون الصينيةن بالقول: " إذا كان المعلم كونغ قد ازداد عام 551 قبل الميلاد ن فذلك راجع الى كون الاجتماع السياسي المعلوم صادف عام 500 ق. م. إلا إذا كان حصول ذلك الاجتماع سنة 500 ق. م راجع لكون كونفوشيوس كان قد ازداد عام 551 ق. م. وهلمٌ جرٌا في ما تبقى من الاحداث والوقائع المروية في الحكاية ".

إلا إذا نزعت بنا التقديرات الى اعتبار هذا التقويم من وضع الأقطاب اليسوعيين الاوربيينن من كبار المفسرين للكتاب المقدس وشراحهن الذين قصدوا من وراء ذلك تحقيق مرتبة مثالية من التطابق ما بين مسارات الروزنامة الصينية وسلسلة المنعطفات البارزة في التاريخ الأوربي.

وبالفعلن تذهب جمهرة من المؤرخين المرموقين من ذوي الكتابات الرصينةن الى استحالة العثور على أي مسوغ يدفع بثبوت حدث من الاحداث الواردة في مختلف المصنفات المتعلقة بسيرة حياة الرجل. وهذا أحدهمن ويدعى إتيين بالازن يكتب: " إن الوقائع البارزة في سيرة حياة كونفوشيوس تتلخص في إقامته في ممالك وين وسونغن وكي ؛ وجميعها يستحيل الجزم بمعرفة تواريخها الدقيقة ؛ وحتى تسلسلها الزمني المأخوذ به مشكوك فيهن ويطاله الكثير من الاشتباه والغموض. وإن اللحظات الحرجة الأربع التي كاد أن يفقد فيها حياته لتشكل متوالية واضحة الصلة بمتوالية الجهات الاصلية الأربع [ الشرق والغرب والشمال والجنوب ]. ولقد كان على " الملك غير المتوج "ن مثلما يلقبونهن أن يوجب على نفسه الالتزام بالقيام بالجولات التفقديةن تماما كما يفعل الملوك ذوو التيجان الحقيقيون. والحقيقة أن التسلسل الوارد لتلك اللحظات الحرجةن والتي أتى على سردها كل من الحكيمين الصينيين الكبيرين تشوانغ - تسون ولي – تسون يرد في تضاد تام مع ضوابط السماء وقواعدها المقدسة القائمة عند الصينيين. ولعل في ذلك ما يقوم تفسيرا للخيبات التي لاحقتهن ولسوء الطالع الذي لازمه في مختلف مراحل حياته. وغني عن البيان أننان في هذا السبيلن لسنا سوى إزاء فضلات معدودة من الأسطورة الاصلية لكونفوشيوسن والتي تعرضت للاندثار والضياع بعد اعتلاء العائلة الملكية هان دفة الحكم في الصين ".

أشد من ذلكن نستطيع أن ندفع بالقول بأن كل شيء في قصة حياته لا يعدو أن يكون مجموعة من الخرافات المختلقةن وباقة من الاستعارات المزركشة بالألوان الزاهيةن وذلك بالاستناد الى ملاحظة منسوبة اليه يصرح فيها بأن مملكة كي تشتهر بالتطلع للاستيلاء على الحكمن بينما تعرف مملكة لو بين الناس بالسعي وراء بلوغ المراتب الكبرى في التطور الثقافي والفكرين وأننا ن في هذا الصدد ن نجد أنفسنا في أمس الحاجة لبلوغ مرتبة الطاو حيث " تنتصر الحقيقة ".

وبالرغم من كل هذه الآراء المتقلبةن وشيوع الشك وانعدام اليقينن يبقى التأثير الذي مارسه كونفوشيوس على مجموع بلاد الصين متأصلا في غابر الزمنن متواصلا عبر الحقبن لا يخفت ولا يتراجعن ولا ينضب ولا تطاله يد الوهن. على منواله انتظمت الحكومات الصينيةن وعلى مثاله استقامت شؤون الحكمن وتوطدت مقتضيات السياسة فيها طيلة ردح طويل من التاريخ يشارف الألفين من الأعوام. وهكذان ففي الثامن والعشرين من شهر شتنبر 1955ن أقيمت في طايوان الاحتفالات بذكرى 2506 لميلاد الحكيم كونفوشيوسن بحضور سليله السابع والسبعين المنحدر من شجرة فروع ذريته. وفي أعقاب الثورة الثقافية التي شهدتها الصين الشعبيةن أقيمت يوم الثاني والعشرين من شهر شتنبر من عام 1984ن بمدينة كوفو الواقعة في مقاطعة شاندونغن مراسيم الاحتفال بالذكرى 2535 لميلاد الكونغ طو ماون بحضور سليلته المنحدرة من الجيل التاسع والسبعين من شجرة الأخلاف.

ولا جرم أن ما يدعون بنحو أكيدن الى الريبة والاشتباه ليتجلى في قضية المصنفات وأعمال التأليف المنسوبة اليه. ذلك لأنه من الأمور المحققة أن كونفوشيوس ليس هو المؤلف الحقيقي الذي وضع هذه النتاجات الفكرية. وسواء " كتاب الأناشيد "ن المفترض أنه هو من قام بتجميعه وترتيبه ؛ أو " كتاب المستندات والصكوك " (أو ما يعرف بعنوان " كتاب التاريخ ")ن المفترض أنه هو واضعه ومؤلفه ؛ أو " كتاب التحولات "ن الذي تنسب اليه محتوياته التي تحمل عنوان " الأجنحة العشر " أو " الملحقات " ؛ كلها بعيدة كل البعد عن أن تكون مسطرة الحروف بقلمه ن مثلها في ذلك مثل الكتاب الذي يحمل عنوان " حوليات فصول الربيع والخريف ". إن الكتاب الوحيد الذي لا تحوم الشكوك من أن كونفوشيوس هو حقا واضعه ومؤلفهن يحمل عنوان " المحاورات التلقائية "ن والذي قام بتجميعه وترتيبهن بعد وفاتهن ما لا يقل عن جيلين متتابعين من تلاميذه وأتباعه ومريديه. والجدير بالذكر أن عملية تدوين وتحرير هذا الكتاب قد ابتدأت فترة الانتهاء من وضع المصنف ذي العنوان " كتاب فصول الربيع والخريف "ن ولتنتهي في مستهل الفترة التاريخية المعروفة بحقبة " الممالك المتقاتلة ".

مات كونفوشيوسن فاضطلع تلاميذه وأتباعه ومريدوه بأمر عقيدته وأفكاره وتعاليمهن يذيعونها بين الناسن ويوصلونها الى المناطق المختلفةن القصية والدانية ؛ فاتسع نطاق شهرتهن وعم صوته الآفاق البعيدة. وهكذان ففي نهاية القرن الرابع قبل الميلادن قام الحكيم مانسيوسن حامل مشعل الأدب والفكر في بلاط المملكتين كي ووين بوضع الهيكل الأساسي " للكونفوشيوسية "ن وإرساء المقومات الجوهرية لمنظومة تعاليمه الدينية والأخلاقية. وبالرغم من خضوع الصينن في تلك الحقبة من التاريخن لحكم ملوك عائلة زهون فقد أتى عليها حين من الدهر تفشت في مختلف أرجائها الاضطرابات والقلاقلن فانقسمت الى إمارات وطوائف متنافسة ومتنازعة ؛ وهو ما جعل تلك الفترة تشتهر بحقبة " الممالك المتقاتلة ". ثم كانن بعد ذلكن أن أسس الملك كين شي هوانغ أمبراطورية العائلة كين. وفي عام 202 ق. من قامت العائلة الملكية الحاكمة هان بالعودة لتراث كونفوشيوس بغرض إعادة النظر في تعاليمه ووصاياهن والإفادة منها في إرساء دعائم الحكم. فقررت أن تأخذ عنه الفكرة التي تقول بأن النظام الامبراطوري متطابق كل التطابق مع نظام الكون ؛ وبأنه لا نهاية لهذا النظامن كما لا حركة له. وأنه لا وجود إلا لنظام واحد ثابت ولا يتغير ؛ وأنه لا وجود للتاريخ ؛ وبأن كل شيء يؤول الى الواحد الأحد المتشكل من: الامبراطور والوطن والشعب. وبأن ذروة الكمال تكمن في النزوع الى الثبات والاستقرار. وأنه لا وجود لمدينة فاضلة يمكن إنشاؤها على وجه الأرض. وبأنه لا وجود لقتال نحن ملزمون بخوض مهالكهن ولا لمعركة يتوجب علينا الذهاب اليها. فانفتحت الأبواب واسعة أمام المعتقدات الاصيلة في فكر كونفوشيوسن وتدفقت تعاليمه الصارمة لتجتاح الأوساط المختلفة في كل مكان من بلاد الصين. وكان ان استتبع ذلك أن فرض نظام الامتحانات في مجموع دواليب الدولة. ولأول مرةن يظهر كاتب لسيرة حياة كونفوشيوس يدعى سيما كيانن الذي ألف كتابا يحمل عنوان: " مذكرات تاريخية ". وفي السنة الثالثة والعشرين الميلاديةن قام الماركيز زهانغ يون مربٌي الامبراطور شينغن بتأليف كتاب ضمٌ منتخبات من محاورات كونفوشيوس.

ولسوف تنصرم حقبة من الزمن تمتد ما بين القرنين السابع والتاسع الميلاديينن إبان حكم العائلة الملكية الحاكمة طانغن عرفت خلالها تعاليم كونفوشيوس انكماشا نسبيا وتقهقرا محدودا. لكنن باعتلاء العائلة الملكية سونغ عرش الصينن ستتجدد أمجاد العقيدة الكونفوشيوسيةن حيث سينبري الملوك والامراء المنتسبون لهذه العائلةن لإعادة الروح لتعاليم " الملك بدون تاج " ؛ فتنبعث انبعاثا جديدان لكنن ممزوجة بخليط من أفكار العقيدة الطاويةن ومجموعة شرائع الديانة البوذية حديثة الوصول من بلاد الهند. سوف يستمر العمل بنظام الامتحاناتن المرتكز بالأساسن منذ فترة حكم العائلة الملكية هانن على المقررات الواردة في المدونات الكونفوشيوسيةن والمتكونة من مجموع الاعمال الكاملة لكونفوشيوسن حتى آخر أيام الإمبراطورية عام 1911. وحتى في الفترات اللاحقةن إبان قيام الجمهوريةن ظلت المدونات ومجموع التعاليم والشرائع الكونفوشيوسية تشكل القاعدة الرئيسية للمقررات الدراسية لأسلاك التعليم في بلاد الصينن والتي لا محيد عنها لكل الطلاب الراغبين في الترشح للمناصب الإدارية المختلفة للدولة ؛ وذلك الى حدود سنة 1949ن مع وصول الحزب الشيوعي الى سدة الحكم.

بانطلاق فعاليات الثورة الثقافية في مجموع بلاد الصينن قام الزعيم ماو تسي تونغن سنة 1974ن بتوجيه تهمة الخيانة لكونفوشيوس ؛ حيث صرح بأن كونفوشيوس خائنن وأن خيانته لا تقل فداحة الخطورة التي تشكلها عن خيانة لين بياو [ المارشال والزعيم السياسي الصينين (1908-1971)ن القائد العسكري الكبيرن شارك في المسيرة الكبرى وفي الحرب ضد اليابانن وزير الدفاع عام 1959 ؛ اختفى من الحياة السياسية سنة 1971. وحسب الرواية الرسمية ن فقد تم اسقاط طائرته في منغوليا أثناء محاولته الفرار الى الاتحاد السوفييتي بعد قيامه بمحاولة فاشلة لقلب نظام الحكم (الموسوعة الفرنسية) - المترجم ]. وهكذان امتدت اليه يد الاقصاءن فامحت أشكال حضوره العلنين مثلما اختفت متونه وتعاليمه من كل الساحات والامكنة. غير أنه سرعان ما سيعود ليسترجع مكانته ؛ فقد كتب الزعيم السياسي الصيني المعاصر كو وو مورو وون الشاعر والمؤرخ ورئيس الفدرالية العتيدة لكتاب وأدباء الصين حتى وفاته عام 1978 ن قال: " استطاع كونفوشيوس تزويد مقدراته الشخصية بكل عناصر الصلابة والمنعة والقوةن وسهر على توسيع مدارجها الى أقصى الآفاق الممكنةن طولا وعرضان وعمقا وكثافة.... بل إن حياته شبيهة بقصيدة شعرية بديعة فائقة الروعة والجمال. وإن شعراءنا المعاصرينن وقد نالت منهم الاسقامن وأقعدتهم الهزات النفسية والعقليةن ليعجزون كل العجز عن مضارعة إمكانياته البدنية وعنفوان طاقته الهائلة..."

ومما يجدر ذكرهن في هذا الصددن كذلكن هذه العبارة الواردة في مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب " المحاورات " لكونفوشيوسن والتي أنجزها عام 1987 المحلل الأريب للشؤون الصينية بيير ريكمان (المشهور باسم سيمون ليس) ن والذي شدد فيها على: " استحالة العثور في تاريخ البشرية برمته على متن نجح في أن يمارس كل هذا التأثير الطويل المدى على طائفة واسعة العدد من الناس يضاهي التأثير الذي نجحت في إحداثه " المحاورات ". والى ذلكن كتب جوزيف فيدليخن من جهته ن كتابا يحمل عنوان: " رشمات استوديو الخيزرانات العشر "ن جمع فيه منتخبات من الرشمات التي يعود تاريخها الى بداية القرن السابع عشرن وردت فيه ملاحظة له يقول فيها: " إذا كان أرسطو أب المنطق وواضع أسسه الأولىن فقد كان كونفوشيوس في مجال علم الاخلاق داعية تجريبيا عريقا وأصيلا... وإذا كان أرسطو الأب الروحي للغرب الذي طالت تأثيراته القوية حتى الماركسيين الاوربيينن والذين لا يكفون عن الزعم بعدم التأثر بهن فبإمكاننا القول بأن كونفوشيوس قد لعب نفس الدور في آسيان من حيث العجز البين لكل النقاد - الذين تجرأوا على التصدي لمنظومته العقدية في محاولة لاقتلاع تعاليمه وأفكاره واجتثاث طريقته في رؤية العالم - عن التحرر من تركته الدينية والأخلاقيةن والاخفاق في التخلص من ظلال شبحه المستشري في كل الاوصال الروحية والبدنية. وإن الماوية نفسهان ليستن في واقع الحالن سوى فلسفة ظرفية منذورة للزوالن نشأت وترعرعت في حضن كونفوشيوسن وتحت الظلال الوارفة لمجموع شرائعه العريقة وتعاليمه السامية الاصيلة ".

وبالتالين فالأولى بنان الآنن أن ننتقل للحديث عن أرسطو...

 

..........................

BIBLIOGRAPHIE

1-      CONFUCIUS , Entretiens , trad. Anne Cheng , Qiu Kong , Paris , Seuil , " Points Sagesse " (n° 24) , 1981.

2-      Les Estampes du studio des dix bambous , présentations et commentaires de Joseph Vedlich , Paris , Seghers , 1979.

3-      ETIEMBLE, René , Confucius , Paris , Gallimard , 1966 , nouvelle édition augmentée " Idées"(n° 112) 1985.

4-      GRANET , Marcel , La Civilisation chinoise , Paris , Albin Michel , 1968.

5-      GRANET , Marcel , La Pensée chinoise , chap. IV, Paris , Albin Michel , 1968.

6-      INOUE, Yasushi , Confucius , Paris , Stock , " La bibliothèque cosmopolite ", 1997.

7-      Maspero, Henri et Balazs, Etienne, Histoire et institutions de la Chine ancienne, Paris, PUF (Annales du musée Guimet) , 1967.

8-      Philosophes confucianistes, édition établie par Charles Le Blanc et Remi Mathieu, Paris, Gallimard, " Bibliothèque de la Pléiade" , 2009.

9-      YUTANG, Lin, La Sagesse de Confucius, Paris, Philippe Picquier, "Picquier poche" , 2008.

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم