صحيفة المثقف

عصمت نصَّار: حرية التأويل عند الجابري بين التحقيق والتفكيك

عصمت نصارلقد حرص "الجابري" في مقدمات وخواتيم مؤلفاته على الكشف عن أبعاد مشروعه النهضوي المزعوم، وقد بيّنا فيما سبق تهافت ذلك المشروع لعدة أسباب أهمها: سطحية معارفه، وهشاشة مناقشته لقضايا التراث، ومسايرته لغلاة المستشرقين دون أدنى تمحيص لأحكامهم واستدلالاتهم الكاذبة، وانتصاره لفلاسفة ما بعد الحداثة الذين لا يختلفون راديكالية عن أصحاب الأيديولوجيات والمذاهب المغلقة التي تحتكم إلى الذات في نقد الآخر، وتنتهج الشيفونية Chauvinism  في تبرير قناعاتهم وانتقاداتهم للفلسفات النسقية باسم الحرية.

أضف إلى ذلك عدم توقف "الجابري" عند نقض التراث بناء وبنية فحسب؛ بل أراد نقض المتون دون تحقيق وتأويل النصوص متجاهلاً ضوابط هذا المنهج وأصوله أيضا. وعلى رأس هذه النصوص التي أراد إعادة قراءتها بمنحى تفكيكي (الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة) مسايراً في ذلك أصحاب نظرية أنسنة الوحي الذين رفعوا شعار (اقتحم الكتاب المقدس بعقلك لأنه مكتوب من أجلك)، وذلك منذ أخريات القرن الثامن عشر في أوروبا: (حرر نفسك من أكاذيب الكهنة، ونصائحهم العتيقة التي وصفوها بالقداسة وتأويلاتهم المسيسة، اقرأ بعين ناقد دون حُجُب أو سلطات تقيد شعورك وعقلك).

وقد تأثر بالقول الأخير معظم التفكيكيين العرب من أمثال محمد أركون وذلك في كتابه (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني)، والشاعر اللبناني أدونيس(1930م) في كتابه (النَّص القرآني .. آفاق الكتابة). وغيرهم من الذين روجوا لمعتقد فاسد مفاده (القرآن نصُّ تاريخي يجب تأويله في ضوء ثقافة العصر واحتياجات البشر بغض النظر عن ضوابط تحقيق التأويل الشرعي، وثنائيّة الثابت والمتحول، وقطعي الدلالة، وعموم المقصد، وذلك تبعاً لفهم الأنا الواعي)؛ ولمثل ذلك ذهب معظم العلمانيين المعاصرين في الجزائر وتونس وسوريا ولبنان ومصر؛ فجميعهم رفض سلطة علوم القرآن، وتحقيق الحديث الشريف، وضوابط تأويل الوحي، وشرعية الأوامر الإلهيّة المحفوظة والمصانة من التحريف والاجتراء والتشكيك.

وعليه؛ فمن العسير الفصل بين موقف "الجابري" من التراث، وكتابات ما بعد الحداثيين التفكيكيين، فقد تأثر مفكرنا بنظرية (موت المؤلف) للناقد الفرنسي "رولان بارت" ( 1915م - 1980م )، والفصل بين المعنى والدلالة في قراءة المتون وتأويلها؛ فالمتلقي عند البنيويين هو: (المُبدع الحقيقي للنَّص - بغض النظر عن طبيعة المتن: أدبية، سياسية، دينية، وأن انطباعاته دون غيرها هي التي تحدّد المعاني والدلالات الكامنة وراء الألفاظ). وإلى مثل ذلك ذهب الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" (1930م - 2004م) والنقاد التفكيكيون الذين أضافوا على ما تقدّم أن جميع النصوص لا تخضع إلا لشعور القارئ ووعيه بمعانيها، ودلالاتها، ولا يقيّده في ذلك أو يحجر على حريته في تأويلها أي سلطة معرفيّة أو أيدولوجية أو ثقافية أو عقديّة؛ فالتأويل عند الأخير هو إعادة إبداع للنص، وفضح المستور، وكشف المخبأ من المفاهيم وإعادة توظيفها في البنية التي أقامها القارئ على أنقاض المتون التي قام بتفكيكها.

ومن ثم؛ فالتأويل عند "الجابري" جاء مُغايراً لمفهومه في الثقافة العربية؛ فهناك بعض المعاجم تخلط بين التفسير والتأويل فتجعلهما أولى درجات التحقق من المعنى والدلالة الحقيقية للنصوص، مصداقا لقوله تعالى: (هذا تأويل رؤياي) يوسف) (101) (ذلك خيراً وأحسن تأويلا) الإسراء (35)، وإلى مثل ذلك ذهب "ابن جرير الطبري" (839م -923م) استناداً على الثقافة التي أنتجت النص والمعنى الذائع بالتداول في أدبيات اللغة، والخطابات المتفق على معاني ودلالات ما تحتويه من ألفاظ وعبارات مباشرة كانت بلاغية أو رمزية.

ويفرّق البعض بين التأويل وغيره من الألفاظ ذات الصلة كالشرح والتفسير والإيضاح والتدبّر؛ فالتفسير: بيان وضع اللفظ إمّا حقيقة أو مجازاً. والتأويل تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الأول وهو الرجوع لحقيقة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد. والتفسير إخبار عن دليل المراد. التأويل لغة: مأخوذ من الأوْل، وهو الرجوع، قال "ابن منظور": (1232م - 1311م): "الأوْل: الرجوع، آل الشيء يؤول أوْلاً، ومآلاً: رجع.  وقال "أبو عبيد": التأويل: المرجع والمصير، والمقصود أن التأويل هو: (المعنى المباشر أو المفهوم الحقيقي أو الدلالة البلاغيّة أو المجازية التي يعبر عنها السياق)، بينما يرى "ابن تيمية" أن التأويل هو: حقيقة اللفظ المراد التعبير عنه ولاسيما في القرآن. ويضيف "الأصفهاني" (897م - 967م) أنّ التأويل لا يقف عند الألفاظ  وحسب؛ بل يتطرّق إلى المسائل والقضايا والقصص بغية إظهار وتوضيح المقصد الإلهي، بينما ينزع فريق من اللغويين إلى أن التأويل هو: الآلة الكاشفة عن معنى اللفظ الراجح والآخر المرجوح، وهو بهذا الإطلاق نوعان: صحيح وفاسد. ومن ثمّ؛ فالتأويل عند البعض هو بيان مدلول اللفظ بغير المتبادر منه لدليل. والمراد بالتأويل عند الجمهور (نقل ظاهر اللفظ عن وضعه في الأصل إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ، ويشترط في المؤول تحرّي الدقة في استخلاص المعنى، ولا يصح الإتيان بمعنى مناهض لمقصد الأصل، ولا يجري التأويل إلا في مُتشابه الآيات، ومستشكل المعنى. ومن ثم لا يجوز التأويل في الآيات المحكمات قطعيّة الدلالة. ولا يتصدى للتأويل إلا العلماء الذين يستنبطون معارف جديدة تتفق مع ثقافة العصر من جهة، وأصالة المقصد من جهة ثانية، ودرايتهم التامة بمقاصد الآيات في سياقها، والمقصد العام في إطلاقها من جهة ثالثة.

وحسبنا أن نشير إلى أن علماء التراث قد تناولوا قضايا التأويل ومشكلاته في القرآن والسّنة، وقد أسهبوا في أسباب الشطح والتجديف عند بعض الفرق الكلامية والصوفية والباطنية، والشروط التي يجب توافرها في المؤولين وذلك كله حماية للنص القرآني ومتون الأحاديث. نذكر منها (تأويل مُشكل القرآن) "لعبدالله بن مسلم بن قتيبة" (828م -889م)، وكتاب (اختلاف الحديث) "للأمام محمد بن إدريس الشافعي" (767م-820م)، و كتاب (تأويلات أهل السنة) "لعلم الهدى أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي" (853م -944)، (وكتاب (تأويلات القرآن) "لكمال الدين أبو الغنائم عبدالرازق بن جمال الدين أحمد الكاشاني" (نحو 1330م)، وكتاب (تحقيق البيان في تأويل القرآن) "للراغب الأصبهاني"            (نحو1108م)، وكتاب (التحقيق في أحاديث الخلاف) "لأبي الفرج عبدالرحمن بن على ابن الجوزي البغدادي الحنبلي" (نحو 1116م).

وقد تجاهل "الجابري" ومن نحى نحوه هذه المؤلفات التي تقطع بأن المنحى التفكيكي لا يجوز انتهاجه في التعامل مع الوحي، وما ثبت من الحديث الشريف، وأنّ الحرية التي ينادون بها في هذا المضمار سوف تمحو قداسة النص، وتجنح عن مقاصده الإلهية، ذلك فضلاً عن إهمالهم للمنهج العلمي في تحقيق المصنفات التراثية بوجه عام؛ بحجة أن أصول هذا المنهج وضوابطه في قراءة النصوص القديمة تحول بين القارئ ووظيفته الإبداعية في الفلسفات الما بعد حداثية.

وتناول "الجابري" قضية التأويل في الثقافة العربية في كتابه (بنية العقل العربي)، كما بيّنا؛ موضحاً أنه على الرغم من تباين التأويلات الفقهية والكلامية حول معاني ألفاظ القرآن، ودلالات ورودها في الآيات، ووضوح أو غموض مقاصدها في الحديث الشريف، كل ذلك يؤكد أهمية دور العقل في فهم القرآن.

والمُراد بالعقل في هذا السياق هو: فهم ما يعيه الفرد من تلاوته للآيات، وما يعمل به من أوامر ونواهي. وهو بطبيعة الحال مرتبط بالسياق البياني والثقافة السائدة في العصر. ولم يمنع ذلك القيد من وجود تأويلات تعتمد في قراءتها للنص على معارف تراثية، أو دلالات كشفية إلهاميّة عرفانية؛ الأمر الذي جعل تأويل النص نسبي تبعاً للأحقاب الزمنية والمشاعر والمدركات الذهنية. ومن ثم يجب على المفكر المعاصر رفض كل التأويلات القديمة أو مقاطعتها، وذلك لأنها تحول بين العقل والتفاعل مع النص لإنتاج معاني ودلالات جديدة. ويقول "الجابري" في ذلك:(إنّ ما ندعو إليه هو: التخلي عن الفهم التراثي للتراث، وعلى رأس هذه الرواسب القياس النحوي الفقهي الكلامي في صورته الألية اللاعلميّة التي تقوم على ربط جزء بجزء ربطاً ميكانيكاً، والتي تعمل بالتالي على تفكيك الكل وفصل أجزائه عن إطارها الزماني المعرفي الأيديولوجي. إنّ القياس بهذا الشكل، إذ يفصل الأجزاء عن الكل الذي ينتمي إليه ينقلها إلى كل آخر، وهو الحقل الذي ينتمي إليه المستعمل لذلك القياس، ممّا ينشأ عنه تداخل بين الذات والموضوع قد يؤدي إمّا إلى تشويه الموضوع وإمّا إلى انخراط الذات في غيرها انخراطاً غير واع، والغالب أن يحصل الاثنين معاً، وعندما يكون الموضوع هو التراث؛ فإنّ النتيجة هي اندماج الذات فيه. وشتان بين اندماج الذات في التراث شيء، واندماج التراث في الذات شيء آخر، أي أن يحتوينا التراث شيء وأن نحتوي التراث شيء آخر).

ويقترح "الجابري" قراءة النص القرآني قراءة عصرية لفض النزاع بين قراءة الذات الحرة والوحي الإلهي المقدّس تتمثل في ثلاث خطوات:

أوّلها: إجراء جدليّة حقيقية بين النص المقروء للتعرّف على ثوابته ومدى توافقها مع الذات القارئة التي ترمي إلى التجديد. وثانيها: ربط النّص ودلالاته الثقافية بالعصر الذي أنُتجت فيه.

وثالثها: الوقوف على مقاصد النص في ضوء احتياجاته الزمنية. ثم تقوم الذات القارئة عن طريق الحدس الشعوري الذاتي بالتفاعل مع النص المقروء شريطة أن تقوم الأولى بإعادة توجيهه وتحديد مقاصده تبعاً لرؤيتها الخاصة.

وأعتقد أن الحل الذي يقدِّمه "الجابري" في مشروعه لا يؤدي إلا إلى العبثية في قراءة النص القرآني. ويؤكد في الوقت نفسه أن مشروعه الوهمي مجرد محاكاة مشوَّهة لنهوج التفكيكيين في قراءة النصوص. فلو عاد "الجابري" للنقطة المركزية التي انطلقت منها كل مقولات التفكيكيين ألا وهي: (موت المؤلف)، لأدرك أن مشروعه أقرب إلى الهدم والتبديد منه إلى البناء والتجديد، واستوعب كذلك أن ألاعيب غلاة المستشرقين بترويجها لهذه النظريات النقديّة الأدبيّة في الثقافة الإسلامية، وتوجيهها صوب القرآن يؤكد عجزهم وفشلهم في الحملات التشكيكية في سلامة النَّص القرآني.

وإذا كانت هذه النهوج قد أثمرت في الثقافة الغربية خلال تعاملها مع النصوص التراثية، فإنّ القرآن وصحيح السنة لا يمكن اعتبارهما جزء من التراث؛ لأن الله مبدعهما حي لا يموت.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم