صحيفة المثقف

ناجي ظاهر: حسين فاعور.. ابداع خصيب ورحيل جذيب

ناجي ظاهربصمت يشبه صمت القبور غادر عالمنا في التاسع والعشرين من نيسان الفائت الشاعر الكاتب حسين فاعور/ الساعدي ابن قرية الحسينية الواقعة قرب مدينة عرابة البطوف في منطقة الجليل الغربي، وهي قرية تشبه صاحبها في الكثير من الصفات، فهي خضراء ممرعة، لكنها ليست معروفة لدى الجميع وهناك الكثيرون ممن يعتقدون ان الحسينية هو اسمها الحقيقي في حين يقول اهلها ان اسمها الحقيقي هو الحصينية لكثرة الحصينيات فيها. مشيرين ان اسمها حُرّف عبر الزمن فاصبح الحسينية.

عرفت الفقيد روحيا قبل ان اعرفه فيزيا، وكان ذلك قبل اكثر من خمسين عاما عندما كان ينشر قصائده الانسانية الحافلة بحب الوجود، الارض والانسان، وكان واحدا من قلة من الشعراء الذين لفتوا نظري في حينها، لما فاضت به اشعاره من روح جديدة ومتجددة ولا تخلو من لطف وسخرية محبّبة. وكان من الواضح لي انه شاعر بدويّ متمرد تجذبه القرية بكل ما فيها من مراع وابار وما الى هذه من محتويات القرية البدوية الفلسطينية، وتشاء الظروف ان يختفي شاعرنا فترة تنوف على الثلاثة عقود، وهو لا يغيب عن ذاكرتي، وكنت طوال الوقت اتساءل ترى اهو حي ام راحل، ولماذا يغيب كل هذا الغياب، زاد في تساؤلاتي هذه ايماني بان الشاعر الحقيقي، لا يغيب الا ليحضر، اما ان يغيب كل تلك الفترة المديدة من الزمن، فان الامر يحمل في طياته لغزًا يحتاج الى حل او خبر بسيط يقطع الشك باليقين، ويخبرني بصريح العبارة ما اذا كان الرجل حيا ام راحلا.

بقيت هاته الاسئلة تلح علي بين والحين والآخر، لا سيما عندما كنت اطالع كلامًا فارغا يطلق عليه اصحابه صفة شعر، الى ان طالعتني صفحات الفيسبوك ، قبل حوالي السبعة اعوام بالخبر اليقين،  ان شاعري الحاضر الغائب حي يرزق، وها انذا اقرأ فصولًا من مذكراته، يشرع بنشرها عبر صفحته الفيسبوكية، فاطوي الزمن لالتقى به كاتبا متمكنا، يسجل تجاربه ومعانياته وما مضى عليه من سنوات وحكايات بحرفية عالية لا تتوفر الا لإنسان امتلك القريحة الخلاقة والموهبة البراقة. ما ان قرات كتابته هذه حتى هرعت الى الماسنجر وكتبت له رسالة حييته فيها على عودته واعربت عن سروري بتلك المصادفة السعيدة التي اتت به.. وسرعان ما جاءني الرد، واستقبلت التحية بأفضل منها، لأجدنا، حسين وانا، نلتقي في مدينتي الحبيبة الناصرة، نتناول فنجانَ قهوة عربيًا اصيلًا، ولأكتشف بالتالي سر غيابه، لقد كان حسين مشغولا طوال العقود الماضية في "معركة" حافلة بالكرّ والفرّ من اجل حمل السلطات الاسرائيلية على الاعتراف بقريته، بعد عقود من تجاهلها لها هي والعشرات من القرى التي لا تعترف بها ولا تقدم لها بالتالي الاعتراف التي تحتاج اليه اي قرية لتكتسب صفة قرية حقيقية ويطيب العيش فيها، سواء كان من ناحية الميزانيات او الخدمات." الان بعد جهاد مديد الى جانب نفر مثابر من اهل قريتي تمكنا من انتزاع الاعتراف الرسمي بقريتي الحبيبة.. مسقط راس ابي وجدي وابنائي واحفادي"، قال حسين وهو ينظر الى البعيد وتابع" لقد مضى الزمن سريعا.. ارجو الا اكون تأخرت كثيرا في العودة الى الادب وربوعه المحببة". الحديث بيننا طال ولم نفترق الا بعد ان اتفقنا على عدد من الامور هي: اقامة دار نشر نطلق عليه اسم "الملّ" تيمنا بشجر يعمر في ربوع بلادنا واملا بمواصلة الطريق الى ابعد ما يمكننا ان نواصل، هذه الدار تساعد الكتاب والمبدعين في نشر ابداعاتهم دون تكليفهم بدفع مقابل النشر كما تفعل معظم دور النشر اليوم، وطباعة المجموعة الشعرية الثانية من انتاجه عنوانها عفوا الى كل هؤلاء (مجموعته الاولى طفل يخترق الحدود- طبعت ولم توزع لأسباب فنية كما فهمت منه)، اضافة الى طباعة كتاب مذكراته تحت خط النار، وقد تضمن برنامجنا طباعة العديد من المؤلفات من انتاجي وانتاج كتاب اخرين، وهو ما تم انجازه وكان.

حسين فاعور الساعديما حصل بعد ذلك اللقاء، ان اللقاءات تتالت بيننا، واننا شرعنا بتنفيذ ما خططنا واعددنا له اولا بأول وبسرعة ادهشتنا قبل ان تدهش اخرين من اصدقائنا ومعارفنا، فَرُحنا نطبع الكتاب تلو الاخر، وكنا نوزع ما نطبعه على الاصدقاء والاحباء، ونتلقى اراءهم وكتاباتهم المشجعة، ويبدو ان العودة الى طريق الابداع الادبي قد ايقظت الانسان المبدع داخل الاخ والصديق حسين فاعور الساعدي، فراح يكتب ويكتب وكأنما هو في سباق مع الزمن، ما دفعني الى سؤاله عن سبب تلك السيولة في كتابته، فما كان منه الا ان سألني عن سبب سؤالي فأخبرته انني اتوق الى الكتابة والابداع الادبي الا انني اشعر بان هناك ما يمنعني من الكاتبة، واذكر انه ربّت حينها على كتفي قائلا لا تهتم كل شيء في وقته حلو، وبالفعل كان ما اخبرني به، وتحقق، وانفجرت بوتقة الكتابة في روحي وقلبي لأجد حسينا يفاجا ويكتب عما كتبته وانتجته من قصص قصيرة عديدة خلال السنوات الثلاث الماضية، وليفاجئني بالتالي بمقالة يسلط فيها الضوء على عدد مما انتجته ووضعته من قصص قصيرة ابان تلك الفترة.

التعاون بيني وبين حسين تواصل خلال السنوات القليلة الماضية بهمة ونشاط، فها نحن نقيم الندوة تلو الندوة ونحضر الامسية تلو الامسية وها انذا أفاجأ به يصطحب ابناء اسرته الصغيرة الى هذا النشاط الادبي او الفعالية الاجتماعية، بل ها هو يبادر الى تأسيس مجموعة قراء الحسينية ويكرم ضمنها العديد من الكتاب والمبدعين عبر اقامة الندوات والامسيات في بيته القائم في منطقة الملّ في قريته العزيزة الغالية. بل ها هو يبادر لتأسيس مجموعة الكتاب الكنعانيين، ويحقّق واحدة من القفزات الاولمبية فيبادر لعقد اجتماع في بيته تلتقي فيه الاطر الادبية الفلسطينية المتنافسة، وتتباحث في امكانية الاتفاق على نقاط عامة والائتلاف، وهو ما تحقق بعد فترة وجيزة من ذلك الاجتماع، فتأسس الاتحاد العام للادباء الفلسطينيين- الكرمل 48.

في العودة الى حسين وانتاجه الادبي، اقول انه كتب في فترة قياسية روايته الاولى فتاة الموسيقى، اتبعها بروايته البئر الملوثة- مذكرات رئيس، فروايته الثالثة دخان في كروم الله، وكان حسين في رواياته هذه ينبش في دفتر سيرته الشخصية وصفحات نضاله الملتهب من اجل تحرير قريته اولا وإنسانها ثانيا من العادات والتقاليد البالية التي لم تعد صالحة لقرننا الواحد والعشرين. وقد بدا حسين في رواياته هذه كاتبا متمردا من طراز خاص ورفيع، كاتبا امتلك رؤية وحلما وعبر عنهما كأفضل ما يمكن لإنسان كاتب ان يعبّر، وهو ما فعله ايضا فيما انتجه ونشره من قصائد ومقالات قام بنشرها بصورة محمومة تريد ان توقف عجلة الزمن وان تنطلق بها مجددا كما حصل معه في ماكنته الابداعية.. من انقطاع فعودة.

في العام الاخير فأجاني حسين، وربما فاجأ العديدين من الاصدقاء والقراء، برواية تحفر في اعماق الذاكرة الفلسطينية الانسانية البدوية تحديدا، هي روايته صاحب الجبل، واذكر هنا بكثير من المحبة، تلك الصفحات المشتعلة فنًا وابداعًا التي قدمتها روايته هذه بأحرف من نور، في تلك الصفحات التقيت بالسعلاة وهي كائن خرافي مفترس عرفته الاسطورة الفلسطينية جيدا، لأنسى انني اقرا رواية ولأعيش الحدث الخارق كأنما هو يحدث الان وهنا، ولأرى بأم اذني، كما وصف الكاتب الانجليزي المبدع دي اتش لورنس العمل الروائي المبدع الرائع.

يوم الخميس 29-4-2021، تنتهي هذه الرحلة الادبية اللافتة، وتُطوى صفحة ناصعة في دفتر حياتي الادبية، لافاجأ بنبأ الرحيل المبكر لأخي وصديقي الذي لم تلده امي حسين فاعور، ليصيبني ما اصاب شاعرنا العظيم ابي الطيب المتنبي عندما بلغه نبا وفاة اخت سيف الدولة الحمداني فعبر عن حزنه قائلا طوى الجزيرة حتى جاءني نبا فزعت منه بآمالي الى الكذب. فهل رحل حسين مديرا ظهره.. وماضيا في رحلته الابدية، دون ان يشعر برحيله هذا الا القلة القليلة من ابناء العشيرة والاصدقاء؟ وهل هذا هو قدر المبدع الحقيقي البعيد عن الاضواء.. ان يرحل بصمت.. وكأنما هو لم يقدّم شيئا يذكر او لم يكن بيننا..

 

ناجي ظاهر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم