صحيفة المثقف

سليمان عميرات: حِصَارٌ

سليمان ـ عميراتوَرَثَ فِرَاسُ عنْ جَدِهِ، مَسْكنًا صغيرًا وقديمًا، تَشَقّقَت جُدْرَانَهُ بسببِ كثرةِ الهّدمِ والحفرِ والبناءِ، لبناياتِ الجيرانِ من يهودٍ جددٍ، فلمْ يعدْ يَصْلُحُ في البيتِ تقريبًا سوى البابِ الخارجيِّ، من الخشبِ القديمِ، ومفتاحَهُ الكبيرُ الذي صُنِعَ منذ أكثر من قرنٍ، يحتفظُ فراسُ بالمفتاحِ المعلقِ على حزامِهِ، لا يفاقُهُ ولا يتنازلُ عليهِ مهمَا أعطوْهُ بدلاً عن المفتاحِ جدًا كان أو لهوًا، فهو هويّته التي تَبَقَّتْ له من فلسطينَ، أرضُ الأجدادِ والأنبياءِ، كما وَرَثَ فراسُ قطعةَ أرضٍ قريبةٍ من مسكنِهِ الذي جاءَ على حدودِ بيت إكسا والقدسِ، وقد غرسَهُ جدَهُ زيتونًا وتينًا وأحاطه ببعض شجيراتِ بلوطٍ، مُسَيَّجُ من جميعِ النواحي وللبستانِ ذو ثلاث دوانمُ، بابٌ كبيرٌ بمترينِ عرضًا، يضع مفتاحَهُ تحت حجرٍ صغيرٍ.

تركَ الجدُ لفراسِ جارًا يهوديًا حاقدًا على جيرانِهِ، يتمنى موتَهُمْ أو رحيلَهُمِ من القرية التي هجَرَها قومُها بعد انتشارِ المستوطناتِ وعُزلتِها عن القدسِ، لم يرَ الجيرانَ من زئيف اليهودي سوى مضايقاتِهِ المتكررةِ وضررِهِ بالناسِ، فتراهُ تارةً يرمي قاذوراتِه أمامهم وتارةً يهينُ أبناءَهم، ويتهدّدَهم إذا وجدَهم يلعبون بطريقِ الحيِّ الذي يتقاسمَهُ الجيرانُ بالتساوِي.

في يومٍ صيفيٍ اشتدَّتْ حرارتَهُ باكرًا وكثُرَ قَيْظَهُ، لَفتَ انتبَاهَ فراسُ حضورَ جمعٌ من اليهودِ بسياراتِهم عند جارِهِ، فلم يعرهم اهتمامِه ولم يبالِ بما جاؤُوا يفعلونَه هنَا، بهذه القريّة بعيدة عن المدينة، والتي طوّقها الجدارُ من كلِ مكانٍ، ولا يمكن أن يفكرَ اليهودُ في استيطانِها على الأقل في هذه السنواتِ، فالتوسعُ بالقدسِ والضفةِ لم يكتملْ بعدُ والوافدينَ من العالمِ  الخارجِي قلَّ نُزُوحُهم، وسَكَنَ بسبَبِ ضُغُوطاتِ المقاومةِ.

كانَ اليهوديُّ زئيف يخافُ فراسَ حين يغضبُ، ويرى في جسمِهِ القويَّ تهديدًا لعجرفتِهِ وجبروتِهِ، فراسُ طويلَ القامةِ، عريضَ الكتفينِ، مملوء الجسمِ، يلبَسُ جبَّةً رماديةً وسترةً بنفسِ اللونِ، يحملُ دومًا عصاهُ الغليظةُ التي يتكِأُ عليها ويلوحُ بها على الصغارِ، كما يستعملُها عند شجارِهِ مع جيرانِهِ اليهودِ، يهدّدهم بها حين يُبْرِزُ لهم عينيْهِ مهدّدًا، فهو قليلُ الكلامِ، صعبُ المراسِ قويُّ الشكيمةِ، لا يتنازلُ ولا يتساهلُ مع الخطأ والظلمِ في حقِّهِ وكرامة أهل الكَسَاوِنَة.

عندمَا سَمِعَ فراسُ دَقَّ البابِ في تلك العشيّةِ، خرجَ بنفسِهِ لفتحهِ وإذا باليهوديِّ واقفٌ أمامَهُ والمكرُ باديًّا من نظرتِهِ وحركتِهِ قبل إلقاءِ التحيةِ، وزُوَّارَهُ على بابِهِ يُحَدِقُون إلى فراسِ ومُحدِثِهِ، انْتَابَهُ الرّيْبُ مما يَحيكُونَ ويَكيدُون كما كَادوا من قبل لإخوانِهِ بِيَافَا والقُدْسِ والضفةِ الشرقيّةِ.

- مساءُ الخيرِ، سيد فراس، كيف حال جاريّ العزيزِ؟

- مساءُ الخير، لقد دَقَقْتَ على بَابِي، مَا عَسَاك تريدُ مني؟

- هؤلاءِ هم أقاربي من يَافَا، جاؤوا في زيارةٍ سياحةٍ إلى بيت إكسَا، وقد أعجبهم المكانَ، لقُرْبِه من مدينة أورشاليم.

- تَقْصِدُ القدسَ؟ القدسُ الفلسطينيةُ.

بابتسامةٍ صفراءٍ وحركةَ رأسِهِ إلى الأسفلِ، اِلْتَفَتَ اليهوديُّ زئيف إلى أقاربِه، ثم قال في هدوءٍ:

- المهمُ، إنهم يريدون استِئْجارَ بستانِك لشهرٍ أو شهرينِ، وكما تعلمْ منزلِي لا يتسعَ لهم.

- وماذا يفعلون في بستانِي، وكيف يسكنُوه؟

- هذا أمرٌ لا يهمُك حاليًا.

- لا، لا .. بستاني ليس للكراءِ ولا للبيعِ.

- قد نعطيكَ مبلغًا لا تحلمُ به مقابلَ بيْعِهِ، يمكن أن تشتري بستانًا أكبَرَ ومنزلٌ آخرَ أينما تريدُ.

- قلت، إنه ليس للبيع ِوفقط.

استدَارَ فراسُ ودخلَ بيتَهُ، ليسمَعَ خلفَهُ اليهوديَّ زئيف يقولُ في استهزاءٍ واستهتارٍ به:

- سننصُبُ خيّامَنَا عليه وبعدها نتكلَّمُ.

لحظاتٌ من بعدِ، يرى فراسُ من نافذتِهِ نفرًا في بستانِهِ وكأنهم ينصُبُونَ خِيَّامًا، تأكدَ أكثرَ، وتيقّنَ من عزْمِ جارِهِ وأقاربِهِ على استيطان أرضِهِ والتوسُعِ عليها عُنْوَةً، تيقّنَ أنهم لا يَعْقِلون إلا بالقوّةِ ولا يردعَهُم إلا السّلاحَ، وكانت عصَاهُ هي سلاحَهُ الوحيدَ وقوّتِهِ الضّاربة، أخَذَهَا من أمامِ زوجتِهِ وأبناءِهِ وهم ينظرون إليه في دهشةٍ، تَفَطّنَتْ زوجتُهُ إنه سيتشاجَرُ مع اليهودِ، حاولَتْ رَدْعِهِ لكنه أبَى.

خرجَ مسرِعًا، وما إن صَارَ أمامَ البابِ حتى عادَ مدبِرًا، وصَاحَ في ابنِهِ الشابِ ذو الخمسة عشر عامًا، وَضَعَ في يدِهِ مفتاحَ الدارِ وقال له موصِيًّا:

- ولدِي، خُذْ هذا المفتاحَ ولا تفرطَ فيهَ، إذا لم أَعُدْ، اهتمَّ بالدارِ، أمُّك وإخوتُك، هم أمانةٌ بين يديّك.

***

الأديب سليمان عميرات

عنابة في 13.05.2021

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم