صحيفة المثقف

نورالدين حنيف: رقص الأمكنة في رواية (سماء صالحة للرقص) للمبدع ناصر قواسمي

نور الدين حنيفتمهيد: نحدد وجهة تحليلنا البعيد كل البعد عن استيفاء كل مكونات الخطاب السردي في الرواية أعلاه. وسنكتفي بمساءلة مكون المكان وحده داخل إمكان تعالقاته مع باقي المكونات إخلاصا لنسغ البناء، ودرءاً لانزلاق نتائج التحليل في مطبات التأويل الجارف.

نعتبر (المكان) مقولة وجوديـة مرتبطة أساسا بالكائن، ومشتقة من فعل (الكينونة) التّام والمحيل في ذاته على معنـــى (وجد). كما نعتبر هذه المقولة صياغة غير مباشرة لفعل التحول، على الرغم مما يتعلق بمقولة المكان من تداعيات جامدة منظورا إليها داخل مفهوم الحيز الفيزيائي المادّي. وصفة التحول هذه تتأتّاهُ من التصاقه بمفهوم أكبر، هو الفضاء الروائي، ومن ثمّة، فهو يصطبغ بصبغته ويتلون بتلاوينه ويتحقق داخله، مُدرَكاً مرِناً متخيّلا، لا مدرَكاً ماديا جامدا.

و المكان في الرواية هو كل فضاء تخيّلي يصنعه الروائي كإطار يُجري فيه الأحداث الوقائع والمواقف، بحيث يتعذر تصور وقوع هذه الثلاثة خارج هذا الإطار المكاني الذي يمثل في الرواية ما تمثله الخشبة في المسرح، ويربو عن ذلك إلى تأطير رؤية البطل وكذا رؤية مؤلف الرواية، وتطويرها، باعتباره مكونا روائيا قادرا على حمل المنظورات المتعددة وبسطها مفككة أمام ناظريْ القارئ والمتلقي. إن المكان من هذا المنظور الروائي التحليلي لا يصبح مجرد إطار فيزيائي يحتضن الحدث وما شابه الحدث في تجلياته السردية مع القوى الفاعلة وغيرها من مكونات العمل الروائي، وإنما، وأيضاً، وأساساً، يصبح دليلاً أنطولوجياً على الرؤية إلى العالم، وهي رؤية تنهضُ في منظور السارد، على الرفض الظاهر لهذا العالم شرقاً وغرباً من جهة، والرغبة في تصحيح هذا العالم من جهة ثانية، على اعتبار أن المكان يورّط الذات في أتون المفارقة الوجودية التي تقوم على التقابل والتمايز والتناقض بين مجموعة من المقولات المتضادة (و لكن ما يعني على نحو ملموس رفض العالم؟ يُقدَّمُ هذا العالم إلى الوعي كفرض للخيار بين بين عدة إمكانيات متناقضة، تتنافى، ولا يعد مع ذلك أيّاً منها مع ذلك مشروعاً وكافيا. فالرفض الدنيوي للعالم، هو رفض الاختيار والاكتفاء بإحدى هذه الإمكانيات أو هذه المنظورات. إنه فعل الحكم بوضوح ودون تحفظ بنقصها وحدودها، ومعارضتها بفرض قيم حقيقية الكلية يصبح بالضرورة فرضا بوحدة الأضداد)*1

يتجاوز المكان الروائي ما يسكن تمثلاتنا البسيطة التي تختزله في شرنقة الحيز الذي نعرفه في معيشنا اليومي، ونصوغه خارج ذواتنا كمادة منفصلة. في حين أنه في العمل الروائي يمثلُ قيمةً متخيلة مشبعة بعناصر الجمالية، ومفعمة بالحركية الروائية القادرة على التأثير في عمليات السرد، في تعالقاتها الممكنة مع الذات، التي نستحضرها هنا مقابلة لمقولة الموضوع، حيث يظل الجدل قائما بينهما ومرتكزا على سيمياء التفاعل وتبادل كل إمكانات التجلي الفني المترجم لأشكال أخرى من الوجود ... من هنا إحساسنا المستمر بالمكان إحساسا جوانيا يستحيل معه تصور الذات خارج الموضوع، والمتخيل خارج الواقع.

إن قراءة عمل روائي ومقاربته في أبعاده المكانية هو في حد ذاته دخول أدبي مغامر، يستبيح عوالمه المتخيلة. وهي عوالم تستدعي كثيرا من التداعيات، أبرزها تأسيس علاقة جدلية بين مخيال الكاتب وبين الواقع الزئبقي الذي يغوينا فعل الكتابة بولوجه، لا من باب الانعكاسية المسطحة، ولكن من باب الكشف عن رؤية الكاتب للعالم.

و من ثمّة، فالعمل الروائي هو في صميمه لغة تمارس حضورها النوعي عبر مجموعة من الشفرات الخاصة والأكثر حميمية، تجعل المكان الروائي فضاء معلنا ومبنيا وموصوفا داخل المعنى الحامل لدينامية الحدث، ولتفاعلات القوى الفاعلة، ولتشعب عناصر التشكيل المتأزم للرواية في أبعادها الدرامية الآيلة إلى قدر الانسجام الخطابي (من الخِطاب لا من الخطابة). من هنا، فالمكان الروائي خاصة والفضاء الروائي عامة لم يحظ بحقه في (الدرس باعتباره عنصرا مكوّنا تأسيسيا للعمل الروائي في تعادل مع باقي المكونات الأخرى مثل الشخصية والعقدة والزمن، بحيث كان يتمّ استحضاره كامتداد فيزيائي فقط، يقوم بدور احتضان هذه المكونات)*2

تحليل:

1 - بين يدي الرواية:

في رواية (سماء صالحة للرقص) يلعب الفضاء المكاني ببعديه الرمزي والواقعي، دورا أساسيا في شدّ لحمة الخطاب السردي، لا باعتباره حيزا فيزيائيا لتمظهرات باقي المكونات السردية فحسب، وإنما وأساسا باعتباره قوّة فاعلة في هذا الخطاب، يشي بالتحوّل المبين في حساسيات القراءة النقدية للفعل الروائي الذي كان دائما يحتفظ للحدث وللزمان بنصيب الأسد في التناول القرائي. في حين أن قيمة المكان النسغية في النص الأدبي عامة وفي العمل الروائي خاصة قيمة أساسية لا محيد عنها البتّة. فالعمل الأدبي حين يفقد المكانية فهو يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته كما عبّر عن ذلك غالب هلسا في مقدمته لكتاب جمالية المكان.

و دون تعطيل لفعل الزمن في هذه الرواية، نقول إن القوى الفاعلة تتطور تبعا لطبيعة الأمكنة لا في تجليها الواقعي المحض، وإنما في وجودها الفني الموسوم بقدرة المبدع (ناصر قواسمي) على تمثل المكان كنقطة بدء واقعية تمتزج بإحساس هذا المبدع بالجمال القمين بتحويل العمل الروائي من عملية تأريخ للحظة الحيوية إلى عمليات تخييل لهذه اللحظة، تخييلا ديناميا يدعونا فيه المبدع (ناصر قواسمي) إلى اقتناص حقيقة المكان في خصوصياته المتعددة عبر مداخل مختلفة أهمها مدخل الوعي الخلّاق الذي يشعل ثنائية الذات والموضوع وميضاً مفاجئاً سريع التدفق عبر مجموعة من التحولات الفضائية .

يعفينا المبدع من عناء التقطيع السردي والبحث عن محددات إجرائية لهذا التقطيع، لأنه يقدم لنا الرواية داخل أربعة وعشرين فصلا نستدعيها كالتالي وفق الترتيب الكرونولجي للسرد: (نافذة صغيرة – الهروب – عزلة طفيفة – شمس ليلية – سماء صالحة للرقص – حزن صغير – كطير في مدى – فكرة مغلقة – كي تكون أكثر – تفاصيل ناضجة – فراش خفيف – هي عزلة أخرى – على شرفة وحيدة – حين ترتبك المدن – لا تملك ثمن الحلم – شرطان وحزن – وعي بلا وعاء – لا سبب للصعود – حظ الغريب دخان – نرد بلا أرقام – كذلك تمنو الفكرة – لا تعتذر عن شيء – وحيداً في الفراغ – تعود بلا معناك) .

2455 ناصر قواسمي

2 - المتن الروائي:

في مسافات غير طويلة احتضن المبدع تفاعلات هذا العمل الروائي الموسوم ب (سماء صالحة للرقص) في مائةٍ وثلاثٍ وأربعين صفحة ضمّنها تصوره الفني والفكري لقضية من قضايا هذا الوجود المستشكل في ذواتنا الصغيرة، عبر متابعة رحلة (علي الدبس) مهاجرا من أرض الشام إلى أرض الغرب، وعبر رصد معاناته في دول العبور مثل تركيا واليونان قبل استقراره في إيطاليا وفي مدينة جنوة بالخصوص. في هذا المسار يلتقي علي بإيلينيا، وهي شابة إيطالية، ينعقد بينهما شغف الحب، ويتمكن ... ويحدث أن تُصاب إيلينيا بتهتك في عمودها الفقري إثر حادثة سير، أفقدها القدرة على الحركة. في هذا الظرف العصيب، يتقدم (علي) بكل شهامة ويساعدها في محنتها ثم يتزوجها. وفي الأخير تقرر إيلينيا وضع حد لحياتها عن طريق الموت الرحيم في أحد مستشفيات سويسرا بقرار فردي لا رجعة فيه، بعد أن تركت لعلي وصية مكتوبة، مرفوقة بشيك محترم، تنصحه فيها بالرجوع إلى أرضه ووطنه والبدء من جديد .

3 - آليات اشتغال المكان:

+ المقطع المركزي:

عنوان الرواية هو عنوان الفصل الخامس (سماء صالحة للرقص)، وهو تركيب لغوي يبتعد فيه المبدع ما أمكنه الابتعاد عن واقعية الصوغ وبساطة الرؤية ومرآتية التخييل، ليحمّله دور الكثافة في الكتابة الروائية المُسائلة لسيمياء الواقع \ الأرض، انطلاقا من فعل متعالٍ تمارسه السماء الراقصة، عبر آلية التنسيب التي تشي بأن مقولة (الصلاح) توحي بنقيضها (الفساد) وتستحث الوعي على استحضار الرقص وعدم الرقص في آن .

إن قيمة العنوان الموقعية (السماء) تشي بالتعارض الواضح مع الواقع، ومع الأرض، في توجّه سردي سيميائي يفضح الثنائية التالية: السماء ترقص في مقابل الأرض التي لا ترقص. من هنا استدعاؤنا لقراءة العنوان داخل هذا المربع السيميائي:

سماء --- أرض

رقص --- لا رقص

أو: سماء --- أرض

مكان --- لامكان

هكذا يتميز العنوان باستقلاليته الزئبقية كنص متعالق مع الخطاب السردي في هذه الرواية =، من حيث قدرته على الإضمار المفهوم من خلال لغة الانزياح، حيث يتم إسناد فعل الرقص الدنيوي المادي للسماء \ الدخان الميتافيزيقي، باعتبارها جوهرا في مقابل العرَض، الأرض ... إن فعل الرقص كما هو قابع في تمثلاتنا البسيطة فعل يستدعي جسدا راقصا بأرجل راقصة. من هنا ثنائية النسق المعلن (السماء) والمضمر (الذات) في شقّيْها الواصف والموصوف ... السارد والمسرود ... حيث تتبدى الذات راغبة في التعالي، بمفهومه الفلسفي، والسمو على سيمياء الواقع \ الحضيض، فاتحةً عواهن السرد للذات الأخرى الموصوفة كي تنتصر على الألم بقرار خرافي، في بعدين: الأول يتجلى في تماهي البطل مع قضية إيلينيا والتجرد في الإخلاص لها رغم ظرفية النقصان، والثاني يتجلى في تسامي إيلينيا على الجسد الموبوء واختيار الموت كلحظة خلاص أسطورية . من هنا عملية دمغ السرد بدمغة التعالي سيميائيا وبشكل مفتوح على كثير من إمكانات التخييل.

+ في البدء كانت النافذة:

وقد كانت النافذةُ مكانا جزئيا يختزل مكانا كلياً هو البيت. وكانت العلامة الفاصلة أو الواصلة بين الجزء والكل هي علامة الريح التي استحضرها السارد قوّةً فاعلة موصوفة بالوقاحة والصلف والبلادة (الرواية ص 03) غير معترفة بحدود المكان. ونعني بالحدود مقولة الأبواب التي تتلبّس بسيمياء الانغلاق والانفتاح، متجازوة بذلك حركيتها الآلية كوظيفة اجتماعية للولوج والخروج والستر ... إلى وظيفة دلالية رمزية تُهرِّب المعنى السردي إلى أقصى حدود التأويل، حيث تتحول الريح إلى (آخر) يهدد خصوصياتنا الحميمية، ومع ذلك نحتاجه ولا نطيق غيابه. ومن ثمّة يكون هذا التجلي المكاني معنىً سرديا ممهدا بذكاء لانفتاح الذات الشرقية \ البيت، على الغرب \ الريح ... قال السارد (من أجل هذا وذاك كله لا يجب أن نهمل النوافذ لأنها عيننا الوحيدة على الخارج المتاح – الرواية ص 04)

يمكن تأويل هذا المعطى السردي الواصف (إنها عيننا الوحيدة على الخارج المتاح) تأويلا رافضا لعمليات الشفط التي يمارسها البيت على الذات الراغبة في الانعتاق. قال ماكس بيكار، الفيلسوف السويسري (البيوت تشبه الأنابيب التي تشفط البشر في داخلها بواسطة تفريغ الهواء Les rues sont comme des tuyaux où sont aspirés les hommes) * 3

و السارد في (سماء صالحة للرقص) يبدو رافضا لهذه الحياة الأليفة المسترخية المنتظرة في سلبية واضحة قدر الشفط وقدر الاندماج البليد في دواليب الأمكنة الراكدة التي تعزل المرء، وتفقده شعوره بعواصف الكون الخارجية، أي تفقده شعوره بالحياة وبمعناها (لم يكن المقرر أن نفتح الباب على مصراعيه – الرواية ص 3)

+ رقصة الهروب:

يحتمي السارد بمجن الأسئلة المنبثقة من رغبة غير واضحة في التبرير عبر مساءلة مقولة الهروب التي توحي سلبا وإيجابا بمقولة المكان، إذ لا يتأتّى هذا الفعل في الهيولى. لابد له من فضاء يمكّنه من ممارسة الهرب. قال السارد (هذا الكائن الهلامي العبث إذا ما جازت التسمية ص 6)

والمكان هنا مستحضر في سياق غير مرغوب، وهو سياق يغذيه ويثريه فعل الهروب، ويجعله فضاء قابلا للتلاشي بحثا عن فضاءات بديلة. وفي هذا المنحنى السردي، يتم اعتبار الذات غير مالكة لقراراتها، ولا قوة لها أمام جبروت الموضوع. ويتجلى ذلك داخل شرطين: شرط المكان الذي أمسى خلفية ماضوية، وشرط الفعل (الهروب) الذي أصبح حلاً بديلاً (و نمضي... كأننا لا شيء – ص 6)

تصبح الذات المحكي عنها هنا ذاتا متشيئة شبيهة بالكائنات الغريزية، تتصرف وفق ناموس فوقي لا يستشيرها في إرادتها (نعم إنها الغريزة التي تقودنا للقفز – ص 6)، وكأن السارد هنا يريد تبرير فكرة الهروب وشرعنتها وتصديقها، على احتمال أن ينبري للذات من يعارضها في قرار الهروب مسفِّهاً اختيارها ومدينا له.

يتحول ضمير السرد من الأنا المفردة إلى الأنا الجمعية (سنهرب إذن – ص 7) وهنا يكبر حجم التبرير ويزداد. وكأن السارد يفر من تهم الهروب محولاً القرار الفردي إلى قرار جمعي، يتدثّر فيه وبه متملصاً عبره من حق الآخر في المساءلة وفي الإدانة، مادام السارد قد وزّع دم الفعل على الأنا الجمعي حيث يستعصي التأشير بأصبع الاتهام على أيٍّ كان. يذكرنا هذا السياق السردي بهروب الشباب الفلسطيني داخل الخزان في رواية (رجال في الشمس).

تتبدى لنا قمّة التبرير في التجاء السارد واحتمائه بالمكان \ الحلم، في يقظة لا في منام، عبر هذا المقطع السردي الاستباقي (كي نتمكن من تجميع ما تكسر أو تهشم في دواخلنا ونعيد تدويره وتكريره من جديد لنضعه في خزانة المحتمل إلى حين – الرواية ص 7) ... والملاحظ أن السارد لم يكتف بتجميع ما تكسر، ولمِّ ما تهشّم، بل أضاف في سياق لعنة الوصف عبارات دقيقة آثمة ومُدينة في الآن نفسه. قال (ونعيد تدويره) في وصف يعتلي قمّة الهزء والسخرية السوداء الفاتكة بما تبقى من كرامة . ولا أدلّ على ذلك من قراءة فعل التدوير في مقامه الأصلي، حيث التدوير لا يكون إلا في المتلاشيات المحكومة بقدر القمامة. وهنا أيضا يزورنا طيف (رجال في الشمس) وهم يلقون حتفهم في آخر المطاف ويُلقى بجثامينهم في القمامة على مشارف المكان \ الحلم (الكويت).

هكذا، يتجاوز المكان حيزه الجغرافي إلى متعلقه بالمخيال الروائي المتجاوز هو أيضا لصرامة الواقع وسطحيته، بحثاً عن المعنى داخل ثنايا المادة المكانية، وهو المعنى الحامل لفعل الإدانة المنصبّة على فعل الهروب وفعل الركض عبر مقولة اللعنة (اللعنة... ألم ننتبه إلى كم ربيعا أضعنا في زحمة الركض – الرواية ص 9)

+ المكان العزلة:

العزلة مقولة لا نستوعب دلالتها إلا في نقيضها أي في الاختلاط والاجتماع، ولا عزلة ولا اختلاط في الهيولى واللامكان، بل لابد من فضاء مكاني يسمها بالمعنى. في هذا السياق، يتحول السارد من موقع المتكلم \ الأنا إلى موقع المتكلم \ المخاطب، بكسر حرف الطاء، في إطار تصور باختيني يتكشف المعنى السردي في تعدد الأصوات ويستثمرها في تشييد الرسالة السردية وبناء شفراتها الخاصة. من هنا، انزياح (سماء صالحة للرقص) من دوائر الرواية المناجاتية إلى آفاق الرواية الحوارية، وهي المثلى في نظر باختين. لأنها تمنح الفكرة حقّها في التعبير. وبالتالي، تخلق نوعا من التوتر بين الأنوات، كما هو الشأن في سياق هذه الرواية التي بين أيدينا، حيث تعدد الرؤية والرؤية المخالفة ... وهو تعدد يوفر للنص الروائي فرصا كبيرة لرصد الواقع رصدا شموليا في إطار محاورته لا تسجيله، وفي إطار تنبني فيه الفكرة عبر ذاتها وعبر نقيضها أولاً بأول. قال السارد (تكاد تنفض ضلوعك عن بعضها من التوتر والنزق وأنت تبحث عن معنىً صالح للاتكاء عليه – الرواية ص12). إن مفرداتٍ من قبيل (تكاد، أنت، تبحث) كلها مؤشرات لسنية تفيد انتقال الصوت من الأنا إلى الآخر القابع في الذات، المُسائل، الواخز، المُدين، المثبت، النافي، المصحّح، المستدرك، العارف ...) وحسبنا من هذا، هذا، لأن المقام مقام تأويل للأمكنة فقط، وبالتالي فالعزلة قدرٌ يجر بعده أقدارا وأبرزها سكون الذات ودخولها مراحل للتأمل وقراءة التاريخ العامر بحالات الهروب.

تفيدنا العزلة انتقالا سرديا من مكان إلى مكان، من مكان \ الحلم إلى المكان \ الواقع، عبر جسور دلالية ترتبط أساسا بالمعرفة والذاكرة، حيث يعمل السرد بمكر على زوبعة استقرار قارئ الرواية في استرخائه لسلاسة التأمل والزجّ به في المكان \ المحطة ... حيث بطل الرواية ينتظر وصول القطار، وحيث المكان يعج بالحياة لكنه لا يزيد الذات إلا إحساسا بالعزلة لا الاغتراب، وبالفرادة لا الشبه، وبالوحدة لا الاجتماع .

تعتبر المحطة مكانا لتكريس العزلة بامتياز، ومكانا لتتبع التفاصيل المرتبطة بالآخر في أدق حيثياتها، تأشيرا على الفراغ المهول الذي يسكن الذات، وتأكيدا على حجم الانتظار الذي يأكل أزمنة الذات، لكنه يغنيها ويثريها بالقدرة على الملاحظة وتتبع التفاصيل (أنظر وصف السارد لصراخ الطفل الذي استغرق أكثر من صفحة – الرواية ص15)

إن المسوغ لهذه الرؤية الواصفة الدقيقة هو ما يعبر عنه في أدبيات فن الحكي بالزمن النفسي، وهو زمن داخلي لا تتحكم فيه شروط موضوعية تقيس وحدات الزمن قياسا تقطيعيا محايدا. إنه زمن متواطئ وذاتي خاضع لشروط سيكيولوجية تمدّ في عمره أو تقصره، تبعا لطبيعة المواقف التي يمر منها الفاعل (l’actant) . وفي سياق (سماء صالحة للرقص) يكون الانتظار هو الشرط السيكولوجي المهيمن والمضخّم للوهلة، والمقزّم للتاريخ، في الآن نفسه.

تخيم العزلة على فضاء الانتظار تخييما كاسحا (الساعة الآن تمام العزلة ... الرواية ص 16) بل تتحول هي ذاتها إلى حالات انتظار فائضة تملك أعناق الزمان لتؤكد أخيرا قرارها بالصمت المتواصل القاضي بتوقف الزمن واشتغال الانثيال السيكولوجي لهذا الزمن فقط.

+ المكان الموسوم بالبداهة:

يتعلق الأمر بمكان خاص جدّا هو القطار، لأنه كأي قطار نكرة لا يحمل في ذاته إدهاشا وصفيا ولا يخرج عن وظيفته الاجتماعية. لكنه في سياق (سماء صالحة للرقص) يتحول إلى مكان \ بؤرة. وعملية التبئير هذه، تتأتّاه من احتضانه للقوى الفاعلة الرئيسة في هذا المحكي، ويتعلق الأمر بشخصيتي (علي وإيلينيا) أو بالأصح، يتعلق بفضاءين مختلفين (دمشق وجنوة، سوريا وإيطاليا، الشرق والغرب) حيث تمّ اللقاء \ البداية التي ستتناسل عنها أشكال عديدة من السرد وأشكال مختلفة من الرؤية والرؤيا معاً.

إننا لا نقصد بمفهوم التبئير اصطلاحه السردي المرتبط برؤية السارد، وإنما قصدنا (مَرْكَزَة) المكان و(تَنْوِيته أي جعله نواةً) باعتباره نواة خلق لكثير من أشكال التفاعلات المتفرعة في غضون الرواية. فلولا حضور مكون القطار الجامع بين علي وإيلينيا، لما كان لهذا الانثيال القصصي بفضاءاته المتعددة من قيمة، أو من وجود أصلا . (تجلس بقربك فتاة عشرينية تحمل حقيبة صغيرة تخرج منها كتابا أبيض لا تتبين عنوانه تماما رغم فضولك في المحاولة – الرواية ص 19)

+ مكان الانتماء وتشظي الهوية:

يستحضر السارد عبر آلية تعدد الأصوات شجرة الصنوبر، حيث تشتغل الذاكرة بمكر واخز ووخزٍ ماكر، تتحكّم في رقص الأمكنة بين حاضر ينفتح فيه المكان على المجهول (إيطاليا) وماضٍ ينغرس في الذات انغراس شجرة الصنوبر (سوريا)، وهي الشجرة الموصوفة بالعجوز لا قدحا ولا مدحا، وإنما تكريسا لسلطة المكان وتجذره وانغراسه اللامشروط: (تلك الملامح المسكوبة في قالب الجمال تعبث بحساسين رأسك النائمة على جذع صنوبرة عجوز، كنتَ تربيها في الذاكرة فتمادت وراحت تتمدد في كل أركان الرأس وصارت محجاً للعصافير البرية وطيور الغربة البلا وطنٍ محدد – الرواية ص 26)

لا تحيل مفردة الصنوبرة على حب الوطن وتمجيده والحنين إليه عندما تستبد الغربة بتلابيب الذات، فهذا يدخل في العادة والمعنى المطروح في الطريق طرحا جاحظياً ... لكنها هنا مفردة تدخل في نسغ رؤية سردية تفجّر العديد من الأسئلة الوجودية التي يطرحها المعيش اليومي في الهناك باستمرار، من خلال وضع الرغبة في قفص المساءلة الجدلية الدائمة، في غير إجابات، بل في شكل تهويمات تتمادى وتتمدد في وجود هذا الكائن المغترب حتى لا ينسى طبيعة الرحلة التي يمارسها في تفاصيل هذه الذات الملغزة، الموسومة بالرغبة الوجودية في الخروج من الحلقات المفرغة ومفترقات الطرق المتشعبة وغير المنتهية .

هذا التشعب الممكن في رصد طبيعة المكان يأتي جوابه في الحين بعد انسياب الذاكرة مباشرة، وانسحابها في الآن ذاته، إذ يلوح للقارئ ذلك المكان الواقع الحتمي والمرغوب في غير إرادة، والمطلوب في غير اختيار، تنتقل فيه الرؤية السردية من سديم التذكر إلى قسوة الحاضر الممتد في الذات والبادئ بتشكيل مسلسل الدراما الراقصة التي تبدأ الآن، ومن هذه الطريق (طريق طويل يمتد أمام ناظريك من الباب الزجاجي البسيط في زاوية الطريق إلى ما لا نهاية في مدى البصر وكأنها موصولة باللانهائي الأبدي، لكنك ستسعى للمشي فيها بحثاً عن لا شيء آخر تضيفه إلى قوائم اللاشيء الكثيرة في خزانتك الفارغة إلا من حطب الذكريات ونحاس الوقت وماذا سيحمل الغريب معه سوى ذكريات لا تُرى ومصابيح لا تضيء في العتم، من أجل بقاء الأرض على حالها دون المساس بكينونتها المنحازة لنفسها – الرواية، ص 26) ... هكذا تنرسم ملامح القسوة في صيغ تعبيرية تتجاوز دغدغة عواطف المتلقي بحثا عن التعاطف، إلى صيغ أكثر وخزاً تُسائل في مكر وجودي لا يني يؤكد احتراق الماضي (حطب الذكريات) كما لا يني يؤكد حيادية الحاضر ولا مبالاته (الكينونة المنحازة) .

من هنا، تبدأ رحلة الهوية، أو بتعبير أكثر صداميةً، رحلة اكتشاف الهوية . إن الأمكنة، سواء ما تعلق منها بانثيال الذاكرة حيث مقولة الانتماء، أو ما تعلق منها بالحاضر حيث مقولة الاغتراب، لا تتوقف عن مساءلة الذات في حميميتها (الهُوياتية) وتركيم كل أشكال الإدانة الصامتة على عاتقها في قسوةٍ واخزة (... من أنت لتبحث عن أثرك في هذه المدينة، ولست سوى عابر سبيل لا أكثر ولا أقل وإن بدوت للحظة من أهلها؟ من تكون لتحمل الجدران صورتك أو ملامح وجهك الشرقي؟ ... – الرواية، ص 27) ... إنه الوجه الشرقي اللاصق في وجه الذات الساردة مثل قدرٍ والراصد لحركيتها الباحثة عن المعنى في الأمكنة التي خلقت لذاتها كل المعنى ورسمت لوجهها خارطة وجه لا يأبه بالوجوه الأخرى ولا يكترث (تنتهز فرصة وجود المقهى على الرصيف العميق في الداخل والناس في شغل عنك كلٌّ لاهٍ في طقسه من دون وجهك الحنطي اللون، عبوس الشكل، خفيف الطلوع، كضوء فقد العزيمة – الرواية، ص 27). هذا الضوء الخافت الموسوم بالغياب، يتحول إلى ظلال في مفهومها الباهت والذي يشي بالغياب المرير لذاتٍ تقترب من الشبحية (تجلس على مقعد منزو ٍ كأنك تبحث عن ظل لا ظلّ له يبعث فيك الطمأنينة ويحدثك أن هناك على هذه الأرض من هو أسوأ منك حظا وأكثر تعثّرا بالطريق التي بلا طريق ... – الرواية، ص 27) ...

وهنا، وتحديداً هنا، يرقى التعبير السردي إلى قمّة الوخز حيث يسلخ الذاتَ حتى عن إمكان الظلّ في رسمٍ سيميائيٍّ قاسٍ ينفي عنها قدرتها على تشكيل الظلال التي تفيد فيما تفيد وجود الجسد. إن الجسد العربي هنا مخصوصاً في الجسد السوري، مخصوصاً أكثر في جسد المحكي عنه، هو جسد بلا ظل، بلا هوية، لأنه ترك ظله في الهناك الشرقي حيث الصنوبرة سامقة وظلها، وحيث الإحالةُ عميقة على أن الظل هو الانتماء، وأن بداية الجسد تكون بوجود الظل. والهوية لا تتحدد في جزئيات الكائن جسداً مفصولاً عن مكون من مكوناته مهما صغُر حجمه أو ضؤُل، مثل سياق الظل الذي يصبح تفصيلاً يسكن فيه شيطان مركزي. إن اختزال الكائن في بعضه داخل فضاءات الاغتراب هو اختزال يفضح درجة المرض الإنساني الذي يعاني منه المغترِب، وهو يتعرض في جوهره لنوع من التشويه والإغتصاب يوصله إلى أزمة حقيقية مع ذاته ومع الآخر ... وهذا ما يجعله متشظيا مضطربا، مريضاً إنسانياً (و الشخص المغترب، كما حاولنا أن نصفه في هذا الفصل، لا يمكن أن يكون صحيحاً، ومادام يخبر نفسه بوصفه شيئا ... فإنه يفتقر إلى الإحساس بالذات، وهذا الافتقار إلى الذات يخلق قلقا عظيما) *4

يتبدى هذا التشيؤ قاهرا في لهجة السارد وهو يصف في إدانة واضحة وجودَه المتشيئ (فأنت لم تكن سوى حدث طارئ، لا معنى له ولا تفسير لدى البعض، غير أنك شيء مرّ من هنا، ولا يستدعي أكثر من لحظة المرور فاذا توارى نُسي تماماً كقوس قزح أو كغيمة بلا معنى تحتل مساحة صغيرة في السماء بلونها الرمادي المختلف قليلا أو كثيرا عن قميص السماء الأزرق – الرواية، ص 29)

لكن الذات الساردة تسعى دائما إلى ردم المسافات التي يصنعها هذا التشيؤ وهذا الانقهار، عبر ممارسة لعبة الذاكرة المستحضرة للجمال. والجمال هنا عنصر تعويض نفسي أكثر منه حلية سردية تملأ الفراغات الوصفية: (ما حال دمشق الضاربة في الروح كشجرة صنوبر، والأقدم من الزمان بزمان وقد مّرت عليها العصور والأزمان والشعوب ولم تزل دمشق دمشق؟ - الرواية، ص 63) وفي هذا السياق نجد الذات مستريحة في شغفٍ برئ لانثيالات الذاكرة وهي تستحضر شريط الجمال والخير والحق، كقيم قابعة في الأرض، وفي الإحساس العارم بالانتماء: المسجد الأموي، القلعة العظيمة، الـبيمارستان، المدارس، المدرسة العزيزية، رفات صلاح الدين الأيوبي، قصر العظم، سوق الحميدية، قوس التترابيل، كنيسة المريمية، الباب الشرقي، متحف الخط العربي، سوق المهن اليدوية، الحمامات الشعبية، سور دمشق، أبراج دمشق، بيت السباعي، كنيسة الزيتون، مسرح دمشق، دار الأوبرا، ضريح السيدة زينب، المكتبة الظاهرية، مقبرة الدحداح، نصب الجندي المجهول، ساحة الأمويين ...

إن هذا الإفراط في الحنين مردّه إلى إفراط المكان الجديد في جلد الذات بقيمه المكانية والحضارية المغايرة في غير توقف، وفي غير هوادة. والأمر يزداد حدّة عندما تجد الذات الساردة نفسها في مأزق اجتماعي معيّن. من هنا اشتغال الذاكرة عبر هذا العنف المضاد لعنف رمزي آخر أكثر قوّة لما يمتلكه من حضور حضاري متسيّد، ظاهراً متسلّطاً متسيّبا كان أو خفيّاً متستراً بمظهر السكون والاستكانة الخادعة.

+ المكان العدم:

قال السارد: (وحملت روحك ومضيت لا تدري إلى أين؟ ولماذا؟ أو كيف؟ - الرواية، ص 32) ... يصوغ السارد ذاته صوغا وجوديا يتماشى سيميائيا مع هذا الانثيال الروحي القاضي بطرح الأسئلة والتنكر للأجوبة، لأن الأجوبة تقتل الأفق وتسد مداه. ولأن الأجوبة ترسم الطريق وبالتالي تحدّ من حرية التيه، أو على الأقل تتعارض مع طبيعة التيه الفارضة سياقَ العبث والعدم والخواء. وإذا كانت كل الطرق تؤدي إلى روما كما قالوا، فإن الطريق هنا لا تؤدّي إلا إلى رغبة هذا الكائن المتدثر في عباءة السارد، والموسوم بالقهر الوجودي الممتلئ، وهي الرغبة البانية لنسق السرد بناءً واعياً باللحظة وبالزمن في غير تسجيل وفي غير نسخ وفي غير تماثل. الرغبة تؤسس لفعل المساءلة الفاتكة بمشروع البداهة الرامية إلى تنميط الكائن داخل دوائر الإنسانية المستهلِكة لفعل الحياة. الرغبة هنا مشروعٌ منفتح على اللاإنسان، وعلى اللّاظل، وعلى اللاأحد، وبالتخريج النهائي، على اللاجسد . في هذا الخواء يكمن المعنى، إذ العمار موصوف بالنهاية، أما الفراغ الذي نفضلّه على إطلاقية العدم، فموصوف بالإمكان المفتوح على كل الدهشات والصدمات والمفاجآت بمعناها المباغت لا بمعناها الحالم والسعيد ... (لا طريق يؤدي إلى رغبتك ولا جهة تعرف جهتك كأنك تمضي إلى لا أحد ولا مكان ولا ظل ّ، وما هي الا محاولة فاشلة كسابقاتها للحصول على وقت إضافي آخر كي تستعد للمعركة التي في خيالك ورأسك المشرع لألف خيال وهاجس – الرواية، ص 32) .

يبني السارد المكان ويبنيه المكان في جدل قاسٍ جدّاً، وقاهر، وفي نفس الآن هو جدلٌ محاصر بسياق الرغبة الدائمة في الحضور وفي البناء وفي التميّز اللاإرادي المكره لا البطل... (وأنت تحاول، تحاول ماذا؟ أن تبحث عن أرض محايدة تقيم عليها عاصمتك المزعومة في خيالك وبناء جيش من العزيمة والرغبة لصعود السلم الطويل نحو أمانيك وانتصاراتك – الرواية، ص 32) هذه الأرض المحايدة لا وجود لها كمكان إلا في ذهن السارد، لأنه يعقل المكان داخل المكان، ويعقل البديل داخل المعطى، ويعقل الممكن، أي ذلك الشرق المُعدّل، داخل الكائن، أي ذلك الغرب المدهش والقائم على مستوى الحضور الثقافي كما على مستوى الحضور الإقناعي في جدلٍ أكبر هو جدل الحضارات .

في هذا الجدل المكاني أو هذه الأمكنة الجدلية لا يمارس السارد فعل الصدمة بين الشرق والغرب، كما هو الشأن في (موسم الهجرة إلى الشمال، للطيب صالح) ولا فعل التواطؤ بينهما، كما هو الشأن في (قنديل أم هاشم، ليحيى حقي) ولا فعل التوازي بينهما، كما هو الشأن في (عصفور من الشرق، لتوفيق الحكيم) ولا فعل الاكتشاف كما هو نسق (نيويورك 80، ليوسف ادريس) ... وإنما يمارس فعل تكريس ٍ لمقول الاختلاف كمفهومٍ حضاري قائمٍ على التمايز القاسي السائر بالذات الواصفة إلى قدر التعارض المستحيل بين خصوصيتين متباعدتين كل التباعد: بين الشجرة \ الشرق، والجدار \ الغرب، في سردٍ نسقي مولِّد لحالات مفارقة في الوعي بالذات وبالموضوع معاً ... (لا وجه للشبه بين الجدار والشجرة، فذاك لا يحتاج لشيء على الاطلاق وقد اكتفى بجموده ووقوفه لغاية في نفس الذي بناه، وتلك تحتاج الهواء والماء والشمس لتواصل انطلاقها نحو ذاتها التي تجهل – الرواية، ص 33) ... وهي الحالاتُ التي تؤدي بالذات الساردة إلى سلوك نوعٍ من المراقبة لتفاصيل الحياتين معاً في عبث يهدر الوقت وفي لاجدوى .

+مكان الهوية والبرزخ:

في (سماء صالحة للرقص) لا تتقدّم إلينا الهوية كمفهوم زئبقي هيولاني عائم، بقدر ما يحرص السارد، على تقديمها كمعطى إجرائي، يتموضع في المفترق الحركي لعلاقة الفرد بالمكان، بشكل عام، ولعلاقة (علي) كقوة روائية فاعلة بالفضاء الموسوم بالتشظي، بين مكانين، واحد يشدّ ذاكرته إلى الأصل، والثاني يدعوه إلى القطع مع هذه الذاكرة، وهي الازدواجية التي ولّدت في الذات تشظياً آخر، عنوانه الكبير الإحساس العارم بالصراع الداخلي الشديد التوتّر في غير هوادة . وقد عبر عنه المقطع السردي التالي خير تعبير (فقررتَ بكامل الغباء أن تبتعد عن الصراع المحتشد في الأركان كي يتفرع الصراع دون قصد منك فيصير صراعين لا يرحمان، صراعك مع الآخر الوهمي الذي غاب عن بصرك وما زال في عقلك يثير عاصفات من الجنون والبؤس والتنديد والتهديد، وصراعك مع ذاتك التي ترى حيناً سوء ما قمت به وحيناً صوابه كأنك نهر يتفرع في كل الاتجاهات حتى يفقد مجراه ويتيه عن مصبّه بكامل الارادة والرغبة ... من دعاك للهرب ... – الرواية ص 46)

و يتعلق الأمر أساسا بسردٍ روائي يحاول القفز على الذوات المتقابلة إلى مساءلة المقولات الأشدّ تقابلا، وأقصد بذلك: المساءلة بين الثقافة والذاكرة، وهما في عمق النظر، عالمان لتشكيل الهوية، الأولى مكتسبة عنوانها أرضٌ وتاريخ ووطن ( من سلخك عن أرضك؟ ... الرواية، ص 47) ... والثانية مُشَيّدةٌ، تبدأ أبجديتها انطلاقا من صناعة قرار الهروب والدخول في (الآخر) دخولاً اختياريا يستتبع شروطه الخاصّة التي تملي على الذات وجوداً هوياتياً جديداً جديراً بالتمزق الغامض الذي لا يبين فيه صاحبُه وضعَه وموقعه وقراره بالمضي أم بالنكوص (وأنت حالة من الصراع بين الوقوف والركض، إن وقفت ستصدمك الأشياء، جميع الأشياء الراكضة باتجاه المجهول وغير منتبهة لشيء فهي أيضاً أخبروها أن لا تقف، لا تتأمل، لا تفكر، لا تتأنى، لا تنتظر فركضت ... - الرواية، ص 48) . ورغم الإقبال المكثّف الذي تبديه الذات لهذا المكان الموسوم بالآخَرِية، إلا أنه يبقى مكانا مُعاديا بتعبير باختين، وضيّقاً رغم سعته الجغرافية، ورغم رحابته وامتيازاته التي يقدّمها .

في الانسلاخ عن الأرض \ الهوية، تتولد حالة من اللاموقف، هي حالة البرزخ التي لا نتبيّن حقيقتها، أهي عذوبة ماء النهر أم هي ملوحة إرهاصات المحيط ... وقد عبّر السارد بذكاء نوعي عن هذه الحالة بلاموقف الركض . وهو تعبير سردي يتجاوز فعله الحسي المرتبط بحركة الإنسان العادية (من العدْوِ) إلى التعبير الروائي الدرامي عن قدر غامض يلفّ حياة القوة الفاعلة المدعوة (علي) . والركض كأي فعل حركي له مسار وله بداية وله نهاية، لكنه في حالة (علي) هو ركض في اتجاه المجهول، في ارتباط بحالة أخرى أكثر صدامية هي حالة اللاوعي . من هنا، أصالة التعبير الفني الروائي وهو يرصد حركية الإنسان في لافيزياء المعقول، حيث تتحول الهوية إلى كائن يركض في مسار مجهول ببداية مُهرَّبَة إلى نهايةٍ مجهولة، وأكثر غموضاً، رغم معالمها الحاضرة انطلاقا من تمثلات الغير لها وإرسالها شفراتٍ إلى الذات عبر السماع القابع في تجارب الهاربين السابقين، وبمعنى أكثر انسجاماً: في تجارب الراكضين السابقين .

تتبدى الهوية أكثر تشظيا وفي قمّة التصوير السردي الواصف لعبثية الهرب وعبثية الركض في المقطع السردي التالي: (وأنت تتشظى في كل الأرجاء تبحث عن بقايا من بقاياك كي تجمعها وتعيد بناءها لعلك تتبيّن ملامحها التي تحدّق في المرآة فلا ترى سوى ظلال لا تشي بملامحها – الرواية، ص 47) وهنا يتجلى فعل الأرض قويا في قدرتها على التجميع لبقايا الذات الساردة والهاربة والراكضة، وهو تجميع لأشلاء قابلة للبناء من جديد لأنها هي الأصول التي تحمل جينات الهوية ولا يمكن التملص منها أو نكرانها أو التخلي عنها . وقد عبّر السارد عن هذه الأصول المتجذرة بلفظة (ملامح)، وهي مفردة عربية تدل على العلامات الحقيقية أكثر من دلالتها على الظلال . نقول: ملامح الوجه أي علاماته المميزة، سواء تعلق الأمر بخاصيات الوجه الطبيعية أم بالحالات العرضية كملامح الغضب أو ملامح السرور وغيرهما ... ورغم حديث السارد عن الظلالِ المتكرر إلا أنه أوردها في سياق المرآة وليس في سياق الواقع . وهو السياق الجديد الذي أربك هوية الذات وجرّها إلى المساءلة الدائمة والمقهورة في اتصالها بالآخر .

تحضر المرآة في تيمة الهوية لا كانعكاس للذات المغتربة، في تشظيها بين المكان الأصل والمكان العابر، وإنما كأداة للمساءلة كلما التقى الوجه العربي الشرقي مع صفحة هذه المرآة لا في سياق الأرض، أي الهوية الجاهزة والتابثة، وإنما في سياق الغربة، أي الهوية المتحولة والمشيّدة . وهو السياق الكفيل بتحويل السارد إلى كثافة وجودية تستطعم السؤال وتستلذ المساءلة عن طبيعة هذه الهوية الهاربة الراكضة في اتجاه النهاية . وما النهاية إلا هذا الضياع المربك لأحلام الذات وطموحاتها (يا له من ضياع هذا الذي نبحث عنه، ويا لها من معادلة مربكة ومثيرة للسخرية والألم، نركض لأننا نسعى للوصول وندرك كامل الإدراك عدم جدوى الركض وقناعتنا مطلقة من عدم وجود نهاية للأمر، ولا نستطيع الكفّ عن الركض، تلك أحجية أصعب من أن نستطيعها، وأن نفكك طلاسمها ورموزها كي تتكشف لنا، كأننا نهذي ونذوي في ساحةٍ عرجاء تضيق بنا وتودّ اخبارنا بالكفّ عن النزول بها، حتى الأماكن تضيق ذرعاً بنا وتصاب بالملل والقشعريرة – الرواية، ص 49) ... هكذا تتكلم الأماكن، وتحس، وتضيق بالإنسان، وتُصاب بالملل، كما أنها أماكن موصوفة بالعرج، خروجا بالمعنى إلى اللامعنى كي يصيبَ الساردُ كنْهَ المدركات التي تنبطح أمام القارئ انبطاحا طواعيا لغوايته خارج السرد، في لعبةٍ سردية ماكرةٍ تستبطنُ الغواية داخل السرد، في أفق روائي تجريبي جديد ومطلوب، وهي الغوايةُ القمينة بتأويل المكان داخل شرط الإبداع بعيداً عن كل محدد فيزيائي يقتل المعنى واللامعنى .

هكذا، فالمكان \ الهوية هو في أصله فضاءٌ لتمدد البرزخ بقوة، إذ هو بالتحديد من يرافق السارد في تهويماته الوجودية المبطّنة بالسؤال الواخز، ويجعله فريسة دائمة للتنغيص النازح من الذاكرة المعذِّبة في تقريعٍ أوخزَ من شتيمة (اركض دون انتظار أو نظر، لا تفكر لا تقرر، لا تتأمل أو تتخيّل، ولا تحفل بشيء سوى الركض، إن الركض رسول النجاة اليوم، وعرّاب الروح الأخير – الرواية، ص 54)

+ السماءُ الممكنة:

يرتبط المكان \ السماء بإمكان تجاوز لحظات الانقهار والاغتراب والإحساس بوخز الذاكرة في رؤية سردية تروم تحقيق نوع من التصالح بين السارد وبين رؤيته للعالم، وبين السارد وبين واقعه المشحون بكثير من أسئلة الرفض، أو على الأقل، بكثير من أسئلة الموقف الذي قد يتجاوز عتبات السلوك إلى دوائر من التأمل في الكيان الخاص وفي الكيانات الأخرى .

و تأتي لحظة الحب إكليلاً لهذا التيه، وتتويجا لهذا الضياع الفردي الخاص ب (علي) المتشظي والذي يكاد يطرق أبواب العبثية لولا حضور السماء في شخص هذا الحب الذي اندلع بينه وبين (إيلينيا) . إن الإمكان الذي يتناوله السارد هنا هو إمكان فلسفي يروم تحويل الجغرافيا المقيتة إلى عوالم سديمية جذْلى تستطلع الآفاق كي تشرب الروح منها بعضا من مشاربها المنقذة . ولا أدلّ على ذلك من حضور سيمياء المفردات المجاورة للمكان \ السماء، من قبيل (الظلال، الأغنية، القفز، الطيران ... أنتَ تحبّها) وهي مفردات مناقضة تمام المناقضة لمعجم التيه والضياع والتشرذم المسبوقة في بدايات النزوح من الشرق إلى الغرب .

إن السماء هنا صالحة لرقصة الروحين المتجاذبتين رغم التباعد الجغرافي والثقافي والحضاري الموسوم بالجدارية . لكنه رقص ممكن في سيمياء الوجود الكوني والقناعة بهذا الوجود في غير شعارية أو تطبيلٍ خاوٍ تنتهي صلاحياته بانتهاء مهرجانات تفعيله . المهرجان هنا سماوي الركح، سديمي القوى، زئبقي المتن، عجائبي العرس، هيولاني الجمهور، ومعنويٌّ بشدّة ... يقوم هذا المهرجانُ على فعل التأمل، ويولّد لدى السارد مجموعة من القناعات الحياتية التي من شأنها أن تغير رؤيته للعالم . (لِمَ لا نكون بكامل صدقنا كما ندّعي في مشاعرنا وأحاسيسنا لِمَ نحن مضطرون لأن نكذب أو نخبئ مشاعرنا في داخلنا كالأسرار، أو كأنها جرائم ارتكبناها في لحظة سكر وعربدة ولمّا صحونا خجلنا منها؟ ِلم لا نكون نحن كما نحن من دون أقنعٍة ونظارات سميكة تخفي ملامحنا؟ - الرواية، ص 88) ...

تتجلى حتمية السماء الممكنة في ارتباط المكان بالبرنامج السردي في رواية (سماء صالحة للرقص) وهو برنامج تكسّرُ خطّيتَهُ رغبة السارد في مفهومها الفلسفي المرتبط بأنطولوجيا بالتجاوز: تجاوز لحظة الشرق ابتداء من التفكير في هجرة الشام، وتجاوز لحظة الغرب ابتداء من التفكير في العودة إلى الشام، مما يسمح بالقول إن التشظي هو حالة الأرجوحة الوجودية التي تمتد بين أربعة أقانيم: الروح والجسد والعقل والقلب . وفي كل أقنوم نسجل تمكن هوية من الهويات، هوية الأرض مع الروح، هوية الغرب مع الجسد، هوية المساءلة مع العقل، وأخيرا هوية الحب مع القلب . مما يتناسل عنه تشابك غريب في شخصية السارد وهو يتتبع أطواره طورا بطور في تشكّلٍ عارٍ من كل شيء وفي شفافية ثقافية هي وليدة انصهار الشرق مع الغرب في قناعات السارد .

تتجلى هذه الحتمية في انسلاخ المكان عن قدر الالتصاق الترابي، ومحاولة التعالي الروحي المجسد أولاً في تضحية (علي) بشبابه وهو يرتبط بفتاة غربية المنزع، كسيحة الجسد، فاقدة لكل ما من شأنه أن يكون أداة إغراء وغواية بعد الحادثة ... ويتبدى ثانيا في حضور المكان \ الجنّة: (تصلون الى المكان المنشود، ويا له من مكان مطلّ البحر في ركن تستطيع بكل ثقة أن تطلق عليه اسم الجنة، في تلك البلدة الجنوبية من سويسرا فوق سطح البحر، والتي تحيطها جبال الألب فتضفي عليها جمالا طبيعيا ساحراً يمكن وصفه – الرواية، ص 138) والأمر هنا يتعلق بسويسرا، التي تحضر في سياق هذا البرنامج السردي مكسّرةً لرتابة الحكي الراغب في النهايات السعيدة بين شاب شرقي وفتاة من الغرب، وبالتالي تتحول سويسرا من فضاء جغرافي إلى فضاء سديمي يرتبط بالخلاص، وينسجم مع طبيعة شخصية (علي) المتأملة، ومع طبيعة العلاقة بينه وبين (إيلينيا) ومع طبيعة الدراما السردية التي شاء لها المؤلف هذا الاتجاه السردي، الغائص في التجربة الإنسانية المحترقة، سواء تعلق الأمر بتجربة (علي) في محنته الوجودية بين الشرق والغرب، أو تعلق الأمر ب(إيلينيا) في محنتها المرضية والتي لم ينفع معها علاج، ونفع معها الارتقاء إلى الجنة عبر مكان أرضي هو سويرا، المكان الواهب للحظة الخلاص .

الختم:

كيف يتوحد السرد مع الأنطولوجيا؟ سؤال يستسيغ ذاته في قراءة رواية (سماء صالحة للرقص) التي ابتعد بها صاحبها عن أي تشكيل روائي يروم الحكي خارج واقعيةٍ لا تبغي تسجيلا، وإنما تبغي تخييلا قائما على ذكاء الشعرية الروائية القائمة بامتياز على استثمار كل الممكنات الجمالية في هذا النوع الأدبي الموسوم بالبحث الدائم عن شكله المثالي . وفي هذه الرواية يضعنا صاحبها أمام قضايا متعددة، ومختلفة، وإشكالية، وغنية بالتوترات التي لا تدع للقارئ فرصة الاستكانة والاسترخاء، بل تظل تمارس عليه الوخز تلو الوخز عبر منطق السؤال الوجودي الراغب في السؤال الذي يتناسل عنه السؤال إلى ما لا نهاية . فلا ندري هل نجيب عن سؤال الغربة والاغتراب، عن الهوية والانتماء، عن الشرق والغرب، والجدل الحضاري بينهما، عن الأصول التي لا تمّحي، عن محنة الرحيل والخروج، عن سلطة الذاكرة، عن الحنين، عن الحب والعشق، عن التضحية، عن الشهامة، عن الحياة والموت، عن الجنة والجحيم ...؟ ... وأقول ختماً لبدايات أخرى: لا يسعنا إلا أن نقرأ (سماء صالحة للرقص) قراءة واعية بلحظة خلقها كي نظفر ببعض الجواب، أما بقية الأجوبة فتظل قابعةً فينا وفي ذواتنا الصغيرة أمام جماليات الحكي العربي المشخص امتيازا في هذا العمل الروائي الكبير لمبدعنا الكبير (ناصر قواسمي) .

بقلم: نورالدين حنيف

..................

1 - لوسيان كولدمان، الإله الخفي، الهيئة العامة السورية للكتاب، ترجمة د . زبيدة القاضي، ط 2010، ص 101

2 - R.Bourneuf, « L’organisation de l’espace dans le roman », in Études littéraires/Avril, 1970, Université Laval, p78

3 - غاستون باشلار، جمالية المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1984، بيروت ص 53.

4 - إيريك فروم، المجتمع السويّ، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، الطبعة الأولى، 2009، ص 322 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم