صحيفة المثقف

محمود محمد علي: إفريقيا في جحيم دانتي

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن "دانتي" يعد أعظم شاعر إيطالي، اشتُهر بـ"الكوميديا الإلهية"، وهى قصيدة ملحمية تُعد واحدًا من أهم الأعمال الأدبية في العالم، ظلت علامة بارزة في الأدب الإيطالي، وصُنفت من بين أعظم الأعمال الأدبية الأوروبية فى العصور الوسطى، إذ قدمت رؤية مسيحية عميقة لمصير البشرية الأبدي، وقد اعتمدت على تجربة "دانتي" الخاصة فى المنفى من مدينته فلورنسا، وتسرد رحلته الخيالية إلى الإله، وتتكون من ثلاثة أقسام، حيث يزور "الجحيم" و"المطهر" و"الجنة". ويمكن قراءة الملحمة على شكل رمزي، حيث تأخذ شكل رحلة عبر الجحيم والمطهر والجنة، تحلل المشاكل المعاصرة لتُظهر كيفية تحقيق الخلاص.

وإذا نظرنا إلي "جحيم دانتي" فنجد أنه لا يزال معدودًا أكبر قصة ذات حوادث رائعة في الدنيا، ولكن قليلًا من الناس قد قرأه رغم ذلك، ولئن كان كثير من شعره صعب الفهم غير محبَّب إلى القارئ العصري أن يستمر في قراءته، ويشارك "دانتي" في رحلته الطويلة حيث جاس خلال الجحيم، فهو — مع ذلك — خيال رائع التورية والكناية، لا يتخلَّف إذا قيس خياله القوي إلى خيال شكسبير وملتن الذي اشتهرا به في أشعارهما. وظاهر الكوميديا الإلهية وصف للجنة والنار والمطهر، وباطنها تصور حال الأرواح بعد الموت، مورِّيةً بذلك، ومكنِّيةً عن حاجة الإنسان إلى قبس روحاني ومرشد يكون له هاديًا. ولقد رسم لنا «دانتي» جحيمه على صورة هاوية عميقة هائلة تشبه مخروطًا مقلوبًا يلتقي بالأرض في منتصفها، ثم ينقسم في جانبيه عدة أقسام — طبقات بعضها فوق بعض — تضيق سعةً بالطبع كلما هبط الإنسان من درك إلى درك، وكلما ازدادت شناعة الجرم سفل مكان الخاطئ فيها!

وعلى الرغم من صعوبة فصل الخيال عن الواقع لرسم سيرة دانتي، إلا أنه من المؤكد بأن منظوره الفلسفي ومطامحه الشعرية تَشكّلا ضمن سياق نشأته في فلورنسا أواخر القرن الثالث عشر. على سبيل المثال، كان لدانتي دورٌ شاغل في الحياة الثقافية والمدنيّة لفلورنسا: حيث خدم في الجيش، وشغل عدة مناصبَ سياسيّة بين العامين 1285 و1302، فتزوج وكوّن أسرة، ثمّ تذوّق حرارة المنفى من مدينته فلورنسا. وفي هذا السياق، ونأيًا عن يُسرْ حال عائلته، كانت لمساهمة دانتي في السياسة الفلورنسيّة دور رئيسي في نمو فكره الفلسفي وجسامة طموحاته الشعريّة.

وفي دراسة رائعة نشرها المؤرخ المصري المبدع الدكتور حسن عثمان بعنوان " أفريقيا في جحيم دانتي"، حيث أكد في هذه الدراسة أن دانتي كان رجلاً واسع الثقافة متعدد الجوانب، فتأثر بتراث القدماء وبتراث العصور الوسطي، وبآثار الأدب الإيطالي الوليد، وبثقافة الشرق والعرب وأفريقيا . وكتب دانتي "الكوميديا الإلهية" بأقسامها الثلاثة " الجحيم والمطهر والفردوس"، وأشادها علي معرفته وأصالته، واستمدها من الماضي والحاضر والمستقبل، من الذكريات والأماني، من التجارب والمحن والآلام، من العلم والفن، من النبات والحيوان والإنسان، من الآثام والخطايا والعواطف الرقيقة النبيلة، من فرائز الجسد والزهد والتبتل، من اليأس والإيمان والأمل، من الأرض والسماء، من الأنهار والبحار والصحاري والجبال والبلدان والأقطار والقارات.

و"الجحيم" كان الجزء الأول من قصيدته، تبدأ بأن يعتزم «دانتى» ارتقاء جبل أضاءت الشمس قمته، لكن اعترض طريقه 3 وحوش، ترمُز للخطايا التى تُحيِّد البشر عن الطريق الصحيح، فشعر برعب شديد، وقرر العودة، إلا أنه ظهر أمامه شبح شاعر اللاتين «فرجيليو»، عطف عليه وأزال مخاوفه، وذهبا فى اتجاه آخر ليصل إلى أعلى الجبل، وعندما زار الجحيم رأى نفوس الآثمين يلقون صنوف العذاب، وأدرك أصل الشقاء فى الدنيا، ثم زار المطهر وشهد فيه عذاب النفوس التائبة التى تأمل بلوغ الجنة بعد تطهرها، وبعد اجتيازه الجحيم والمطهر صعد إلى الجنة.

وفى "الجحيم" يقول: "فى منتصف طريق حياتنا وجدت نفسى فى غابة مظلمة، إذ ظللت سواء السبيل.. آه ما أصعب وصف هذه الغابة الموحشة الكثيفة القاسية التى تجدد ذكراها لى الخوف.. إنها شديدة المرارة حتى لا يكاد الموت يزيد عنها، ولكن لكى أتناول ما وجدت هناك من خير، سأتكلم عن أشياء أخرى رأيتها فيها"، ويضيف: «هنا الطريق إلى مدينة العذاب، هنا الطريق إلى الألم الأبدى، هنا الطريق إلى القوم الهالكين". فى ملحمته، يتشابه الجحيم والمطهر عند "دانتى"، من حيث موضوعهما، الذى يتطرق إلى عذاب النفوس الآثمة، إلا أنه فى الجحيم وصف عذاب الخُطاة غير التائبين عذابًا أبديًا، أما فى المطهر فعذاب الخاطئين عذاب مؤقت.

واختتم "دانتى" ملحمته بـ"الفردوس" أو "الجنة"، وفيها، يجيب "دانتى" بأن الإيمان هو الأساس لكل ما يؤمل فيه من الأمور، والدليل على ما لا يُرى منها بالحواس، ويقول إن أسرار السماء خافية عن أهل الأرض، وينبغى أن يُتخذ القياس المنطقى بدون المزيد من الرؤية، وبذلك يتضمن الإيمان معنى البرهان.

وكانت أفريقيا كما يذكر حسن عثمان من العناصر التي استمد دانتي منها مادته، فأخذ منها طائفة من الصور والأساطير والشخصيات والحوادث والبلدان . ووضعها في موضع مختلف،وأحكم صياغتها حتي جاءت وحدة متماسكة متآلفة مع شتي الجزئيات العديدة التي تالف منها عالمه العظيم.

وسنعرض هنا في هذا المقال نماذج لما أورده دانتي عن أفريقيا في " الجحيم " من خلال دراسة حسن عثمان:

1- في الأنشودة الخامسة في الحلقة الثانية، حيث تبدأ " الجحيم " الحقيقية عند دانتي، بلغ هو وأستاذه فرجيليو المنطقة التي يعذب فيها أولئك الذين غلبوا العاطفة علي العقل في أثناء الحياة، وارتكبوا الخطيئة التي يعذب فيها أولئك الذين غلبوا العاطفة علي العقل في أصناء الحياة، وارتكبوا الخطيئة بسبب الحب، وينقسم هؤلاء قسمين الطائفة الأولي منهم جماعة الذين أمعنوا في حياة الهوي وشهوة الجسد . رأي دانتي أرواح هذه الجماعة تطير في عاصفة هوجاء،وتطلق صرخاتها كأنها الكراكي تنوح بصوتها الحزين في أثناء هجرتها من المناطق الباردة في أوربا إلي المناطق الدافئة في أفريقيا.

2- وفي الأنشودة الرابعة عشر في الحلقة السابعة، حيث يعذب أولئك الذين ارتكبوا العنف ضد الله وضد الطبيعة والفن، وذلك بممارستهم اللواط، وهم يعاقبون بأن تسقط عليهم من السماء شواظ من اللهب فوق رمال قاحلة جرداء، وصل دانتي وفرجيليو إلي سهل رملي قاحل أحاطته غابة المنتحرين . ووصف دانتي هذا السهل بأنه كان رملاً قاحلاًً كثيفاً لا تختلف طبيعته عن السهل الذي وطئه "كاتو" السياسي الروماني في رمال ليبيا المحرقة، حينما انضم إلي " بومبي" ضد "قيصر" وهرب بعد معركة "فارساليا" إلي أفريقيا في 48 ق.م.

3- وفي الأنشودة الرابعة والعشرين في الخندق السابع من الحلقة الثامنة، حيث يعذب اللصوص بين الزواحف القاتلة، رأي دانتي منها حشداً مخيفاً ما تزال ذكراه تجمد الدم في عروقه .وقال دانتي إنه لا يجوز لليبيا أن تفخر برمالها مزيداً، لأنه رأي هناك من الطواعين القاتلة ما ليس له في أراضها مثيل أبداً، ولا في إثيوبيا كلها، ولا في البلاد الواقعة علي البحر الأحمر، ويقصد بذلك ساحل بلاد العرب وساحل مصر.

4- وفي الأنشودة السادسة والعشرين في الخندق الثامن من الحلقة الثامنة، حيث يعذب أولئك الذين بدلوا خادع الرأي فأصابوا غيرهم بالكوارث، وتسير بهم شعلات من النار، رأي دانتي شعلة ذات لسانين من اللهب بعكس سائر الشعلات . وكانت هذه الشعلة تضم أوليسيس وديوميد اللذين قاما بأعمال الخداع لإحراز النصر في حرب طروادة . قال أوليسيس إن الروابط الأٍسرية والعواطف الإنسانية لم تغلب حماسته لكي يصبح خبيرا بالدنيا وبأحوال البشر، فركب متن البحر العميق المفتوح مع جماعة من رجاله الأمناء، وشهد في مسيره الشاطئ الأوربي حتي أسبانيا، ورأي الشاطئ الإفريقي حتي مراكش .

5- وفي الأنشودة السابعة والعشرين في ذات الخندق وذات الحلقة والتي هي استمرار للأنشودة السابقة، لقي دانتي "جويد ودا مونتفلتر " وزعيم الجبلين في أوربينو في القرن الثالث عشر الذي هزمته قوات البابا "مارتينو الرابع"، وامتاز بالخبث والرأي الخادع . قال "دا بونيفاتشو الثامن" عدو دانتي – قد أعلن الحرب علي آل كولونا، وكان جديرا به أن يحارب العرب واليهود أعداء المسيحية عنده وعند اهل العصر، لم يكن من أعدائه بعض المسيحيين الذين انضموا إلي المسلمين في الاستيلاء علي عكا في سنة 1291إلي 1341 . ولم يحفل البابا في عدائه للمسيحيين المخلصين بمركزه الرفيع ولا برداء الرهبنة الذي لبسه دا مونتفلتروا بعد توبته حينما سأله بونيفاتشو الرأي الخادع للتغلب علي أعدائه.

6- وفي الأنشودة الثامنة والعشرين في الخندق التاسع من الحلقة الثامنة، حيث يعذب مثيرو الشقاق ومروجو الفتن بقطع أعضائهم وتمزيق أوصالهم علي يد شيطان رنيم، رأي دانتي مشهدا رهيبا وأبدي قصوره عن وصف ما شهده من الدماء والجروح . وقال دانتي إنه إذا اجتمع كل من بكوا دماءهم فوق أرض أبوليا ضحية للطرواديين، وللحروب الطويلة التي تكدست فيها خواتم الذهب من أصابع القتلى، وإذا ظهر الجرحى أعضاءهم الممزقة، فلن يساوي هذا شيئاً بجانب ما رآه في الوادي التاسع الرهيب . ويقصد دانتي بالحرب الطويلة الحرب البونية بين روما وقرطاجنة والتي استمرت خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد ويريد علي الأخص كعركة " كان".

7- وفي الأنشودة الثلاثين في الخندق العاشر من الحلقة الثامنة، حيث يعذب الأشخاص والكلام والنقود، رأي دانتي المعذبين وقد أصابتهم الأمراض ومن بينهم "أداموا دا بريشا" الذي زيف عملة فلورنسا الذهبية في النصف الثاني من القرن الثالث عشر. وسأله دانتي عن معذبين استلقيا علي الأرض متلاصقين وقد تصاعد منهما الدخان . فأجابوا أدامو أنهما ظلا هكذا دون حراك منذ أن هبط هو إلي هذه الهوية، وان أحدهما هي الزائفة التي اتهمت يوسف زورا وبهتانا بمحاولة اغتصابها عندما لم يستجب لإغوائها . والزائفة هي زوجة فوطيفار المصري في عهد الهكسوس في حوالي القرن الثامن عشر أو السابع عشر قبل الميلاد كما ورد في الأساطير القديمة.

هذه نماذج من الصور الإفريقية التي استمدها دانتي في " الجحيم" من أساطير أفريقيا وتاريخها وأهلها وعلمائها وأبطالها وقوداها وغزاتها، ومن بلادها وصحاريها وزواحفها وجبالها وشطآنها وبحارها ونيلها ومصرها .

ومزج دانتي في ذلك كله كما يقول حسن عثمان بين الأسطورة والتاريخ، وبين الخيال والواقع، وبين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، وبين الطبيعة والإنسان ولم تبدأ واحده من صوره قلقة في موضعها أو متنافرة مع ما يحيط بها أو منفصلة عن السياق العام، بل جاءت كلها في ثنايا " الجحيم" ممتزجة متسقة مع سائر العناصر والجزئيات، ومتآلفة مع الأفكار والمعاني التي أقام دانتي عليها بناءه الشامخ . وهذه بعض مواهب دانتي . ومن غيره استطاع أن يأتي بمثل هذا الفن العظيم.

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم