صحيفة المثقف

محمود محمد علي: القدس لنا والأقصى أول القبلتين وثالث الحرمين الشريفين

محمود محمد علييا قدس استعدي دائماً فالله ناصرك مهما صار .. وكوني بالله واثقتاً .. فربك حامياً مسجده الذي أسري به نبيه .. هل يخفي علي الله ما يفعله أولئك المحتلون الفجّار ؟..فعقابهم أصبح وخيماً وسيخرجوا مَذلولين حُقّار .. لا تحزني يا قدس أبداً فوالله حُزنك جعل قلبي ينهار .. ربي حَاميكِ لا تقلقي فكل شَهيد عند رَبُهٌ فَخوُر مُبهج بذلك الانتصار .. فوالله سوف تتحرري مهما طال الإنتظار .

قصدت أبدأ كلامي بهذه الكلمات لأقول قلوبنا مع لإخواننا الفلسطينيين فى كفاحهم المستمر أمام الغاصب الإسرائيلى الذى يواجه تجمعهم السلمى ضربًا بالرصاص الحى فى مشهد لا يراه مجلس الأمن إلا بعيون الأمريكان المنحازة انحيازًا أعمى لإسرائيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله الذى يشد من أزر الفلسطينيين فنراهم يتجمعون فى ساحة المسجد الأقصى بمئات الألوف التى تبهر الدنيا بعظمة صمود أصحاب الأرض المقدسة.

وهو صمود يعلن عدالة القضية الفلسطينية وشرعية دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وردًا على جبروت إسرائيل فى اقتحام المسجد الأقصى بحشد من المستوطنين المتعصبين لإعادة هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى الذى تستبيحه إسرائيل باقتحامه واعتقال المصلين الذين يقرأون القرآن بصوت مرتفع وكأنهم يريدون أن يخرصوا الألسنة من تلاوة القرآن الكريم.

وقد ذكر العالم الكبير سيد قاسم المصرى في مقاله له بعنوان القدس.. جرحنا الدامى.. وعجزنا المهين أنه طوال مسيرة الحركة الصهيونية فى سعيها للاستيلاء على فلسطين.. كانت تسعى لكسب الدولة العظمى فى وقتها إلى جانبها. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد غروب الشمس عن الإمبراطورية البريطانية ركزت الصهيونية جهودها على كسب الولايات المتحدة ونجحت فى ذلك إلى حد كبير.. وجاءت ضربة الحظ الكبرى بوصول تيار اليمين المتطرف إلى الحكم بزعامة دونالد ترامب وهو التيار الذى يضم ما يسمى «بالمسيحية الصهيونية» المؤيدة – عقائديا – لقيام إسرائيل.. ومن هنا حِرصْ دونالد ترامب على إرضاء هذا التيار..

واللافت للانتباه في قرار ترامب ما يتضمنه من مبالغة جسيمة في الاستفزاز لمشاعر العرب والمسلمين، وما يحتويه من استهانة بالغة بمشاعر الفلسطينيين، عندما يختار ذكري مرور سبعين عاما علي نكبة فلسطين موعدا لنقل السفارة الأمريكية إلي القدس.

هذا فضلا عما يمثله هذا القرار الفج من تأكيد جديد وحاسم لعدم مصداقية الادعاءات التي رددها ولا يزال ترامب يرددها، عن رغبته في ايجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية، فيما أسماه صفقة القرن، بعد أن ثبت انحيازه الكامل للدولة الصهيونية وعدم صلاحيته لدور الوسيط العادل علي الاطلاق.

إنَّ عروبةَ القدس أمر لا يقبل العبث أو التغيير وهى ثابتة تاريخيًّا منذ آلاف السنين، ولن تفلح محاولات الصهيونية العالمية فى تزييف هذه الحقيقة أو محوها من التاريخ، ومن أذهان العرب والمسلمين وضمائرهم، فعروبة القدس ضاربة فى أعماقهم لأكثر من خمسين قرنًا، حيث بناها العرب اليبوسيون فى الألف الرابع قبل الميلاد، أى قبل ظهور اليهودية التى ظهرت أول ما ظهرت مع شريعة موسى، عليه السلام، بسبعة وعشرين قرنًا، كما أن الوجود العبرانى فى مدينة القدس لم يتعد 415 عامًا، على عهد داوود وسليمان، عليهما السلام، فى القرن العاشر قبل الميلاد وهو وجود طارئ عابر محدود حدث بعد أن تأسَّست القُدس العربية ومضى عليها ثلاثون قرنا من التاريخ.

والمزاعم الصهيونية فى المسجد الأقصى لا تنتهى، ومن ضمنها أن المسجد هو هيكلهم الذى بناه نبى الله داوود عليه السلام»، والرد على ذلك سهل ميسور، وهو أن ما جاء فى القرآن الكريم فى قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقصى) ليس بناء، وإنما هو أرض محددة خصصت منذ قديم الزمان للعبادة والصلاة والسجود، والمسجد فى لغة العرب هو المكان المخصص للسجود فيه، وليس البناء، والدليل على ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم فى أثناء الفتوحات الإسلامية كان يتخذ أماكن ويحددها ليقوم بالصلاة فيها مع الصحابة الكرام فتُسمى هذه مساجد، وليس بالضرورة تشييد الحوائط والأسقف ليكتمل وصف الأرض بالمسجد، ولكن بتحديد هذه الأرض للصلاة فيها تصبح مسجدًا.

والمقصود بالمسجد الأقصى المذكور فى القرآن الكريم هو المكان المقدس، وهذه البقعة الموجودة هى المسجد، سواء بُنى عليها أم لم يبن، لأن المبانى تتغير بمرور الزمن وتتعرض لعوامل التعرية والهدم والسيول، فهى معرضة لأن تهدم وتقام مكانها مبان غيرها، والدليل على ذلك بناء نبى الله إبراهيم وابنه إسماعيل الكعبة المشرفة، فيقول الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل) فالقرآن لم يقل: وإذ يبنى إبراهيم البيت أو ينشئ مثلاً، وإنما قال: يرفع، وهو دليل على أن هناك قواعد كانت موجودة فى الأصل، وهذا هو المكان المقدس، ثم جاء سيدنا إبراهيم ومعه سيدنا إسماعيل، عليهما السلام، فرفعا هذه القواعد وأظهرا هذا البيت المقدس.

يجب أن نعترف بأن المغالطات التاريخية، سواء فيما يتعلق بالقدس، أو المسجد الأقصى، قد تم التسويق لها عالمياً منذ وعد بلفور قبل مائة عام وحتى الآن، وقد رددها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية، كما تم الترويج لها إعلامياً من خلال بعض المشتاقين العرب، لذا كان من المهم التركيز على مواجهة هذا الاتجاه المضلل، الذى اعتمد على اجتزاء أحداث تاريخية ودينية من سياقها، بهدف خدمة الأهداف الصهيونية فى هذا الشأن.

القدس ليست مجرد حدث عادي يستيقظ عليه العرب فيثورون ويغضبون ثم يهدأون وينامون انتظاراً لعدوان جديد، ولكنها ملف سيظل مفتوحاً وينزف ألماً ووجعاً، وواجب أبناء الأمة بدلاً من البكاء والنواح، أن يتسلحوا بالقوة، وأن يجعلوا من مدينتهم المقدسة، قضية يلتفون حولها ويرفعون رايتها.. وإذا لم يتحدوا من أجل القدس، فعلي أي شيء يمكن أن تتوحد كلمتهم؟

فالقدس لنا والارض كلها لنا وسنصلى ونبتهل الى الله ان يحفظ القدس والاقصى، وأن يجمع شمل الامة ليخرج من بينها صلاح الدين الجديد الذى يستعيد الاقصى الاسير ويحرر القدس ويهزم وجه القوة الغاشم الذى فرض سيطرته عليها فى غفلة من الامة.

إن زهرة المدائن التى تجمع فى مكان واحد المسجد الاقصى الذى هو اول القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وكنيسة القيامة التى تبعد خطوات عنه، تبقى ذات خصوصية عند العرب مسلمين ومسيحيين وعنوان لتلاقى الاديان السماوية فى البلد الذى بارك الله حوله وستعود إن شاء الله قريبا لأهلها.

ونستطيع أن نقرر أن المسجد الأقصى كان له مكانة فريدة فى الوجدان العربى، قبل وبعد بعثة النبى صلى الله عليه وسلم، وكان له مقام رفيع فى نفوسهم، ورفعوا مقام زيارته إلى ما يشبه الحج أو العمرة. ومع إجلال النبي للمسجد الأقصى، وارتباطه بحادثة نبوية شديدة الأثر فى حياته الشريفة، وفى حياة المسلمين، وهى حادثة الإسراء والمعراج، إلا أنه كان يأبى على المسلمين رفع الأقصى إلى مقام «البيت الحرام»، وهو الأمر الذى يدعو إلى التفكير فى الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول فيه: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم