صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الجاحظ وأخلاقيات الملك

محمود محمد علييعد الجاحظ (ت: 255م) من كبار أئمّة الأدب فهو إمام الأدباء في العصر العباسي الثاني، وهو "أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي" بالولاء الذي وُلد في البصرة سنة 159هـ بحسب بعض المؤرّخين، وسُمّي بالجاحظ لجحوظ عينيه، كما عمل جمالاً عند "عمرو بن قلع الكناني"، ومن صفاته أنّه كان حاد الذكاء، ذا جلدٍ وصرامةٍ وقدرةٍ على الكلام، وبديهة ورأي جيِّد، كما كانت له أساليب ومذاهب وآراء في الأدب واللغة خاصة به، ووضع طريقة بالإنشاء عُرفت باسمه، لذا اعتُبر قدوة المنشئين وإمامهم في ذلك العصر مثلما كان ابن المقفع إمامهم في العصر الأول.

وكان الجاحظ من أغزر المؤلفين إنتاجاً، فكتب عن الأدب والشعر والديانات والعقائد، والإمامة والنبوة، والمذاهب الفلسفية، وبحث في السياسة والاقتصاد والأخلاق وطبائع الأشياء، وتكلم عن العصبية وتأثير البيئة، ونظر في العلوم التاريخية، والجغرافية والطبيعة، فكتب في المدن والأمصار والمعادن وجواهر الأرض، والكيمياء والنبات والحيوان، والطب والفلك، والموسيقى والغناء وكتب في الجواري والغلمان، والعشق والنساء، والنرد والشطرنج، وغير ذلك مما يتناول الحياة الاجتماعيّة والأدبيّة والعلمية في عصره وقبل عصره.

وقد بدأ اهتمام الجاحظ بالسياسة، من خلال اتصاله بالسلطة العباسية في البصرة،؛ حيث ظل مترددًا على دار الإمارة في مناسبات عدة، ثم تعمقت علاقته بالسلطة لتبلغ شأنًا كبيرًا في خلافة المأمون، الذي أقام أول عهده في مرو -عاصمة إقليم خراسان، فكان الجاحظ بين الذين أنيط بهم إعداد الكتب والرسائل في موضوع الإمامة، فأنجزها وأودعها لدى الخليفة، ثم زاره مرات أخرى لمعرفة رأيه فيها .

وفي بغداد أصبح يتردد على بلاط المأمون ، ثم استكتب في هذه الأثناء في ديوان الرسائل، الذي لم يمكث فيه سوى ثلاثة أيام فقط ، على الرغم من الإشارات التي أفادت أنه تقلد خلافة إبراهيم بن العباس الصولي على هذا الديوان مرات عديدة.

واستمرت صلة الجاحظ بالسلطة العباسية حتى خلافة المتوكل، غير أن هذا الأخير لم يكن شديد الحماس لعلاقاته، ومن ناحية أخرى وثَّق الجاحظ صلاته برجالات الدولة الأخرين، ولا سيما الوزراء منهم، فأهداهم كتبه ورسائله ومصنفاته، فأجزلوا له العطاء بدورهم وأفاضوا عليه.

ولأهمية السياسة وضرورتها عند الجاحظ ألف فيها تسع كتب منها: كتاب (التاج في أخلاق الملوك) وأهداه إلى " الفتح بن خاقان" الذي اتخذه الخليفة العباسي المتوكل أخًا له (وقد قتل في نفس الليلة التي قتل فيها المتوكل)، وهو كتاب في الأدب والبلاغة للجاحظ يتحدث حول الدخول على الملوك، ومطاعمتهم، ومنادمتهم، وفي صفات الندماء وما يجب للملوك عند الرعية من حسن الأدب، في حالتي الهزل والجد، ولا يفوت الجاحظ، خلال ذلك، أن يذكر صنوفاً من الأحاديث، وألواناً من الطرائف، يستمدها من التاريخ العربي حيناً، ومن تاريخ الفارس أحياناً، متحدثاً عن أخلاق الملوك والشعوب، على اختلاف ديارها، محاولاً بعد كل حديث أن يضع الخطوط العامة، بصورة غير مباشرة، للأدب الاجتماعي الرفيع.

وقد ذكر الجاحظ في مقدمته لهذا الكتاب سبب تأليفه له. وهو تبيان كيف يتعامل الناس مع ملوكهم وكيف يتعامل الملوك مع رعيتهم، ومن ثم دار الكتاب في مختلف فصوله حول هذه القضية بغية إصلاح العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، والتي تمثل جوهر علم السياسية في أي زمان ومكان على أساس أخلاقي. لذلك تراه يركز على أن هدف الحكم هو إصلاح أحوال الرعية وأن أخطر مشاكله تسرب شهوة التسلط إلى الملوك.

ليس هذا فقط بل نراه يؤكد أنه من العدل أن يعطي الملك كل أحد قسطه وكل طبقةٍ حقها، وأن تكون شريعة العدل في أخلاقه كشريعة ما يقتدي به من أداء الفرائض والنوافل التي تجب عليه رعايتها والمثابرة على التمسك بها، وإيناس الناس في بسط أيديهم في الطعام، حتى يسوي في ذلك بين الملوك والنمط الأوسط والعامة.

ولم يكتف بذلك بل نراه يعلن  بأنه :" من قوانين الملك أن توضع بين يدي كل رجلٍ صحفة، فيها كالذي بين يدي الملك من طعام غليظٍ أو دقيقٍ أو حارٍ أو قار، ولا يخص الملك نفسه بطعام دون أصحابه، لأن في ذلك ضعةً على الملك، ودليلاً على الاستئثار .. وأنه ما شيء أضر على نفس ملكٍ من معاشرة سخيفٍ، أو مخاطبة وضيعٍ؛ لأنه كما أن النفس تصلح على مخاطبة الشريف الأديب الحسيب، كذلك تفسد بمعاشرة الدنيء الخسيس حتى يقدح ذلك فيها، ويزيلها عن فضيلتها؛ وكما أن الربح إذا مرت بطيبٍ، حملت طيباً تحيا به النفس، وتقوى به جوارحها، كذلك إذا مرت بالنتن، فحملته، ألمت له النفس، وأضر بأعلاقها أضراراً تاماً.. ما شيء أسرع في انتقال الدول، وخراب المملكة من انتقال هذه الطبقات عن مراتبها، حتى يرفع الوضيع إلى مرتبة الشريف، ويحط الشريف إلى مرتبة الوضيع.

ويستطرد فيقول :" من صنع مثل ما صنع إليه، فقد كافأ، ومن أضعف، كان مشكوراً، ومن شكر، كان كريماً، ومن علم أن ما صنع، فإلى نفسه صنع، لم يستبطيء الناس في شكرهم، ولا تلتمس في غيرك شكر ما أتيته إلى نفسك ووقيت به عرضك. وأعلم أن الطالب إليك الحاجة، لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن رده؛ وأنه " من الحق على الملك أن لا يجاوز بأهل الجرائم عقوبة جرائمهم. فإن لكل ذنبٍ عقوبةً. إما في الشريعة والنواميس، وإما في الإجماع والاصطلاح. فمن ترك العقوبة في موضعها، فبالحرى أن يعاقب من لا ذنب له. وليس بين ترك العقوبة، إذا وجبت، وعقوبة من لا ذنب له، فرق. وإنما وضع الله الملوك هذه المواضع الرفيعة، ليقوموا كل ميل، ويدعموا كل إقامة .

وثمة نقطة مهمة يعول عليها تتعلق بأخلاق الملوك الجاحظ هنا وهي :" من أخلاق الملك أن لا يمن بإحسان سبق منه، ما استقامت له طاعة من أنعم عليه، ودامت له ولايته، إلا أن يخرج من طاعةٍ إلى معصيةٍ، فإذا فعل ذلك، فمن أخلاقه أن يمن عليه أولاً بإحسانه، ويذكره بلاءه عنده، وقلة شكره ووفائه، ثم يكون من وراء ذلك عقوبته بقدر ما يستحق ذلك الذنب في غلظه ولينه؛ ومن أخلاق الملك السعيد أيضا أن لا يعاقب، وهو غضبان، لأن هذه حال لا يسلم معها من التعدي والتجاوز لحد العقوبة. فإذا سكن غضبه، ورجع إلى طبعه، أمر بعقوبته على الحد الذي سنته الشريعة، ونقلته الملة فإن لم يكن في الشريعة ذكر عقوبة ذنبه، فمن العدل أن يجعل عقوبة ذلك الذنب واسطة بين غليظ الذنوب ولينها، وأن يجعل الحكم عليه فيه، ونفسه طيبة، وذكر القصاص منه على بال؛ ومن أخلاق الملك كذلك إكرام أهل الوفاء وبرهم والاستنامة إليهم والثقة بهم والتقدمة لهم على الخاص والعام، والحاضر والبادي. وذلك انه لا يوجد في الإنسان فضيلة أكبر ولا أعظم قدراً، ولا أنبل فعلاً من الوفاء. وليس الوفاء شكر اللسان فقط، لأن شكر اللسان ليس على أحدٍ منه مؤونة.. من أخلاق الملك السعيد البحث عن سرائر خاصته وحامته، وإذكاء العيون عليهم خاصةً، وعلى الرعية عامة. وإنما سمي الملك راعياً، ليفحص عن دقائق أمور الرعية . ومتى غفل الملك عن فحص أسرار رعيته، والبحث عن أخبارها، فليس له من اسم الراعي إلا رسمه، ومن الملك إلا ذكره. فأما الملك السعيد، فمن أخلاقه البحث عن كل خفي ودفين حتى يعرفه معرفة نفسه عند نفسه، وأن لا يكون شيء أهم ولا أكبر في سياسته ونظام ملكه من الفحص عما قدمنا ذكره.. ومن أخلاق الملك، إذا دهمه أمر جليل من فتق ثغر، أو قتل صاحب جيشٍ، أو ظهور عدو يدعو إلى خلاف الملة، أو قوة مناوئ، أن يترك الساعات التي فيها لهوه، ويجعلها وسائر الساعات في تدبير مكايدة عدوه، وتجهيز جنوده وجيوشه، وأن يصرف في ذلك شغله وفكره وفراغه على مثل ما فعل من مضى من ملوك الأعاجم وغيرها، للتسويف والتمني وحسن الظن بالأيام نصيباً. فإن هذا عجز من الملك، ووهن يدخل على الملك.

ويختم حديثه فيقول:" ينبغي للملك السعيد أن يجعل المحاربة آخر حيله، فإن النفقة في كل شيء إنما هي من الأموال، والنفقة في الحروب إنما هي من الأنفس. فإن كان للحيل محمود عاقبةٍ، فذلك بسعادة الملك، إذا ربح ماله، وحقن دماء جيوشه. وإن أعيت الحيل والمكايد، كانت المحاربة من وراء ذلك. فاسعد الملوك من غلب عدوه بالحيلة والمكر والخديعة".

وأيضا من كتابات الجاحظ الأخرى غير الذي ذكرناه، كتاب "استحقاق الإمامة" الذي أكد فيه على أهمية الاجتماع البشري وضرورة وجود سلطة تحقق النظام ، كما أنه حذر فيه من وجود أكثر من حاكم لأن ذلك خطر على وحدة المسلمين .

ومن هذه الكتب أيضا نذكر كتابه "الحُجاب"؛ حيث يؤكد فيه على ضرورة النصيحة وأهميتها في استمرار النظام، ثم يناقش قضية "الحُجاب" وهي وجود حائل بشري أو مادي بين الحاكم وبين التواصل المباشر مع الرعية، وما ورد في النهي عنه من أحاديث نبوية شريفة، وأقوال السلف الصالح (رضوان الله عليهم)، لأن احتجاب الحاكم عن الرعية مقدمة لعدم العدل وتفشي الظلم، ومن ثم لا بد أن تكون واسطة التواصل بين الحاكم والرعية ذات شروط وصفات محددة حتى لا يتم حجب مصالح الرعية عن الحاكم. ويقتصر الحُجاب فقط على عملية تنظيم الدخول والخروج في ديوان الحكم. ومن الكتب العشرة التي ألفها الجاحظ أيضًا كتاب "السلطان وأخلاق أهله"، وكتاب "القضاة والولاة".

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم