صحيفة المثقف

عمرون علي: هكذا تكلم بختي بن عودة

عمرون علي تكلم بختي بن عودة في زمن الصمت.. تكلم هناك من بونة. المضيئة مدينة الحزن والبحر والخوف والحب والذاكرة فحلقت أفكاره في الاثير وتراقصت مع أمواج الضوء و الصوت تردد نشيد الموت ...هكذا تكلم بختي بن عودة عن عشقه لليل عن الكتابة "اكتب بالليل لان الليل حكمة اعيد انتاجها عبر الحضارات العتيقة التي انبنت وفق الليل كنص " وعن الحداثة "لان الحداثة عتمة وليست فقط وضوحا وضواء"

تكلم عن السياسي دون خوف او تردد .. "السياسي المريض المعطوب في وعيه الذي يفكر انيا ومرحليا ولا ينظر الى المستقبل والافق والامتداد " عن المثقف المعرب وعجزه عن تحرير ذاته وهو المكبل بقيود العبودية ثابت ثبات المكان الذي ولد وسيموت فيه لا يسافر بخياله لا يُسائل الحقيقة بالمحصلة لا يقرأ يخاف المغامرة فمن الطبيعي الا يبدع "المثقف الجزائري كسول لان المؤسسة الرسمية استهلكته ثم استرجعته وبهذا حددت له الخانات التي ينبغي ان يتحرك فيها صنعت له افقا ضيقا " في مقابل ذلك المثقف المفرنس تحرر صنع لنفس مكانا متميزا بعد احداث أكتوبر تحرر لغة وفكرا وتنظيرا.وهذا واضح أيضا من حيث المنتوج والقدرة على الابداع .هذه المقارنة لم يكن الهدف منها تقزيم المثقف الجزائري المعرب وانما كانت محاولة لتحريره من خوفه لان المثقف الذي استوعبته السلطة وتعيد برمجة وتمرير خطابه من خلاله هو مثقف مستهلك رديء وقميء وهذه هي النتيجة التي توصل اليها المفكر عمار بلحسن رحمه الله وأعاد بختي التذكير بها .

تحدث بختي بن عودة عن بؤس الثقافة في الجزائر وعن يتمها ...ثقافة مسكونة بالنكوص الى الماضي سكونية تعيد انتاج الرداءة وعزف نفس النغمة الرديئة ثقافة عجزت عن التحول الى فاعل بقيت سجينة للدونية وللترديد والمحاكاة "ما تعيشه الجزائر هو محصلة لنشر الرداءة وهي استراتيجية مقصودة حتى لا يفكر الجزائري في ذاته ومستقبله على اعتبار ان إشكاليات مثل الهوية والدين واللغة والحضارة والفكر ظلت محسوبة على جماعة معينة صنعت السلطة منذ 1954واذا اردنا ان نتأمل المشهد بالكيفية هاته نتأمله بالحفر في هذا التاريخ في تصدعاته وفي تناقضاته وفي المسكوت عنه ثم نفتح كتاب الحاضر الراهن ونتساءل لماذا نعجز عن انتاج فكر متنور وعقلاني فكر يطرح ميتا لوجيا الجزائر البيضاء وليس ميتا لوجيا التي يطرحها السياسي المريض المتعفن الدي ملك الجزائر ويعيد امتلاكها الذي نصب نفسه إِلَهًا انطلاقا من التاريخ وشرعيته ،الثورة وشرعيتها ،النفط وشرعيته.

العجز عن خلق تقاليد فكرية لا يعود فقط الى تدخل العامل السياسي بل هو أيضا عجز في الارتقاء على مستوى البحث والتحليل وهذا واضح في تهميش دور العلوم الإنسانية والفكر والفلسفة وغياب مراكز الدراسات الاستراتيجية و المستقبلية وغياب النظرة الاستشرافية للمستقبل . بالإضافة الى عدم تحرير الجامعة وادراجها في مخططات المجتمع وتمكينها من ان تكون مسؤولة وتحتوي مشاكل المجتمع قلقه وغبنه وهذا مأزق مركب وبنيوي وبالمحصلة عجزنا على تنظيم أنفسنا سياسيا لأننا لم ننظم أنفسنا ثقافيا وبالتالي حضاريا وحداثيا . اننا عاجزون عن انتاج معرفة نقدية والسبب عجزنا عن التنظير والقدرة على تجريد الواقع وبالتالي انتاج موضوع المعرفة بشكل عام فنحن عاجزون عن التحليل وما يصيب الجزائر اليوم لم يقابله تحليل منطقي قادر على تفجير امكنة نظرية غير تلك التي فرضت علينا من طرف السياسي اومن أصوات غربية علينا ان نساءل حقدنا وجهلنا لنخرج من لحظة البصر الى لحظة البصيرة اللحظة الاشراقية بتعبير المتصوفة.

عبقرية بختي بن عودة تجلت في قدرته على تفكيك الواقع والتنبوء بالمستقبل على اعتبار ان نفس الأسباب تؤدي دوما الى نفس النتائج وتكفي الإشارة هنا الى الرسالة التي كتبها الباحث عبد الناصر جابي والتي جاء فيها:"أهمّ خلاصة توصّلت لها، بعد هذه التجربة الطويلة من التّدريس والبحث، وهي خلاصة يُشاركني فيها الكثير من الزملاء. المستمرين في العمل لحدّ الآن. أن الجامعة الجزائرية، لم تعد قابلة للإصلاح. فقد فات وقت إصلاحها وإن أوضاعها ستزداد سوءًا مع الوقت. الاعتداء على الأساتذة والعنف داخل الحرم الجامعي على سبيل المثال، سيزداد ويتطوّر. لأن شروطه الموضوعية والذاتية، متوفّرة كلها في أغلبية المؤسسات ولو بدرجات متفاوتة. وإن المستوى التعليمي للطّلبة والأساتذة، سيتّجه نحو الأسفل بشكل أوضح، قابل للقياس، بالعين المجرّدة. لدرجة أننا لن نكون في حاجة إلى مقارنات دولية لقياسه. مختلف أشكال الفساد ستتطوّر. أسرة جامعية تتلمّس يوميًا كلّ هذه الأوضاع، دون أن تكون قادرة على فعل جماعي منظّم للقطيعة معه. تزداد حزنا كلّ يوم على ما آلت اليه أوضاعها في انتظار ان تغادر مثلي، كحل فردي، بعد أن فشلت الحلول الجماعية”. وهذه هي نفس الخلاصة التي توصل اليها بختي بن عودة في مقال له بمجلة التبيين العلوم الإنسانية في الجزائر في فوضى الدال ونكوص المعنى.

من الطبيعي حسب بختي بن عودة ان تهاجر النصوص والعقول بحثا عن الضوء وعن من يحتضنها ويمنحها وهج الحياة والحضور هجرة النص هي محاولة لاقتناص لحظة التحول التي يعيشها الفكر في العالم العربي وفي العالم الذي يحيط بنا المتوسط وما وراء المتوسط وهجرة النص فتحت لذة اختبار الممكن الفكري الجزائري لشباب يتوسمون السؤال المعرفي وإعطاء وجه جميل ومشرف للثقافة الجزائرية في غياب منابر جادة ومسؤولة منابر لا تعيد انتاج الرداءة التي سادت وتسود بعودة السلفي العنيف واللاهوتي المؤدلج المدمر لوعينا واخلاقنا وتراتبية قيمنا.

هجرة النص من خلال نموذج بختي بن عودة هي البحث عن إقامة ممكنة في العالم من خلال اللقاء بالأخرين بغيرية كريمة ومنصتة تحترم فيك تشوقك الى معرفة بديلة الى معرفة مقلقة ومدمرة تحترم فيك ابن الجزائر ابن الثورة الجزائرية وابن الاستقلال وهنا يجب ان نفرق ففي رسالة لأدونيس كتب لي قائلا:" تبدوا لي الجزائر بعيدة. بعيدة. بعيدة بعيدة ...كررها أربعة مرات وتفطنت الى ان هذه النظرة المربعة نتاج نظرة للثقافة الجزائرية على انها ثقافة مؤدلجة لذلك أشجع هجرة النص المختلف الى اصقاع واقاليم العالم عربيا وعالميا وعندما تتوفر الظروف الدنيا لانبثاق ثقافة المجلة او ما سماه عمار بلحسن رحمه الله عقل المجلة يمكن عندئذ ان نفكر في كيفية نص طبقا لما نرغب ونريد .

والحل عند بختي بن عودة هو العمل على خلق حركية ثقافية يحاول من خلال المثقف النقدي كسب السياسي وينصت فيها السياسي الى صوت المثقف :"اذا اردنا ان نقلب المعادلة علينا ان نفتح السوق الثقافية للمثقفين النقديين وتمكينهم من إرساء تقاليد ومن خلال المؤسسات والنشاط الجمعوي والتقاط نبضات العالم من خلال المجلات والكتب والجرائد والندوات والملتقيات واللقاء بالعلماء وكبار المفكرين وقلب المعادلة يجعل الحداثة ممكنة في الجزائر حداثة لها خصوصياتها والتي تحررنا من سلطة المشرق وخطابها المهيمن وقلب المعادلة ممكن من خلال ثلاثة مستويات مغاربية وعربية وعالمية وهناك نماذج استطاعت ان تفرض نفسها من خلال هذا الخيار مثل علي الكنز سامي ناير في فرنسا اركون نبيل فارس مالك شبل وعمار بلحسن"

قلب المعادلة مشروط بضرورة وضع العلوم الإنسانية في الواجهة ومشروط بحوار السياسي مع المثقف لصالح الجزائر وليس لصالح المراكز والأوليغارشيات فهناك بعض الملتقيات تعييد انتاج رداءة السبعينيات الا في حالات استثنائية والتي شهدت حضور عربي وأجنبي وعلى الدولة ان توفر الإمكانيات لعقد ملتقيات جادة لأن السياسي الذي لا ينصت الى المثقف هو سياسي اعمى مريض معطوب في لا وعيه وفي جسمه وفي توهمه امتلاك الحقيقة بدل الحقائق والسؤال الواحد بدل الأسئلة الكثيرة .

تحدث بختي بن عودة عن اللغة باللغة رغم ان الكلام على الكلام صعب ..اللغة القادرة على التفكيك والتفجير ..على الحفر والنبش في المسكوت عنه ...لغة لها سحرها تتمرد على كل ن يحول ترويضها او تحويلها الى قوالب جاهزة " انا لا أملك أي عقد اكاديمي قانوني او تشريعي مع اللغة المتصلبة المتخشبة اللغة التي تسرق ذاتيتي وتحيلني على الصمت الكسول وليس الصمت المتأمل علاقتي مع اللغة تحددت من خلال النصوص المدمرة في العالم مع نصوص المتصوفة في بعدها الكلاسيكي ونصوص المتصوفة في بعدها الحديث هي علاقة جد خاصة تفتح نصغها وماءها ودمها من للوحة كتبت فيها جسدي البريء امام كلام الله الوحي لوحة كنت انمقها وازخرفها لاقتطع واستجلب هبة او صدقة او دعوة خيرة بدأت علاقتي باللغة مع علاقتي باللاهوتي النظيف و غير المسيس المقدس الذي يفوق كل نص ضمن نظرية الاعجاز او ضمن نظرية النص بمفهومها الحديث هناك دلالية غنية ومتشعبة في النص القرآني ثم استتبع ذلك عمل على المستوى النظري جعلني حين اكتب اكتب بخلفية فكرية وتنظيرية لان النصوص الكبرى التي لازلنا نقراها الى اليوم هي تلك النصوص التي نلتمس فيها جسد النظرية جسد الوجه والالم الكوني وبالتالي انارة الدروب امام سلسلة من الاختلافات ومن الارجاءات علاقتي باللغة علاقة تشهي لا شهوة تلذذ لا لذة لان التلذذ صيرورة واللذة توقف ومعنى مغلق.

الفلسفة الحقيقة عند بختي بن عودة هي التي تكتب وفق عقل شعري مستشهدا بقول فردريك نتشه ان الفلسفة اما ان تكون شعرا أولا تكون ومنعطفا على مقولة فيليب لاكو لابارت :" ليست القضية ان نعرف اذا ماكان الفكر يتيح المجال للشعر ،بل هي انه عندما يفكر الفكر بشكل حقيقي وعميق ،افلايكون يكون شعريا بالضرورة " والتي سبق وان وظفها في مجلة الكرمل في مقال له عن حداثة الفكر ..عن أكاله .

تحدث بختي بن عودة عن جاك دريدا عن سؤال الاثارة والدهشة ورفض انغلاق الذات على ذاتها والتحرر من وهم تملك خطاب علمي صارم ونهائي وعن التحرر من هيمنة المشرق و النظر الى العالم بشغف وصبر وتأمل.

بختي بن عودة اكد ان الحداثة في الجزائر ممكنة عندما يصبح المثقف صاحب سلطة رمزية معنوية ثقافية أدبية حينها يستطيع ان يؤثر في السلطة السياسية يرج الأمكنة الهادئة والقنوعة للسياسي ويستدرج السياسي الى الانصات اليه واحترامه وتقديره. الحداثة في الجزائر ممكنة بشرط ان يتقاطع السياسي الناضج العاقل والمفكر مع المثقف النقدي في شراكة سبق وان تجسدت على يد الأمير عبد القادر الجزائري ومشروعه هو النموذج الوحيد الجدير بالتفكير والمساءلة.

والا ان تشرق شمس الحداثة في الجزائر يمكن العودة الى بختي بن عودة ...الى نص الليل ...الى السهر معه لعله يمنحنا قوة المعرفة وقوة الدال وعمق المدلول.

 

عمرون علي - أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

.............................

* بختي بن عودة: ناقد وشاعر وأستاذ جامعي جزائري. اغتيل عام 1995على يد الجماعات المسلحة في الجزائر . جمعت بعض مقالاته وأشعاره في كتاب بعنوان رنين الحداثة. صدر عن دار الاختلاف (1999)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم