صحيفة المثقف

جمال العتابي: مأزق المسؤولية الأخلاقية الثقافية

جمال العتابيثمة مأزق يواجهنا حين نتصدى للمسؤولية الأخلاقية الثقافية، بإعتبارها حجر الزاوية في الوعي الأخلاقي، وعند القائلين بالجبر، ان كانت إختيارات الإنسان وأفعاله لا تستثنى من السياق الطبيعي، لإستحالت المسؤولية الأخلاقية، يقابل هذا إفتراض ان بعض اختياراتنا لا تحددها شروط سابقة، وبالتالي لا يسعنا التنبؤ بها طبقاً لتلك الشروط، فهناك إذاً إختيارات غير محددة، حرة، أعني الإختيارات الإنسانية، أو حرية الإرادة، التي تهيء للمسؤولية، وحسب أريش فروم في (جوهر الإنسان)، فان مفهوم المسؤولية يعني: انني واعٍ لما فعلته.

لقد أدرك سارتر بوقت متأخر في فلسفته، ان استقلال الإنسان الأخلاقي، وحريته ومسؤوليته، يمكن أن تهدر،  تنهار كلها في ظروف معيشية صعبة، أو في ظل نظام إستغلالي مثلاً، وهكذا أخذ يزداد وضوحاً بان مفاهيم الحرية والمسؤولية والإختيار، لا تعني شيئاً بدون السياق الإجتماعي،، وبأن الأخلاق ليست مغامرة فردية بطولية، بقدر ماهي ممارسة ذات أبعاد إجتماعية من الصعب تجاهلها، على الرغم من ان سارتر يجد في قدرة الإنسان إمكانات هائلة في صنع وجوده، وإختيار مساره في كل فعل يقوم به، فالحرية هي قدر الإنسان الذي لايستطيع الهروب منه، وهكذا استطاع سارتر ان يقول في لغة لا تخلو من المفارقة ان الانسان (محكوم عليه) بالحرية.

أي الإختيارات يكون الإنسان مسؤولاً عنها؟ للإجابة عن هذا السؤال، نقول: ان حرية الإختيار ليست مجرد قدرة شكلية، إما ان يمتلكها المرء، أو لا يمتلكها، بل هي وظيفة للبنية الشخصية للإنسان، لقد عانت المعالجة التقليدية لمسألة الحرية، من الإفتقار لإستخدام بيانات نفسية تجريبية، كما يقول فروم، الأمر الذي أدى الى الميل لمناقشة المشكلة بتعابير مجردة، فإذا عنينا بالحرية (حرية الإختيار)، فسيمضي السؤال حول ما إذا كنا أحراراً بالإختيار بين (س وص)، الحتميون يقولون بأننا لسنا أحراراً، والإنسان مجبر على الإختيار بين س وص، بسبب الدوافع التي تحدده وتجبره على إختيار هذا أو ذاك، في حين يدعي معارضوهم العكس تماماً، ويجادلون بأن الإنسان يمتلك مسؤولية الاختيار وحده، وهنا نصل الى عمق المأزق، من الصحيح؟ الجبرية أم الحرية، وفي كلتا الحالتين تكون المسؤولية الأخلاقية متعذرة، وعلينا أن نواجه الموقف الجدلي التالي: مالم يكن ثمة تسليم بان الانسان مسؤول عن أفعاله، فلن يكون على الأرجح مكان للمبادئ الأخلاقية، واذا تأملنا أعماق التجربة الإنسانية، وتتبعنا تطور المجتمع البشري، يبدو لنا ان إغفال الحرية الإنسانية يفضي الى إعتبار الناس تروساً في  وحدات وقوائم إحصائية وهم ليسوا كذلك، فالإقرار بقدرة الإنسان على الإختيار الحر، تدعنا الى الإعتزاز بصانعي الإبداع في الحياة.

ضمن هذا السياق ننظر لموقف المثقف من الحرية والإختيار كمحصلة للوقوف الى جانب القيم الإنسانية والأخلاقية الشاملة، ويبدو ان مفهوم غرامشي الأقرب في التعاطي مع هذه المواقف، إذ يعدّ الناس جميعاً انهم مثقفون، لا إختلاف بينهم إلا في أداء الوظيفة الفكرية داخل المجتمع، واذا سلمنا بان المجتمع في الغرب قادر على إستيعاب هذه الوظيفة وقبولها، فأنه من الصعب قبولها في بلداننا المتخلفة، التي تنعدم فيها حريات التفكير والمعتقد والرأي، ويختلط فيها مفهوم الثقافة أولاً، وتلتبس فيها الافكار، فيصعب التمييز بين المثقف العضوي والمثقف التقليدي. المثقف ذاته يعاني من أزمة هو الآخر، بإرتداده إلى الذات أولاً، وأزمة مع الآخر ثانياً، تتمثل بما يدعى بالنرجسية النخبوية، التي تزين للمثقف أنه عقل الأمة النير، وضميرها الحي، بإدعاء انه يحتكر الوعي والفكر والعلم، ويمارس والفضيلة، ويمارس الإقصاء بكل أشكاله، بينما الآخر له ذات مفكرة وعقل حي وفاعل، كذلك. فمازلنا، نعود لكتابات وافكار مبدعي العالم، ونعتمد طروحاتهم كمجالات خصبة للقراءة والفهم، بينما لا تصلح كتابات البعض في تجاربنا المحليةأن تؤسس لفكر متنور، وتأملي، تحليلي، فتبدو طارئة، هامشية، مقطوعة، لا تترك أثراً عميقاً في الحياة.، لاتتلمس نبضها،  لاترصد قلق الجسد الإجتماعي الثقافي، والتحولات فيه.

أعتقد أن لا دورَ للمثقف يلوح في الأفق، أو في سماء البلدان العربية الملبّدة بالغيوم السود، فهناك مشكلة كبرى تواجهها الثقافة في بلدنا، هي غير المشكلة في المجتمعات المتقدمة بالتأكيد، وهي تتمثل بالتحديات في مواجهة السلطة، وإتخذت شكلاً حادا في العقدين الاخيرين من الزمن، (سلطة التقاليد، والعرف، والعشائرية، والسلطة الدينية وسلطة الحكومة)، ان من طبيعة الإبداع أن يكون في صراع مع القوى التي تتجاهل الثقافة، وتعيق حركتها في المجتمع، أو تجميد عقل الإنسان وفكره المتحرر. في خضم هذا الصراع الحاد، تسعى قوى الظلام والشر أن تفرض الخراب الثقافي، لينزوي المثقف في عزلته، محاولاً على الأقل ان يكون وفياً لتاريخه وذاته.

ان تاريخ التطور الإنساني أثبت على مرّ العصور، ان المثقفين كانوا هم الذين سبقوا أزمنتهم، ومهّدوا الطريق لتطورات حاسمة في تاريخ البشرية.

 

د. جمال العتابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم