صحيفة المثقف

سليمان عميرات: إِرْهَابِيٌّ على الطريقِ العامِ

سليمان ـ عميراتمهمَا حاولتَ فإنك لا تستطيعَ تخيلَ كلّ الرّعبِ والإرهابِ الذي يمكن أن تعيشه في ليلةٍ ممطرةٍ من أيامِ شتاءِ 1996 في الجزائرَ، حيث يمرُ البلدُ بسنواتِ سودٍ دمويّةٍ، تكادُ تكونُ حربًا أهليةً على نطاقٍ واسعٍ، بين الدولةٍ بجيشِها ودركِها وشرطتِها وإرهاب لا وطنَ ولا دينَ لهُ.

على طريقِ برحالَ حيث كنا عائدِين من عنابةَ نحو منطقةِ حجرِ الديسَ، كنتُ حينها برفقةِ سائقِ سيارةٍ ينقلُنَا بمقابِلٍ وراكبَيْن من نفسِ القريةِ، كان الوقتُ يقاربُ العاشرةَ ليلاً، الجَوُّ شتوِيٌ باردٌ، والمطرُ يتساقطُ رذاذًا، وقد وصلنا إلى منتصفِ الطريقِ، بالضبطِ قربَ جسرَ وادِ زيادِ، رأيْنا من بعيدِ حاجزٍ أمنيّ على الجسرِ، سيارةُ الدركِ الوطنيّ بلْونها الأخضَرِ ورجالٍ في بَزَّاتٍ عسكريةٍ، لكننا لم نعرفْ لمنْ الحاجزُ؟ ما إذا كان للدركِ الوطنيِّ أم هو حاجزٌ مزيفٌ نصبتهُ إحدى الجماعة الإرهابيةِ، يَتَنَكّرون في زيِّ الدركِ والجيشِ، يستعملون أسلحتَهم وسياراتَهم، بعد خطفِها في الأشهرِ الماضيةِ.

المشكلةُ التي سنُواجهُهَا كبيرةً وخطيرةً، قد تؤدِي إلى حتفِنا، لا ندري مع من نتعاملُ، ومن هم الذين سيوقِفُونَنَا بعد قليلٍ، وهل يستعملون هويتَهم الحقيقيةَ أم يمتحِنوننا؟ لمجردِ خطأ بسيطٍ قد يؤدي بحياتنا جميعًا، إن تعاملنا معهم بصفتِهم دركًا وطنيًّا ثم فاجؤوننا على أنّهم إرهابٌ، هنا يعاملوننا كخائِنينَ، وتكون نهايتنا محتومةً، أما إذا تعاملنا معهم كجماعةٍ إسلاميةٍ مسلحةً ولهم حقٌ شرعيٌّ في القتالِ، وتعاطفنا معهم كانت نهايتنا على يدِ الدركِ الوطنيِّ، لم يعد الشعبُ يثقُ فيه لأنه بدوره لا يثقُ في الشعبِ، وقد تجدُ دركيّ لا يثقُ في زميلِهِ، وجنديٌّ لا يثقُ في شرطيٍّ وهكذا.. لشعراتِ السنينَ والأمرُ معقدٌ والقتلُ يتكاثرُ، لا أحدَ يثقُ في أحدٍ، هذه هي مشكلةُ البلدِ.

صَرَخْنَا في وجهِ السّائقِ، أنْ توقفْ وعُدْ أدراجَكَ بنا، فالموقفُ صعبٌ وخطيرٌ بلْ مميتٌ، لكنه ردَّ علينا منفعِلًا:

- فاتَ الوقتُ، إن رجعتُ يمكنُ أنْيطلقُوا علينا النّارَ.

وقدْ صدقَ في ذلكَ، فقدْ يحسبُنَا الدركُ الوطنيُّ من الإرهابِ، وإن كانَ حاجزٌ مزيفٌ قد يعتبرُونَنَا من الجَيشِ الذي يرونَهُ أخطرَ عدوٍ.

وهكذا استَمَرّيْنَا في السّيْرِ ودُرْنَا مع الجسرِ لنَجِدَ أنفسنَا أمَامَ الحاجزُ مباشرةً، وبمصباحِهِ اليدوِي يُصوبَهُ الدركيُّ نحونَا، في وُجُوهِنَا مباشرةً، ويسألُ السائقُ عن وجهتِنَا، وما الذي أخّرَنَا لهذا الوقتِ من الليلِ، وأننَا تَجَاوَزنَا حَظرَ التِجْوَالِ وحَالةِ الطوارئِ، شعَرْنَا جميعُنَا بالخوفِ الشّديدِ، وكادَ الدَّمُ يتوقَفُ في عروقِنَا، وبَطَأَ التنفُسُ فكانَ رَدُنَا على الدركيِّ مضطربًا وثقيلًا.

- أَنزلُونَا من السيارةِ وفتشُونَا ثم طلبُوا بِطاقاتُ هَوِيّاتنَا، وأخيرًا جاءَ الفرجُ، وكانتِ المفاجأةُ عندمَا طلبَ منَّا الدركيُّ العودَةَ إلى عنابةَ ودخولِ القريةِ من جهةِ الحجّارِ، ثم بَدَأَ يشرَحُ لنا أنّ هُناكَ جماعةً إرهابيةً الأخطَرُ وَطَنيًا على الإطلاقِ أمَامَنا وهم يُطَوِقُون المَكانَ، عَرَفْنَا منْ يكونَ قائدُهم الذي اشتَهَرَ بعُنْفِهِ وزرعِهِ الرّعْبَ في الأمنِ والشّعبِ، رَدَّ السائقُ مرتَجِفًا، وخَائِفٌ منْ أنْ يكونَ أحدُنَا من الإرهابِ أو الدولةِ:

- إنه المَانْشُو ذلك الأَغْوَاطِي الذي قتلَ الكثيرَ من ضباطِ الجيشِ والأمنِ، وستكونَ نِهَايَتِهِ سَارَةً للشعبِ الذي أرْعَبَهُ.

وسَمِعْنَا إطلاقُ نارٍ على مقربةٍ من الجبلِ المقابِلِ لوادِ زيادِ. هُنَا تَنهّدْنا رَاجِعينَ وكُلٌ يقولُ في قرارَةِ نفسِهِ الحمدُ لله أنّنَا لمْ نلتقِي بهم اليَومَ ولا من قبلِ ولا من بعدِ، كُنَا نُبْغِضُ عَمَلَهُمْ المَبْنِي على الشّرِ والقتلِ والخوفِ، كنّا نَرْهَبُ حواجز الدركِ المُزَيّفَةِ التي أخذَتْ الكثيرَ من الأبرياءِ في شَرْقِ وغَرْبِ البِلادِ.

***

الأديب سليمان عميرات

عنابة في 14 مايو 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم