صحيفة المثقف

غانم المحبوبي: العراق والطريق الى التحضر (1): استرجاع الهوية الرافدينية

غانم المحبوبييتفق المؤرخون على عدم الوضوح في اصل سكان العراق ماقبل التاريخ، ولكن ما هو معروف ان هناك اقلية من الاعراب مَن سكنَ ارض الرافدين مع غيرهم الكثيرين كالسومريين والبابليين والاشوريين والكلدانيين والمندائيين (الصابئة) والهِتيت بالاضافة الى الفرس والرومان. اما من ناحية اللغة فان اول لغة مكتوبة عرفها الانسان هي لغة العراقيين السومريين وذلك باكثر من ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد. كذلك شهد العراق القديم تزاوج رائع بين لغة الاعراب المستوطنين ولغات التحضر الانساني عبر التاريخ، المحلية منها بدءا بالسومرية والارامية والاجنبية كالفارسية والاغريقية والرومانية. اعتاد الجميع، العرب او غيرهم ان يسمي العراق بمهد الحضارات الانسانية وخصوصا ما قبل التاريخ. ولكن كم هم اللذين يعرفون وان عرفوا يُصَدقون بان العراق هو مهدُ العروبة بكلا المَعْنَين; الانثروبولوجي كامةٍ مُمَيَزةٍ والمعنوي كثقافةٍ مجتمعية؟ وكم هم اللذين يعرفون ان ارض السواد هي منبع المجد العربي الاسلامي؟ هذا ما سنبينه في هذا الجزء، عسى ان نوضح ما للهوية الرافدينية من اهمية اساسية في اقامة حضارات وادي الرافدين. ولكن، وقبل الدخول في التفاصيل يجب ان نوضح للقاريء ان ولادة الامة العربية والعروبة في ارض الرافدين لا يعني ان جميع ارض السواد هي عربية وان جميع مَن سكنوا فيها هم من العرب بل ربما على العكس ان العرب هم اخر الاقوام اللذين انتشروا في هذه الارض واكتسبوا الهوية الرافدينية التي سبقتهم بالاف السنين. ونتيجة لما كان يتصف به العراق من امان ورخاء في المياه والارض الخصبة وما تنتجه من وفرة الغذاء للانسان والحيوان اصبح العراق قبلة للمهاجرين وبالاخص اعراب الصحراء. اقول "اعراب" اي البدو الرُحَل حيث لم تكن  كلمة "العرب" متداولة في ذلك الوقت وهنا بيت القصيد كما سنرى. بالاضافة الى الاعراب اللذين احتفظوا بطريقة حياتهم في الرعي والترَحلْ في الصحراء الجنوبية والغربية من العراق، هناك مَن استقر قرب ضفاف الانهار بشكل دائم حيث يجدون ما يحتاجونه للعيش لهم ولماشيتهم على مدار السنة بدون الحاجة الى الترحال(١)، ومنهم على سبيل المثال بنو شيبان في ارض السماوة جنوب العراق. ومع مرور الزمن ظهرت اجيال جديدة من الاعراب وقد تغلغلوا في اعماق وادي الرافدين واكتسبوا ثقافة العراقيين نتيجة للاختلاط والتعايش والتزاوج حتى اصبحوا عراقيو الهوية ومنهم نبي الله ابراهيم (ع) وعائلته كزوجته سارا واولاده الانبياء اسماعيل واسحاق (ع). ومن غرائب التاريخ التي تؤكد امجاد العراقيين هي ان اعراب العراق وبعكس من بقوا في شبه الجزيرة العربية هم بالذات من اقاموا عدة امارات عربية متحضرة قبل الاسلام كامارة ميسان شرق دجلة والتي استمرت حتى سنة ٢٢٢م وامارة الحضر جنوب الموصل من سنة ٧٠م الى ٢٤١م ثم اخرها واعظمها حجما وشانا امارة المناذرة في الحيرة وسط العراق قرب الكوفة حيث تاسست سنة ٣٥٠م واستمرت حتى سنة ٥٥٠م قبيلَ ظهور الاسلام(٢،٣). 

تاسست امارة الحيرة من قبل ملكها عمرو بن عدي اللَخمي وبمباركة الامبراطورية الفارسية لحماية مدن ما بين النهرين من غزوات اعراب الصحراء المجاورة. ونتيجة لسيطرة ملك الحيرة على جميع قبائل الاعراب في العراق والشام والحجاز واليمن والبحرين وباقي الجزيرة تقرر تسمية امارة الحيرة ولاول مرة بالتاريخ "بمملكة العرب"، حيث ضمت تحت لوائها كلَ مَن نطق العربية واستُحْدِثَت كلمة "العرب" لتَحل محل الاعراب في تسمية من تحضر منهم. والصورة ادناه لنقش النمارة في الشام وُجدَ على قبر ملك الحيرة الثاني امرؤ القيس بن عمرو والملقب في هذا النقش "بملك جميع العرب(٢). وبهذا يحدث في ارض العراق ولاول مرة في التاريخ ولادة مفهوم قومي جديد يُسَمى "امةُ العرب" وبهوية جديدة هيَ "العروبة" وبثقافتها الاولى الرافدينية، ليصبح العراق حقا مهدا للعروبة وتسود ثقافة العراق حياة جميع العرب انذاك ولمدة قرنين من الزمن حتى قبيل ظهور الاسلام.

يتضح لنا من هذه الحقائق التاريخية ان عرب العراق وان كان اصلهم من شبه جزيرة العرب لكنهم اكتسبوا الثقافة المجتمعية العراقية واصبحوا قوما متمدنين بل ومتحضرين يسكنون في حواضر مرموقة من المدن، تعلموا فيها القراءة والكتابة والحرف المتعددة بالاضافة الى الزراعة والتجارة. ومع مرور الزمن لم تعد شخصية عرب العراق صحراوية جاهلية بل مدنية "رافدينية" الهوية كبقية السكان الاصليين. لذا يحق لنا القول، عندما كانت الهوية العراقية الرافدينية تتسم بالتحضر والقوة والازدهار كانت تُكتَسَب من قِبل الوافدين الى العراق وتوهَبُ لِمَن او تسود في مَن خضعَ لسلطة العراقيين. وفي جانب اخر، تؤكد الدراسات التاريخية على ان اللغة العربية لم تكن من اللغات المكتوبة منذ نشاتها حتى اقامة مملكة الحيرة سنة ٣٥٠م. بالاضافة الى ذلك كان الاعراب يتكلمون بلهجات مختلفة يصعب عليهم التفاهم الكامل فيما بينهم وخصوصا لتواجدهم متباعدين على مساحة جغرافية شاسعة وباعداد قليلة نسبيا. من جانب اخر، وكما ذكرنا سابقا، تَعايُشُ عرب العراق مع اقوام متحضرة يتكلمون لغات الثقافة الرصينة في ذلك الوقت اغنى لغة عرب العراق بالكثير وخصوصا من جَراءِ تاثرها المباشر بجارتها اللغة البابلية المكتوبة. ونتيجة لذلك، بدا العراقيون ولاول مرة يكتبون العربية في مملكة الحيرة وانشؤا لذلك مدارس تعليم قراءة وكتابة العربية. ومن روائع ما يذكر في هذا الصدد، ادخل العراقيون المناذرة ما يُسَمى بالف لام (ال) التعريف الى لغتهم فاصبحت مملكة الحيرة العراقية مهدا لولادة ثانية هي ولادة اللغة العربية الفصحى.(٢) وكما اشرنا ان مملكة الحيرة هي مملكة جميع العرب والناطقين بالعربية، فامر ملكها امرؤ القيس اعتبار لغةَ عرب الحيرة لغة المملكة الثقافية وشجع على تعليمها وانتشارها في جميع بقاع العرب ومن ظمنها قريش الحجازية ولمدة قرنين من الزمن. ومن جميل ما حدث في عهد هذا الملك انه دعى جميع شعراء العرب الكبار في ذلك الوقت الى الحيرة وطلب منهم ان يكتبوا قصائدهم في لغة العراق الفصحى حتى يتم نشرها على جدران الكعبة فولدت ولاول مرة "المعلقات"، ليتسنى لجميع العرب قراءتها وفهمها. وعندما استقرت لغة الحيرة الفصحى في جزيرة العرب ما كان للقران الكريم الا وان ينزل في هذه اللغة الفصحى الرصينة(٢). وتاكيدا لهذه الاراء يقول المستشرق كرستوف لوكسمبيرك ان هناك الكثير (٣٠٪) من كلمات القران لها اصل سرياني ارامي، ويؤكد ذلك الدكتور يوسف زيدان ان هذه الكلمات القرانية مكتوبة بشكلها السرياني الارامي ككلمة "الصلوة" اي الصلاة و "الزكوة" اي الزكاة. بالاضافة الى ذلك، هناك كلمات قرانية ليس لها اصول عربية ككلمة "اسْتَبْرَق" الفارسية. ان وجود الاثر اللُغَوي الفارسي والارامي في لغة القران الفصحى يؤكد ان لهذه اللغة جُذور "رافدينية" حضارية لم تعرفها بداوة العرب انذاك. وفي الختام، يذكر لنا المؤرخ الكبير الدكتور جواد علي الطاهر في كتابه(٤) ما يلي: "انني اعتقد ان علم العروض وعلم النحو وعلم الصرف وسائر علوم العربية الاخرى لم تظهر في العراق الا لوجود اسس لهذه العلوم فيه تعود الى ايام ما قبل الاسلام، وهذه الاسس القديمة هي التي صَيَرَت العراق الموطن الاول لهذه العلوم في الاسلام".

رسالتي الى العراقيين، ان مَن ينتمي لعراقيتهِ باخلاص ومَن يَحُزُ بنفسهِ الالم لما الت اليه ظروف العراق الحالية البائسة، عليه ان يعي باننا بحاجة ماسة الى نهضة تنويريةٍ نسترجعُ بها الذاكرة السليمة لمجد هذا البلد وان نتبنى من جديد هويتَنا الوطنية الرافدينية وبدون ازدراء للاخرين. اهل العراق هم امةٌ لوحدها ذات كيان تعددي عريق وهوية رافدينية متميزة لا تحتاج ان تكون جزءا من غيرها من الامم، وارض الرافدين فيها الكثير من المقومات لتصبح دولة قوية ومتحضرة. فكما في وادي الرافدين العرب الاقحاء واحفاد الصحابة النجباء، فيه الاخرون من غير العرب وغير المسلمين ايضا. وكما المسلمون هم اغلبية شعب العراق الحالي فَمَعَنا الكثيرُ ممن يشاركوننا الوطن من غير المسلمين. لقد حُكِمَ العراقُ من قِبَلِ العرب كما حَكَمَ العربُ بلاد فارس واسبانيا واممَ اسيا الوسطى لكن هؤلاء لم يضيعوا هويتَهم الاصلية فلماذا اضعنا هويتنا الرافدينية؟ كذلك، وتاكيدا لما طرحهُ الدكتور طه حسين في كتابه(٥) اقول، للعراقي المسلم كلُ الحق ان يفتخر باعتناقهِ الاسلام دينا قويما للاخلاق والقيم الانسانية والذي جائهُ من الجنوب، كما اعتنقتْ اوروبا الديانة المسيحية والتي ذهبت اليهم من الشرق الاوسط. لكن الاوروبيون احتفضوا بهويتهم الثقافية الاوروبية ولم يتَبَنوا الثقافة الشرق اوسطية. بل على العكس، نراهم يصورون السيد المسيح (ع) رسما او نحتا او افلاما بملامح ارية كشعر اشقر وعيون زرقاء وليست بملامح كنعانية شرق اوسطية. كذلك، اعتنقتْ الكثيرُ من شعوب اسيا الاسلام الذي دخل لهم من غرب اسيا وحُكِموا من قبل امراء وولات عرب لكنهم ايضا لم يضيعوا هويتهم الاسيوية. دخل العربُ الى ارض الرافدين وهم بدون حضارة او حتى تمدنٍ يُذكرْ، فتمدنوا وتحضروا بعدما اصبحوا مع مرور الزمن عراقيين. ثم دخل بعد ذلك المسلمون الى ارض السواد وليس معهم غير السيف ورسالة سماوية نزلت من الله الى الارض ولم يبتكرها العرب المسلمون بانفسهم فاحتضنَ العراقيون الاسلام وبنوا حوله صرحا من المجد بعراقيتهم لا بعروبتهم والا لماذا لم ولن يبني العربُ حضارة تُذكر في حجازهم وباسلامهم؟ ان تجربة احتلال او "فتح" العراق من قبل العرب المسلمين لا تقارن باحتلال او "استعمار" الاوروبيون لشمال امريكا واستراليا وغيرها، لان الاوروبيون نقلوا حضارتهم الى هذه المناطق الخالية من التحضر انذاك لكن العرب المسلمين دخلوا العراقَ وفارسَ ومصرَ ببداوتهم في الوقت الذي كانت هذه المناطق اكثر بقاع الارض تحضرا. فعندما اضاعَ العراقيون هويتهم الرافدينية العتيدة والتي سبقت العرب والاسلام بالاف السنين استهلكوا ما تبقى من تحضرهم عبر الزمن وتاخروا عن الالتحاق بركب العصر حتى باتوا الان بزمنِ ما قبل التحضر. ان استرجاع الهوية الرافدينية الى اهل العراق وشيوع ثورة ثقافية تنويرية مع الاعتماد الذاتي على موارد وقدرات العراق سوف يكفي العراقيين في السير على خطى التحضر لاقامة دولتهم القوية المتحضرة (يتبع في الجزء الثاني).

 

الدكتور غانم المحبوبي

..................

المصادر

١. الدكتور علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ٢٠٠٧/٢٠٠٨، دار الوراق للنشر، لندن

٢. سعيد الغانمي، ينابيع اللغة الاولى، ٢٠٠٩، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث

٣. جعفر الدجيلي، موسوعة النجف الاشرف، الجزء الاول، ١٩٩٣، دار الاضواء، بيروت

٤. الدكتور جواد علي الطاهر، المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، ٢٠٠٦، مكتبة النهضة، بغداد

٥. الدكتور طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، ١٩٣٨.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم