صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الملك فاروق والرئيس حسني مبارك في محكمة التاريخ

محمود محمد عليأنا من الجيل الذي فُطر علي كراهية نظام الملك فاروق وحسني مبارك، فالملك فاروق كما كنت أتصور هو الذي أرسي سياسات الاقطاع والفساد فى مصر بسبب تكوين ثروته، وهو الذي ورث عن أبوه الملك فؤاد آلاف الأفدنة، وأنه ذلك الرجل الذي وصل في عهده عدد السكان فى مصر حوالى 18 مليون مصرى؛ حيث كانت للأسف ملكية الأرض الزراعية يمتلكها 280 شخص فقط كانوا يملكوا حوالى 6 مليون فدان، وأنه في عهده كذلك كان الاقتصاد المصري تحت سيطرة مجموعة من الإقطاعيين والأجانب، كان فيه 960 شخص هم المستحوذون على الوظائف فى الشركات الصناعية منهم 265 مصري والباقي من الأجانب، وأنه في عهده أيضاً كانت نسبة الأمية 80%  من الشعب المصري، وأن 45% من الشعب مرضى بالبلهارسيا.. وهلم جرا.؟

كذلك فى عهد الملك فاروق (وبالطبع أيضا في عهود الملوك السابقين عليه) كان المهمشون المستبعدون من الاشتراك في الحياة السياسية أكثر من 80٪ من السكان، إذ كان المشهد الديمقراطي الكبير، لا يشترك فيه أكثر من 20٪ من السكان، ويعمل لصالح نسبة أصغر بكثير هى نسبة ملك الأراضي الكبار الذين يتبادلون كراسي الحكم وتوضع لخدمة مصالحهم القوانين. كان هؤلاء يبررون هذا التهميش لغالبية السكان بقولهم إنهم، وهم الذين لا تزيد نسبتهم على 1٪ أو 2٪ من السكان، هم "أصحاب المصالح الحقيقية" فى البلاد، ومن ثم فهم الأجدر والأحق بإدارتها، وذلك حسب قول أستاذنا الدكتور جلال أمين في مقاله " أربعة عهود من الديمقراطية فى مصر".

ونفس الشئ يقال عن نظام حسني مبارك، فقد كنت اعتقد أن الشعب حين ثار عليه في 25 يناير 2011، وذلك لما اتسم به هذا النظام بالظلم والفساد والدكتاتورية، وتزوير الانتخابات، وإفساد التعليم، وانتشار الأمراض؛ وبالأخص فيرس سي، وتصدير فكرة الدولة الرخوة، وسيطرة الحزب الواحد ... إلي آخره من الأفكار التي شحنتها بداخلي كلمات وأفكار أستاذاي : الدكتور جلال أمين  والدكتور عبد الحليم قنديل عنه.

علاوة علي أنني من جيل نشأ بالفطرة علي حب الرئيس جمال عبد الناصر، ذلك الرجل العظيم الذي حول 23 يوليو من انقلاب إلى ثورة، يكفيه أنه أمم قناة السويس، وأنشأ السد العالي، وغير ذلك من مشروعات لا تنسي .

ولذلك بدأت أراجع نفسي كما راجع من قبل أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود أفكاره التي اعتنقها، حين كتب مقاله الشهير "قلم يتوب"، بجريدة الأهرام في أواخر التسعينيات، فأخذت أولاً أراجع نفسي في حق الملك فاروق، وذلك عندما أخذت أقرأ عنه من خلال كتابات ومقالات الدكتورة لميس جابر وحلمي النمنم .

وعندما راجعت نفسي في الرجل، وجدت نفسي في مقارنة بينه وبين الرئيس السابق حسني مبارك مع بعض الاختلافات، فالملك فاروق كان يمثل جزءً كبيراً من نجاح 23 يوليو 1952، كما كان مبارك جزءً عظيماً من نجاح ثورة 25 يناير 2011 .

أبدأ حديثي باستفاضة بالملك فاروق وبالذات فى سنوات حكمه الأخيرة (كما قال حلمي النمنم في مقاله عن الملك فاروق – المصري اليوم) حيث زهد الرجل فى الحكم أو يئس من مهمته، لأسباب عديدة بعضها شخصي وأسرى وإنساني، وبعضها يتعلق بالأوضاع العامة فى مصر وفى العالم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية والتحولات الدولية التي أدت إليها، لذا لم يكابر كثيرًا ولم يجادل فى التنازل عن العرش، حين طلب منه ذلك، والذى حدث أنه فى الصباح الباكر من يوم 26 يوليو 1952 سمع وهو فى قصر رأس التين بالإسكندرية طلقات رصاص تطلق عند بوابات القصر، وعرف أن مناوشات جرت بين الحرس الملكي وعدد من الضباط الأحرار، وسقط أحد جنود الحرس قتيلاً، فصرخ مطالبًا حرسه بالتوقف نهائيًا عن إطلاق الرصاص وقال "لن أكرر ثانية تجربة توفيق وعرابي"، كان فى ذهنه لحظتها ما حدث بين عمه الخديوي توفيق وأحمد عرابى وانتهى باحتلال الإنجليز مصر، وقبل أن يتنازل عن العرش وأن يخرج من مصر، كان مطلبه أن تؤدى له التحية العسكرية وهو يغادر وأن تطلق المدفعية له 21 طلقة، وأن يغادر مصر بزيه العسكري، وخرج، بالفعل، مرتديًا زى سلاح البحرية، وهذه معان لم تجد من يتأملها ويقدرها في الرجل وله، وفى كلماته الأخيرة مع اللواء محمد نجيب أوصاه بمصر وبالجيش المصري.

وحين وافق الملك فاروق صباح 26 يوليو على التنازل عن العرش (كما قال حلمي النمنم في مقاله السالف الذكر)، لم يكن مجردًا من عناصر القوة وأوراق الضغط، كان سلاح البحرية بالكامل معه ويسانده وكانت قطاعات لا يستهان بها من الجيش تؤازره، وتحمل الولاء له، باعتباره القائد الأعلى للجيش، ومع ذلك لم يناور ولم يساوم، كانت سلامة البلاد وقوة جيشها أهم عنده من كرسي العرش والمبيت فى القصر... وتوقع جمال عبدالناصر أن يناوئهم الملك من منفاه، أو أن يحاول السعي للعودة والقفز على السلطة، أو أن يتآمر ويتلاعب مع القوى الدولية والاستعمارية المناوئة لمصر، وكانت كثيرة وقوية، لكنه لم يفعل ولم يثبت عليه أي شىء من ذلك، كان يكره الإنجليز وهو في الحكم، وظل يكرههم بسبب احتلالهم بلاده.

أما بالنسبة لحسني مبارك فنجد أن الفساد الذي اتهم به وبسببه ثار الشعب المصري على حكمه، كان له عنه رؤية في سطوره الأولى "نعم عندنا فساد ولكنني أؤكد أنه أقل فساد من الدول الكبرى ولكنه لا يظهر.. وأي واقعة فساد عندنا تظهر وتكبر، لأننا دولة نامية ودولة صغيرة.. وكل الناس تقعد تتكلم فيها، ولكن الأساس هو أنه لا تهاون مع أي انحراف مهما كان حجمه"؛ طالما كان مبارك واثقًا، وكما كانت آخر كلماته الشهيرة داخل البرلمان "خليهم يتسلوا" حينما أُخبر عن رأيه في الدعاوي بالخروج في احتجاجات ضده، كذلك جاءت إجابته على صبري حين سأله عن رأيه فيما تنشره الصحافة العالمية والعربية ومهاجمته بكلمتين "خليهم يكتبوا".

وبرغم مساوئ حكم مبارك إلا أن له إيجابيات تذكر له لا عليه منها أنه فلم يطلق النار على المتظاهرين في ثورة 25 يناير، وآثر حقن دماء المحتجين بتنازله عن الحكم، حين أدرك أن مصر تعرضت لمؤامرة، فتنازل عن الحكم حقناً لدماء المواطنين ؛خاصة بعد أن رصدت أجهزت الأمن معلومات تشير بأن هناك اتفاقاً بين الإخوان المسلمين وحركة حماس لإسقاط النظام. وبالفعل تم ذلك ورأي بعينيه كيف سهل الإخوان المسلمون دخول عناصر الحرس الثوري الإيراني إلى داخل البلاد بجوازات سفر مزورة للمشاركة في أحداث يناير 2011. كما رأي بعينيه بأن هناك تحركات وصلت لمرحلة متقدمة لخطة أمريكا، واتصالات بين الإخوان وعناصر أجنبية ودورهم في محاولة إسقاط الأمن الداخلي والخارجي. وعندما أدرك أن الأمور خرجت عن السيطرة لم يفعل كما فعل بشار الأسد بشعبه حين سمح بإطلاق النار علي الثوار وانسحب بشرف مسلما السلطة للمجلس العسكري، ولكن طلب منهم إلا يسافر للخارج، كما فعل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وآثر البقاء في إقامته بشرم الشيح، وشاءت الأقدار أن يتحول الرجل من متهم إلي شاهد إثبات .

ولكن التاريخ لن ينسي أن الملك فاروق والرئيس حسني مبارك كلاهما عجزا تماما عن السيطرة، فأوشكت الدولة المصرية علي أن تصل إلي مرحلة الفشل، ولكن الله سلم بثورة 23 يوليو 1952، وثورة 30 يونيه 2013.

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم