صحيفة المثقف

عدنان حسين أحمد: هاتف الرّياح" للروائية اللبنانية مريم مشتاوي

عدنان حسين احمدنص سردي يدور في فَلَك الحُب الذي جاءبعد فوات الأوان

تلجأ مريم مشتاوي في روايتها الجديدة "هاتف الرّياح" الصادرة عن  المركز العربي للكتاب في الدار البيضاء إلى تقنية القصة الإطارية Frame story التي تتضمن قصة داخل قصة Story within a story أو عددًا من القصص داخل القصة الرئيسة التي تُهيمن على المَسار السردي كما في "حكايات ألف ليلة وليلة" و"الديكاميرون" لجيوفاني بوكاتشيو لكن مشتاوي ستُدخل قصة واحدة تتعلّق بطوني وروزا وتستفيد من بُعدها الميتاسردي الذي يُغذّي الثيمة المحورية بمعطيات جديدة تمنح النص نكهة إضافية مغايرة.

يساعد استرجاع النسق الخطّي المستقيم لـ "هاتف الرّياح" في فهم الشخصية المحورية مريانا التي ألْقتها الأم عند ولادتها بالقرب من سطل للنفايات، وقد عثرت عليها امرأة عجوز سلّمتها للشرطة وانتهى بها المطاف إلى مَيْتمٍ مظلم. وعلى الرغم من تداخل الأزمنة والاسترجاعات الذهنية  Flashbacks للبطلة إلاّ أنّ الإمساك بالنسق التصاعدي للأحداث ليس أمرًا صعبًا، فقد أحبّت مريانا راؤول الذي تصغره بسنةٍ واحدة، وهو فتىً أشقر الشعر تعرّض للاغتصاب من قِبل الأب جرمان وفارق الحياة، وقد قالوا "إنّ كلبًا هاجمه حتى الموت". وحينما شبّت عن الطوق أحبّت فتى متهورًا في بيروت "سرق براءتها برضًا تام". ثم وقعت في حُب رياض، وانجذبت إلى مداراته لكنه رفض أن يقترن بامرأة نشَأَتْ في ميتم وترعرعتْ فيه، ومع ذلك فقد قبِلت بعلاقة مؤقتة واستجابت لنداءات قلبها الغامضة، وظلّت تلاحقه في المستشفيات والمظاهرات ووجوه المارّة الذين يشبهونه في الشكل والهيأة والحركات. وأخيرًا تعرّفت إلى ليث وما إن اكتشفت غرابة أطواره حتى بدأت تُعامله بحذرٍ شديد وتنبو عن عالمه الخاص. أمّا العلاقة الجوهرية التي ظلّت مخبأةً فهي صداقتها الحميمة مع "صادق" الذي كان يكبرها بثلاثين سنة، وقد أهداها في عيد ميلادها الثلاثين كتابًا وطلب منها ألاّ تفتحه إلاّ بعد أن يغادر الحياة. وعلى الرغم من اعتقادها بأنّ هذه العلاقة لا تتجاوز حدود الصداقة إلاّ أنها اكتشفت في كتابه "كم أحببتها!" حجم الحُب الذي كان يكُّنهُ لها بغض النظر عن فارق السنّ الذي يحول بينهما. وأنّ قراءتها لهذا الكتاب سيعزّز المبنى الميتاسردي لهذه الرواية التي تتعالق في أكثر من موضع مع أشعار شكسبير، وأغاني فيروز، وبعض المقولات الفكرية والفلسفية التي تلامس ثنائية الوجود والعدم، وتستنفر أفكار الحُب والشجن والتماهي مع المحبوب الذي أدار ظهره لها متذرعًا بالتقاليد والأعراف البالية التي تُوصِم كل يتيمة بـ "بنت الحرام" التي لا أصل ولا فصل لها.

نَفَس بوليسي خفيف

لا تخلو رواية "هاتف الرّياح" من نَفَسٍ بوليسي خفيف وخاصة فيما يتعلق بالمرأة العجوز التي تظهر وتتوارى فجأة مثل حلم خاطف، تُرى، هل هي القديسة "ريتا" المتحدّرة من الاسم اللاتيني "مارجريتا" الذي يعني اللؤلؤة أم هي شبح يظهر ويتلاشى فجأة وكأنّ شيئًا لم يكن؟ لقد نجحت الروائية مريم مشتاوي في بناء شخصيات الرواية برمتها لكنها برعت كثيرًا في رسم معالم المرأة العجوز وجعلت منها لُغزًا لابدّ من من حلّه وهذا هو ديدن الكاتبة المحترفة التي تُمسك القارئ من تلابيبه، وتجعله يواصل القراءة بلهفة كبيرة حتى يصل إلى الحلّ الصادم، وتتكشّف الأمور أمام عينيه، ويعيد ترتيب الأحداث من جديد في ذاكرته التي تشتتت بفعل الأنساق السرديّة التي تقوم على تقنية التلميح والتصريح، والكشف والمواربة وما إلى ذلك من وسائل فنية تعزّز الحبكة الروائية، وتحاول قدر الإمكان الذهاب في المغامرة الشكلية والمضمونية إلى أقصاها. كما أنّ شخصية الراوية مريانا هي شخصيّة إشكالية ومستديرة حقًا وتنطوي على قدرٍ من التعقيد الاجتماعي والفكري والنفسي الذي يؤهلها لأن تكون حبيبة لصادق، ونظيرة له في الثقافة والعمق الفكري، فهو الذي اكتشفها، وعلّمها على التمرّد، ودلّها على عيون الكتب التي زوّدتها بالعلم والثقافة والمعرفة رغم أنها كاتبة وصحفيّة وتعمل في قناة فضائية وتُعدّ التقارير والريبورتاجات التي يطلبها مدير القناة. وإذا كان صادق يعيش برفقة دي أتش لورنس وأودِن وفرجينيا وولف وإليوت فإن مريانا لا تتورع عن ركوب المخاطر والأهوال وهي تسافر من لندن إلى بيروت المنتفضة من أجل الحرية، وتأكيد الذات، والعيش الكريم، فهي الأخرى شخصية مثقفة، وناشطة، ومناضلة تضع روحها على راحة يدها، وتهتف مع المتظاهرين بأنّ كل الساسة في بلدها فاسدين، وأتباع لا كرامة لهم مُذكِّرة إيّانا بالشعار المدوّي الجريء "كِلنٌ يعني كِلنٌ".

توسيع دائرة الأحداث

تُوسّع الروائية مريم مشتاوي دائرة الأحداث والشخصيات بمهارة كبيرة، ففي "ميتم الأمان" في بيروت نتعرّف على مربيتها إيفون التي قَدِمت مع سائق الضيعة العم أنور لاستقبالها في المطار ومرافقتها في السكن بفندق البريستول القريب من موقع الأحداث. وحينما تتحدث مريانا عن علاقتها بالمهندس رياض الذي رفض الاقتران بها لأسباب عائلية واجتماعية وأخلاقية لا تنسى الروائية أن تعرّفنا بكامل أسرته، فأمه وأخته تعيشان في باريس ولا تتردد الأم بزيارته في لندن كلّما دفعها الشوق، وحرّكها الحنين لابنها الذي لم تستقر مشاعره العاطفية بعد. كما نتعرّف على أخويه منصور وعبدالكريم اللذَين أنجبا خمس بنات وثلاثة صبيان، كما أصبحت شقيقته التي تصغره بسنة واحدة جدة، فلاغرابة أن يؤجل زواجه لخمس سنوات قادمة، ثم يقترن بامرأة أخرى بحجة إنجاب ولد قبل أن يتزوج من مريانا رغم معارضة الأهل برمتهم لكنه لم ينفِّذ هذا الوعد الذي قطعه على نفسه. وعلى الرغم من أنّ مريانا فقدت أثر رياض إلاّ أنها ظلت تبحث وتلاحق أخباره حتى أنها اضطرت لمجاراة ليث الكئيب، والمضطرب نفسيًا الذي اصطحبها إلى مستشفى القدّيس جوزيف لكن تبيّن أنّ الغرفة رقم 7 التي يقيم فيها رياض كانت مغلقة لمدة شهر بسبب الترميمات وليس هناك أي مريض يحمل هذا الاسم، فتُصاب مريانا بانهيار عصبي وتضطر لأن ترقد في المستشفى ذاته لمدة يومين حتى تلتقط أنفاسها، وتستعيد عافيتها من جديد. تنصحها الممرضة بأن تستعير كتابًا من مكتبة المستشفى فيقع اختيارها على كتاب "رجل يلاحق القمر" لجوبير حسن وفيه نتعرّف على قصة طوني الذي فقد عقله، وروزا التي تدهسها سيارة فتفقد القدرة على الحركة جرّاء العملية الجراحية في دماغها والتي سبّبت لها شللاً نصفيًا أقعدها عن الحركة.

2486 هاتف الريح

روافد تغذّي النهر الكبير

ثمة قصص جانبية تغذّي النص السردي وتشدّ انتباه القارئ إلى أنهار فرعية لكنها تصب في خاتمة المطاف في النهر الكبير للرواية ومن بينها قصة العمّ ميشال، عالِم الرياضيات، والإنسان الذي درس الطب والهندسة، وقدّم للناس خمسة ابتكارات وانتهى به المطاف في دار المسنّين بسبب خراب الدولة، وفساد المسؤولين، وسرقة مقدّرات الشعب اللبناني. أو قصة "بائعة المحارم"، المرأة الخرساء التي كانت توزّع المناديل مجانًا إلى المتظاهرين رغم أنها الوسيلة الوحيدة التي تعتاش منها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه القصة هي عراقية بامتياز وقد عرضتها شاشات التلفزة مئات المرات ولا أدري لماذ أدرجتها الروائية مريم مشتاوي في "هاتف الرّياح" بوصفها امرأة لبنانية؟ وثمة قصة ثالثة تتمحور على الرجل العجوز الذي يحاور جنديًا شابًا يتفهم حرقته، ويعرف ما يدور في أعماقه، ويخبره في خاتمة المطاف بعبارة مُقتَضبة شديدة الدلالة مفادها "أنا بأمرك!" التي تعني اصطفافه كجندي إلى جانب المتظاهرين، وتمرّده على أوامر الدولة القامعة. أمّا القصة الرابعة والأخيرة فهي قصة سمير، المواطن اللبناني الفقير الذي كان يعمل في منشرة تمّ إغلاقها ولم يستطع توفير الغذاء لأولاده والدواء لزوجته المُصابة بالسرطان. وحينما يشعر بالعجز الكلّي يعلّق مشنقة على الجدار ويشنق نفسه بصمت رهيب.

تقنية الإثارة والتشويق

تُعد "هاتف الرّياح" من الروايات الشائقة التي يتكشّف فيها غموض بعض الشخصيات التي منحت النص السردي بُعدًا بوليسيًا وأولها شخصية المهندس رياض الذي تعرّفنا عليه بواسطة خصلات شعره البُنيّة المربوطة إلى الخلف وقد تابعناه من خلال الرحلة الطويلة لمريانا مع ليث المضطرب نفسيًا وهو يصطحبها إلى المستشفى الذي زعم أن صديقه رياض يرقد فيه وقد تبيّن لنا في خاتمة المطاف بطلان إدعائه. ولكي تواصل الروائية مريم مشتاوي لعبة الإثارة والشدّ والتشويق تدفع شخصيتها الرئيسة مريانا لأن تسأل عن متظاهر لبناني اعتقلتهُ العناصر الأمنية وكان شعره مربوطًا إلى الخلف فيأتيها الجواب سريعًا: "إنه الثائر رياض!" لكننا كقرّاء لم نتيقّن من حقيقة هُويته. فهل ترك رياض عمله في لندن مؤقتًا وعاد إلى لبنان لكي يشترك في المظاهرات الحاشدة، ويظهر لنا بشخصية الثائر الذي غيّر قناعاته السابقة؟ إنّ مجرد الوصول إلى هذه النتيجة تبدو مُقنعة إلى حدٍ ما في معرفة مصير هذه الشخصية التي بدأ الغموض يلفّها في الفصول الأخيرة من الرواية. أمّا الشخصية الغريبة حقًا، والمثيرة للانتباه فهي شخصيّة المرأة العجوز التي تحمل السرّ الأكبر في النص السردي وقد شغلتنا بها الكاتبة على مدار الرواية وجعلتنا مُنْشدّين إلى إطلالاتها الخاطفة وهي تحمل مسبحتها اللؤلؤية المُلفتة للأنظار. لقد أجّلت مريم مشتاوي الكشف عن شخصية المرأة العجوز حتى الفصل السادس والأخير من الرواية حيث ظهرت أمام مريانا ثم توارت فجأة لكنها تركت المسبحة اللؤلؤية على عتبةٍ بيت قديم فوضعت المفتاح الذهبي، الذي سبق لها أن استلمته في علبة خشبية، في ثقب الباب فانفتح، وحينما دلفت إلى الدار  وجدت كتابًا يحمل عنوان "كم أحببتها!" وتبيّن أنّ مؤلفه صادق وقد أهداه إلى مريانا التي أحبها حُبًا جمًّا يقول فيه:"الحياة سفينة دون ربّان . . تتهادى بين أمواج وقت ميّت لا نعلم زمانه. طوبى لمن لم يركب السفينة". أمّا العجوز فهي أم صادق التي تحمل شبهًا كبيرًا بعجوز الكنيسة. وعلى الرغم من فارق الحُب الذي تشعر به مريانا بين أحبائها السابقين إلاّ أنّ حبها لصادق الذي تكشّف لاحقًا كبير لدرجة لا يمكن وصفها أو تخيّلها. دعونا نقتبس بعضًا مما كانت تشعر به:"لقد أخذ نصفي ورحل . . لم أكن أعلم أنّ حُبه لي كان رحبًا رحابة الأرض". ثم تمضي في البوح حينما تقول متسائلة:"كيف لي لم أُدرك وقتها كل هذا الحُب الذي كان يكُنّهُ لي؟".

تعالقات مع الأشعار والأغاني

ما يميّز "هاتف الرّياح" عن روايات مريم مشتاوي الأربع السابقات "عِشق" و"ياقوت" و"تيريزا آكاديا" و"جسور الحُب" هو كثرة الثيمات الرئيسة والثانوية ومن بين هذه الثيمات يمكن أن نشير إلى هذه الفكرة المهيمنة التي تقول فيها مريانا:"الحُب في نهاية المطاف كالقدر نُساق إليه من دون مشيئتنا". وحتى التعالقات التي تعقدها مع التماعات محددة من نصوص أخرى مثل الاقتباس الذي استعارته من ت. س. إليوت يصلح لأن يكون ثيمة ثانوية في أضعف الأحوال حين يقول:"لا يمكنني أن أحبّ امرأة لا تُحبّ الشعر . . فهذا يعني أنّ ذوقها رديء" في إشارة واضحة إلى تعلّق صادق بحب الشعر خصوصًا والأدب بشكل عام. لابدّ من الإشارة إلى ثيمات أخر تزدان بها الرواية من بينها ما قاله رياض:"لن يكتمل الحُب إن لم تنفخ المرأة عطرها في روح الرجل"،. أو ما قالته سوسن، صديقة روزا، وهي تقرأ مقطعًا شعريًا لشكسبير في مسرحية عُطيل يقول فيها:"لا تحاول أن تستمر في حياة لا تجد فيها مكانك. التقط روحك وطر بها إلى مكان آخر. قد يكون الأعلى الشفيف أو قد يكون المهوى السحيق. حاول أن تستمر في حياة تحضنك بدون وجع".

تسرّب المَحْكيّة إلى النسيج الفصيح

لا شك في أنّ لغة مريم مشتاوي فصيحة وعذبة ومنسابة لكنها تستعمل المحْكيّة أحيانًا أو تتسرّب إلى نصها السردي من دون وعي مثل كلمة "طابة" التي تعني بها "كُرة"، أو كلمة "شنطة" التي يقابلها في العربية "حقيبة" وكلمة "شنطة" çanta كما هو معروف تركية وتستعمل في الفارسية أيضًا. كذلك ترد كلمة نهر التيمزThames The في الرواية لكن المؤلفة تكتبها "التايمز" خلافًا للصيغة الصوتية المتّبعة لدى الإنكَليز. وهناك أخطاء إملائية في عدد من الكلمات من بينها "ساوث بنك" حيث كُتبت ثلاث مرات "سواث، وثاوث، وساوس" وهي منطقة تجارية وترفيهية معروفة في قلب لندن.

تنجح مريم مشتاوي في خلق حبكة روائية متميزة في هذه الرواية إلى الدرجة التي نلمس فيها قدرتها الكبيرة على التلاعب بالأزمنة سواء من حيث التداخل أو الاسترجاع الذهني أو الاستباق وما سواها من تقنيات زمكانية تُدلل على حِرفية الكاتبة التي تمزج بين التقنيات القديمة والحديثة. كما برعت أكثر في تطوير شخصيات نصها الروائي بطريقة ذكية تُغبَط عليها حقًا وخاصة فيما يتعلّق بمريانا ورياض وصادق والأم العجوز.

تُسجل مريم مشتاوي طفرة كبيرة في "هاتف الرّياح" عن رواياتها الأربع السابقات، وهي تكشف بشكل لا يقبل الجدل عن قدرتها السرديّة التي تتطور باطّراد. كما تكشف مضامين هذه الرواية عن طاقتها الفاذّة في تطعيم النص السردي بأفكار ومهمينات تجمع بين الفكر والشعر والفلسفة، ولا تجد حرجًا في مواجهة مَواطن الضعف لدى رجال الدين في المؤسسة الكهنوتية التي تُخلخل هي الأخرى منظومة القيم الأخلاقية في المجتمع اللبناني على وجه التحديد، وهو صورة مصغرة للعالم العربي والإسلامي برمته.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم