صحيفة المثقف

قاسم حسين صالح: انتفاضة أكتوبر / تشرين بين ثقافة التظاهر وثقافة الأستبداد

قاسم حسين صالحالواقعة..  توثيق موجز

في الثلاثاء، الأول من تشرين أول/اكتوبر 2019 انطلقت في المحافظات الوسطى والجنوبية تظاهرات كانت الغالبية فيها شباب دون سن الثلاثين سنة، فاجأت السلطة والشعب والمحللين السياسيين والمثقفين الذين كانوا على يقين بأن الأحباط اوصل العراقيين الى الياس والعجز من اصلاح الحال.وأكدت الأحداث ان هذا الحراك كان عفويا، واعتبر سابقةً ما حدثت في تاريخ العراق السياسي.. من حيث زخمه وحجمه وما احدثه من رعب في السلطة اضطرها الى استخدام القمع المفرط ضد المتظاهرين، شاركت فيه قوات سوات ومليشيات وقناصين على سطوح العمارات.

والمفارقة ان رئيس مجلس الوزراء السيد عادل عبد المهدي قام بالقاء خطاب مساء الأربعاء التاسع من تشرين اول، وصفناه في حينه بأنه خلطة من تناقضات في طبخة لا تؤكل، أكثرها مرارة انه اعلن الحداد على شهداء قتل معظمهم برصاص قوات هو قائدها، وتكريمه لقوات امنية بينهم قتلة ايضا!.. واعلانه للشعب العراقي بانه سيحيل فاسدين كبار خلال ساعات ولم يفعلها.والمفارقة الأقبح، ان الحكومة التي جاءت بعده كرّمته براتب تقاعدي لا يستحقه قانونيا ولا يستند الى اساس دستوري.

وفي خطبة الجمعة (11 تشرين اول 2019)، حمّلت المرجعية الدينية على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي، الحكومة العراقية مسؤولية اراقة الدماء، وامهلتها اسبوعين لكشف الجناة ومحاسبتهم.ومع ان خطابها هذا يعد الأول من حيث تضمينه تهديدا للحكومة وأحزاب السلطة، فان الرأي العام العراقي، باستطلاع اجريناه في حينه، توزع بين وعود على المرجعية ان تحققها، وبين من وصف الخطاب بانه تخدير و(أبر مورفين)، اومحاولة لأنقاذ موقعها بين الناس، وبين من رأى ان دعوتها هذه سوف لن تجد استجابة عملية من الذين يعنيهم الأمر.

مؤشرات عن انتفاضة تشرين

ما حصل في الفاتح من اكتوبر/تشرين اول 2019يعدّ الأجرأ والأخطر وغير المتوقع في تاريخ العراق السياسي، للخصائص الآتية:

ان غالبية المتظاهرين هم أشبال وشباب ولدوا ونشأوا في ثلاثة حروب خارجية كارثية: الحرب العراقية الايرانية وحرب الكويت وحرب امريكا، وحربين داخلية، واحدة طائفية(2006-2008)واخرى ضد داعش، وحصار لثلاثة عشرعاما، وانتقالهم فجأة في( 2003 و2004 ) الى نقيضها حيث الحرية والأنفتاح على العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومعايشتهم لما فعله الفيسبوك في الربيع العربي الذي كان له الدور البارز في اسقاط حكام عرب طغاة.. نكبوا بعدها بخيبات وقسوة فقر وبطالة.. جعلت داخلهم السيكولوجي اشبه بقدر ضغط على نار يغلي بالتناقضات.. لابد له أن ينفجر.. فانفجر!

فاجأ حجم التظاهرات وزخمها وغضبها وحقد جماهيرها، قادة احزاب السلطة والحكومة وشعروا بخوف حقيقي، واهانة اعتبارية.

كانت المطالب المعلنة للمتظاهرين: توفير فرص عمل للشباب وحملة الشهادات العليا، وتأمين الخدمات وتحسين الوضع الأقتصادي، فيما كانت في حقيقتها السيكولوجية تعبيرا عن انتقام استهدف أحزاب الأسلام السياسي الشيعي تحديدا، عبروا عنه باحراقهم لمقرات هذه الأحزاب.

فاجأت التظاهرات مثقفين عراقيين وعرب اشاعوا ثقافة التيئيس، كانوا على يقين بان الاحباط اوصل العراقيين الى حالة العجز التام.وفاجأت ايضا علماء النفس والأجتماع بما يدهشهم.. بل أنها خطّات نظرية في علم النفس تقول:اذا اصيب الانسان بالأحباط وحاول وحاول ولم ينجح، فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام.. فأطاح بها جميعها شباب ادهشوا العرب والعالم!.. واسقطوها في الخامس والعشرين بيوم جمعة (استعادة وطن).. متحدين الموت بصدور عارية وملاحم اسطورية ليسقط منهم ثلاثة وستون شهيدا التحقوا بـ(149) شهيدا، ليعبر عدد الضحايا حاجز الخمسمئة شهيدا وعشرين الف جريحا.

ثقافة الأستبداد

الهدف الرئيس لثقافة الاستبداد هو بقاء الحاكم في السلطة. وما حصل في الواقع العربي والعراقي يقدم لنا مفارقتين، الأولى: ان الثورت االعربية نجحت في اسقاط اشرس الانظمة الاستبدادية، لكنها لم تنجح في التخلص من ثقافة الاستبداد كسلوك، ولم تسقط بسقوطها. والثانية: ان ثقافة الاستبداد شاعت في العراق بعد (2006)، مع ان المبدأ الاساس للنظام الديقراطي هو تبادل السلطة سلميا.والأغرب انها صارت حاضنة لاعادة انتاج نظام بثقافة استبدادية اخطر، لأن قادة أحزاب السلطة عزفوا على اوتار الطائفية والمحاصصة والقومية، وبها استطاعوا جذب جماهير مغيب وعيها، وأخرى تدفعهم (سيكولوجيا الحماية).

لقد تحرينا اسباب شيوع ثقافة الاستبداد في النظام الديمقراطي!، فتوصلنا الى الآتي:

ان الأشخاص الذين كانوا في الخارج زمن النظام الدكتاتوري، واستلموا السلطة بعد(2003)، اعتبروا أنفسهم (ضحية).. ومن سيكولوجيا الضحية هذه نشأ لديهم الشعور بـ(الأحقية) في الأستفراد بالسلطة والثروة، معتبرين ملايين العراقيين في الداخل اما موالين لنظام الطاغية أو خانعين.. وأنهم، بنظرهم، لا مشروعية لهم بحقوق المواطنة.

شعورهم بـ(الأحقية) دفعهم الى اعتبار العراق ملكا لهم.. فتقاسموه واستفردوا بالثروة وعاشوا برفاهية على حساب (13) مليون عراقي، بحسب وزارة التخطيط، اوصلوهم تحت خط الفقر، واذلوهم.. مع ان عائدات النفط بلغت تريليون دولارا(الف مليار دولارا). وبحسب تصريح رئيس الجمهورية في (23 مايس 2021 ) فان 150 مليار دولار هرّبت خارج العراق.. وهذا المبلغ يكفي لبناء دولة خرجت من حرب كارثية ويعيش أهله برفاهية!.وهي ظاهرة أخرى غريبة ان يكون الفساد بهذا الحجم غير المسبوق عراقيا وعربيا.. والنظام ديمقراطي!

نجم عن هذه التفاعلات السيكولوجية (تضخم أنا) و(غطرسة) اسهمت في تحويل الحاكم السياسي الى مستبد.. ومنها تولدت لدى حكّام السلطة وقادة احزاب الاسلام السياسي قناعة بأنهم استعبدوا الناس روحيا، وانهم في حوارهم الداخلي يقولون لهم: تتظاهرون ضدنا، ترفوضننا، تشتموننا، تتهموننا بأننا نتحدث بالعدل ونحكمكم بالظلم، ونتباهى بالأمانة ونمارس الخيانة.. فانكم ستبقون تنتخبوننا لأننا سادتكم وقدركم المحتوم ولا ارادة لكم حتى لو سقناكم الى جهنم، ولا تملكون من وسائل الهرب سوى انكم تغادرون حزبنا هذا الى حزبنا الآخر!.

ثقافة التظاهر

يعدّ التظاهر سلوكا حضاريا سلميا يمارسه مواطنو البلدان الديمقراطية.. يحصل حين تخرج الحكومة او السلطات عن القانون او تتلكأ في تنفيذ فقراته، ليردعها ويجبرها على الالتزام بالقانون والدستور. ذلك ما يراه الخبراء السياسيون فيما يفضل علماء النفس والاجتماع السياسي مصطلح (الاحتجاج الجمعي) ويصنفونه الى نوعين:تمرّد غوغائي لمحرومين (رعاع او حثالة) يقعون في اسفل الهرم الاقتصادي للمجتمع، واحتجاج سياسي لأفراد من طبقات وفئات اجتماعية متنوعة تشعر بالمظلومية وعدم العدالة الاجتماعية.

وحديثا توصل العلماء المعنيون بدراسة سلوك الاحتجاج السياسي في الصين ودول اخرى الى ان السبب الرئيس لقيام الناس بالتظاهر ناجم عن الشعور بالحيف والحرمان والمظلومية وهدر لكرامة الانسان والآحساس باللامعنى والاغتراب، والشعور باليأس من اصلاح حال كانوا قد طالبوا بتغييره نحو الأفضل وما استجابت الجهة المسؤولة لمطالبهم. ونضيف بأن سلوك الاحتجاج بوصفه ناجم عن مظالم اجتماعية وعدم عدالة اقتصادية يؤدي الى قهر وضغوط نفسية تتجاوز حدود القدرة على تحمّلها.

وللتذكير، فان العراقيين كانوا يتظاهرون من عشر سنوات، ولكم ان تتذكروا يوم ارسلت (الخضراء) أحد (مناضليها) ليعطي الاوامر من على سطح العمارة المطلة على ساحة التحرير بقمع المتظاهرين في شباط 2011.

وللأسف فان القوى الأمنية، كانت معبأة بثقافة الأنظمة المستبدة.ومع انه لا يراد منها ان تتضامن مع محتجين مستلبين مطحونين في فعل سلمي يتظاهرون من اجل احقاق حق يخص شعبا ووطنا.. فان ما قامت به من تصرفات في (17 و 20 تشرين الثاني 2015) بالاعتداء على المتظاهرين بالضرب والكلام البذيء واعتقال اكثر من 25 منهم ما اساءوا الى احد، والطلب منهم التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في التظاهرات، وما تعرض له اھالي قضاء المدينة في محافظة البصرة في اثناء قيامهم بداية تموز (2018) بتظاھرة سلمية مجازة رسميا، وقيام قوات الامن بالتصدي العنيف للمتظاھرين بإطلاق النار بالرصاص الحي بشكل عشوائي نجم عنه استشهاد الشاب (سعدي يعقوب المنصوري).

ولم تستطع الحكومة الحالية الكشف عن قتلة المتظاهرين، وعجزت عن اطلاق سراح المختطفين، بدليل أننا قدمنا مذكرة في (9/ايار /2020) حملت تواقيع (232) شخصية وطنية تطالب باطلاق سراح الصحفي توفيق التميمي والناشر مازن لطيف.. ووعدت وما استطاعت.بل ان وضع احزاب السلطة اوصلهم الى قتل الناشطين (ايهاب جواد الوزني - مثالا) لتؤكد الأحداث بأن قياداتها تشبعت بثقافة الاستبداد، وأنها لا تريد ان تفهم ان الاحتجاج ليس تمرّدا على السلطة، ولا يهدف الى اسقاطها، وان ثقافتها في الزمن الديمقراطي ينبغي ان تتحول الى حماية المحتجين والحفاظ على سلامتهم. لكنهم لن يتغيروا، والسبب، ان ثقافة الاستبداد اوصلتهم سيكولوجيا الى انهم ان تخلوا عنها او تهاونوا فيها فان العراقيين لن يرحموهم.

خاتمة

ان المثقف الحقيقي ليس ذلك الذي يشيع الأحباط والناس في محنة، ولا الذي ينصب مآتم رثاء النفس وجلد الذات بتغريداته وأشعاره في طقوس عزاء ادمن عليها نفسيا، بل هو اشبه بالنبي.. يظهر حين تتردى الأخلاق ويشتد ظلم الناس مبشرا بالخلاص، ولدينا من هؤلاء الانبياء جمع كبير يتمتع بالجرأة والشجاعة بينهم من وضع كفنه على راحتي يديه متحديا فاسدين يمتلكون السلطة والثروة والقتلة.

ايها الأخوة.. ان عقد مؤتمركم هذا في المحنة التي يعيشها العراقيون والعرب، دليل على صحة مقولتنا بأن المثقف هو اشبه بالنبي.. يظهر حين تتردى الأخلاق ويشتد ظلم الناس، وأنكم انبياء هذا الزمان الذين يبشرون الناس بالخلاص عن يقين، بأنهم وأنتم ستحققون اليوم الذي سيعيش الجميع بكرامة في وطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش أهله برفاهية.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

..........................

* مقدم الى مؤتمر القمة الثقافي العربي الثاني 27/5/2021- ميسان.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم