صحيفة المثقف

علي القاسمي: قراءة في كتاب: النحو العربي وعلاقته بالمنطق .. للأستاذ الدكتور محمود محمد علي (1-5)

علي القاسميتعثُّر حركة تطوير النحو العربي والكتابة العربية في عصر الانحطاط

1ـ 1. تمهيد:

تُطلِق معظمُ كتبِ تاريخِ الحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ مصطلحَ " عصر الانحطاط" على الحقبة الممتدة من سقوط بغداد سنة 656هـ/1258م إلى النصف الأوَّل من القرن التاسع عشر الميلادي، حينما أخذ العالم العربي يحتك بالثقافة الغربية عن طريق الاستعمار الأوربي والبعثات العلمية إلى أوربا وأمريكا. وقد اتَّسم عصر الانحطاط، الذي بدت إرهاصاته في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، بالركودِ الفكري، وتضاؤلِ البحث، ونزرة الإنتاج المعرفي، واقتصارِ التعليم على عددٍ محدودٍ من المراكز الدينية، وتحوُّل الفكر العربي من العقل إلى النقل ومن الإبداع إلى الإتباع، وأُغلِق باب الاجتهاد لدى الأغلبية، وساد التعصُّب الطائفي[1]، وأخذت دويلات الطوائف تحارب بعضُها بعضاً في المشرق والمغرب، ويتحالف بعضُها مع العدو.

. وفي عصر الركود والجمود هذا، تأثَّرت سلباً التنميةُ اللغوية التي انطلقت بعد بزوغ شمس الإسلام. فتوقَّفت حركةُ تطويرِ الكتابة العربية، وتعثَّرت دراسةُ أساليبِ اللغة العربية وتعرقلت، وتمحورت حول قراءةِ متونِ النحوِ ونظمها، وتلخيصاتها، وشروحها، وذيولها، وحواشيها، والحواشي على الحواشي، من أجل حفظ القواعد النحوية عن ظهر قلب[2].

وفي القرن الميلادي العشرين، عندما أخذت المدارس على النمط الغربي تنتشر في البلدان العربية، أدى ذلك الجمود الذي أصاب التنمية اللغوية، إلى ازدواجيةٍ أليمةٍ في الكتابة العربية، إذ احتفظ رجال المعاهد الدينية برسمٍ غيرٍ مكتملٍ للقرآن الكريم ورثوه من عصر الانحطاط، وأطلقوا عليه اسم " الرسم العثماني" وأضفوا عليه قدسية دينية؛ من دون أن يدركوا أنَّ (القرآن) هو كلام الله المسموع الذي ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[3] ، وأمّا (رسم القرآن) فهو صورة رمزية مرئية لذلك الكلام المسموع، يمكن تحسينها طبقاً لقدراتِ الرسّامِ اللسانيةِ والفنية وتبعاً لتطوُّر المعرفة في مجالِ الأنظِمة الرمزية والتقنيات الفنية للرسم. فـ (القرآن) هو كلام الله الذي أوحى به إلى رسوله الأمين (ص)، أمّا (المصحف)، فهو رسمٌ للقرآن أنجزه الناس. ولهذا نقول "رسم المصحف" تعبيراً عن كتابته التي هي رسم للقرآن المنطوق المسموع. ورسم المصحف ليس مقدساً إذ يمكن تغييره إلى الأفضل، فقد أُجرِيت تحسيناتٌ كثيرة على رسم المصحف عبر العصور. ولكن كلام الله في القرآن مقدَّس ثابت لا يجوز تغييره، بل يمكن تفسيره بشكل أفضل بتقدم العصر وتطوّر المعرفة. وهذا هو الفرق بين مصطلح (القرآن) ومصطلح (المصحف). فالقرآن قد يكون متلواً، أو مجوَّداً، أو مكتوباً. أمّا (المصحف) فهو القرآن مكتوباً. ولهذا فكلُّ مصحفٍ هو قرآن، وليس كلُّ قرآن هو مصحف.

لم يأخذ أولئك الانحطاطيون الذين تمسّكوا بفكر عصر الانحطاط، بالتحسينات التي طرأت على الكتابة العربية أثناء ذلك العصر وبعده، في كتابة المصحف، على حين يتعلَّم أطفال المدارس الحديثة في بلداننا العربية اليوم، كتابةً أخذت بتحسينات كثيرة طرأت على الإملاء العربي. فأمسى هؤلاء الأطفال يواجهون صعوبة في تلاوة القرآن الكريم؛ ما اضطر بعض الأساتذة إلى محاولة كتابة القرآن الكريم بالإملاء العربي الحديث ونشره على الشابكة تيسيراً لقراءته على طلابهم. وهذه مبادرة خطيرة النتائج، تستوجب اضطلاع اتحاد المجامع اللغوية العربية والأزهر الشريف والمراكز الدينية الأخرى، إلى الاتفاق على إملاءٍ موحَّدٍ في الكتابة العربية، لا سيَّما أنَّ بلدان المشرق العربي لا تزال تكتب كلماتٍ مثل " الرحمن " و " هذا" و " لكن" ناقصةَ الرسم، على حين أنَّ بلدان المغرب العربي تكتبها كاملة: "الرحمان"، "هاذا"، "لاكن"[4]. وقد يقول قائلٌ: إنَّ خطاطي المصحف يضعون ألفاً صغيرة مكان الألف الناقصة، مثل " لـٰكن"؛ نقول: إذن، لم تعُد تلك الكتابة رسماً عثمانياً كما يزعم بعضهم، إضافةً إلى أنَّها تعلِّم الأطفال التحايل، كما يخبرنا علم نفس الطفل.

ولا تجابه صعوبةُ ازدواجيةِ الكتابةِ العربية الأطفال العرب فقط، بل تجابه أيضاً جميع المسلمينَ، من الجبل الأسود والهرسك في قلب أوربا إلى ماليزيا وإندونيسيا في آسيا، الذين يتعلَّمون اللغة العربية الحديثة وكتابتها في المدارس ويقرؤونها في الصحف والكتب المطبوعة، ثمَّ يواجهون صعوبات في تلاوة المصحف الكريم.[5]

لقد بقي درس اللغة العربية تحت وطأة تقاليد النحو التي سادت منذ عصر الانحطاط. وتشكّى الناس من صعوبة النحو وتعقيداته. وتنادى علماء اللغة العرب لتبسيط النحو، وعزا بعضهم صعوبته إلى تأثُّر النحاة القدامى بالمنطق اليوناني، وخلطهم النحو بالمنطق، وهو رأي كان عالم اللغة الأندلسي المغربي أبو مضاء القرطبي (ت 592هـ/1196م) من أوائل الذين نادوا به[6].

وخلال القرن الميلادي العشرين، انبرى عددٌ من أساتذة النحو إلى تبسيط النحو وتيسيره. ولكنَّ معظم المحاولات انحصرت ـ مع الأسف ـ في الحذف والاختصار وإعادة ترتيب الأبواب النحوية والدعوة إلى استعمال طرائقَ تعليميةٍ جديدة ووسائل مبتكرة. ولعلَّ من بواكير الكتب المدرسية التي شاع استعمالها منذ الأربعينيات من القرن الماضي والتي حاولت تبسيط النحو بطرائقَ تعليميةٍ حديثةٍ، كتاب " النحو الواضح في قواعد اللغة العربية" من تأليف علي الجارم ومصطفى أمين[7] اللذَين استعملا الطريقة الاستنباطية، أي إعطاء الأمثلة من النصوص أولاً، واستنباط القاعدة النحوية منها. وكذلك كتاب " النحو الوافي " من تأليف الدكتور عباس حسن.[8]

وفي أواسط القرن الماضي صدرت كتبٌ نظريةٌ كثيرة تحمل عناوين مثل: "تيسير النحو"، أو "تجديد النحو" لعدد من علماء اللغة العربية مثل مصطفى السقا، وإبراهيم مصطفى، ومحمد مهدي المخزومي، وشوقي ضيف، وغيرهم.

وفي القرن العشرين صدرت كتبٌ أخرى عن تاريخ النحو العربي. وانقسمت آراء الباحثين حول نشأة النحو العربي على فريقيْن:

الأوَّل، تابع هذا الفريقُ من عرب ومستشرقين، المؤرِّخين الإسلاميّين الذين قالوا بنشوء النحو على أيدي المسلمين أنفسهم.

الثاني، شايع بعضُ الباحثين العرب والسريان والمستشرقين الرأيَ القائل بأنَّ النحو العربي نشأ متأثرًاً بالمنطق اليوناني، إمّا مباشرة أو عن طريق ترجمات السريان له.

وكثيراً ما تتلوَّن آراءُ الباحثين بخلفياتهم وانتماءاتهم وميولهم الفكرية، وقلَّما يستطيع الباحث أن يكون موضوعياً خالصاً.

وهذا الكتاب الذي نقرأه اليوم يبحث في هذه المشكلة " النحو العربي وعلاقته بالمنطق". وتعود أهمّية هذا الموضوع الذي يحتلُّ مكان القلب من " فلسفة اللغة"، إلى أنَّ جميع الفلاسفة الغربيِّين، من اليوناني أفلاطون (427ـ347 ق.م.) إلى الأمريكي نعوم تشومسكي (1928 ـ ) يدركون أنَّ اللغة هي تعبيرٌ منطوقٌ أو مكتوبٌ عمّا يدور في فكرِ الإنسان، وأنَّ تحليلَ اللغة ومعرفةَ كيفيةِ اشتغال ألفاظها وبنياتها للتعبير عن معاني الفكر، يساعدنا على فهمٍ أفضلَ لبنيةِ الدماغ وآليات اشتغاله.

1ـ2 . مؤلِّفُ الكتاب:

أحسبُ أنَّ قراءة أيِّ نصٍّ كان، هي عملية تواصلية بين مُرسِلِ النصَّ ومتلقّيه، وأنَّ استيعابَ مضامينِ أيِّ نصٍّ وفهمَ مقاصده ومراميه، يتيسران للقارئ بصورةٍ أفضل، إذا تعرَّف أوّلاً على كاتبِ النصِّ نفسِه، لأنَّ الكاتب عنصرٌ أساسٌ في العملية التواصلية. فالكاتب يُرسل مع النصِّ كثيراً من خلفيته التاريخية والجغرافية، وشيئاً من انتمائه الفكري، وبعضاً من ميوله النفسية، سواء أراد ذلك أم لم يُرِد.  ولهذا أبدأُ دائماً بالتعريف بمؤلّف الكتاب الذي أريد عرضه.

مؤلّف هذا الكتاب هو الأستاذ الدكتور محمود محمد علي الذي يُعَدُّ من أبرز المفكرين العرب المعاصرين، وأغزرهم إنتاجاً وعطاءً، وأكثرهم أصالةً وإبداعاً.

1ـ3. ميلاده ومدينته:

ولد مفكِّرنا، الدكتور محمود محمد علي، سنة 1966 في مركز مدينة (أخميم)، عاصمة محافظة سوهاج في صعيد مصر، التي تحوَّر اسمها من الاسم المصري (خَنت مِين)، إله الفلاحة لدى قدماء المصريّين. وتقع أخميم على نهر النيل جنوبي القاهرة بما يقرب من 391 كم (وتبلغ المسافة على طريق السيّارات أكثر من 468 كم وتستغرق بالسيّارة قرابة خمس ساعات). وهاذه المدينة من أقدم المدن المصرية وعامرة بالآثار الفرعونية؛ "وقد سُرِق العديد منها واشترك في سرقتها الكثير من أصحاب السلطات في مركز أخميم"[9] على حدِّ قول كاتب مادَّة أخميم في موسوعة ويكيبيديا. ولكثرة آثار أخميم، يوجد فيها متحفٌ فرعونيٌّ مكشوف، يزيّنه تمثال جميل للأميرة مِريت أمون، ابنة رمسيس الثاني، وهو أعلى تمثالٍ كاملٍ لملكةٍ أو أميرةٍ مصريةٍ قديمةٍ، إذ يبلغ طوله ثلاثةَ عشرَ متراً.

1ـ4. دراسته:

حاز المؤلِّف الليسانس في الفلسفة سنة 1988 في كُلِّيَّة الآداب في سوهاج التي كانت تابعة إلى جامعة أسيوط (وهي رابع جامعة تؤسَّس في مصر بعد جامعات القاهرة والإسكندرية وعين شمس، إذ بدأ مشروع إنشائها سنة 1947 وافتُتحت رسمياً سنة 1957 في مدينة أسيوط عاصمة محافظة أسيوط التي تقع شمال محافظة سوهاج). ونال المؤلّف الماجستير بتقدير ممتاز في الفلسفة من الكُلِّيَّة ذاتها سنة 1992، برسالته المعنونة " المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول في ضوء المنطق الأوربي الحديث". وفي سنة 1995 نوقشت أطروحته للدكتوراه وعنوانها " المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة" وأُجيزت بمرتبة الشرف الأولى في كلِّيَّة الآداب ذاتها التي صارت تابعة لجامعة جنوب الوادي آنذاك.

ومن عنوانَي رسالتَيه الجامعيَّتَين، ندرك أنَّ الرجل ملمٌّ بالمنطق: قديمه وحديثه، يونانيّه وإسلاميّه وأوربيّه.

1ـ5. عمله الأكاديمي:

يشغل المؤلِّف الفاضل حالياً منصبَ رئيسِ قسمِ الفلسفة ورئيس مركز دراسات المستقبل في كلية الآداب بجامعة أسيوط في مدينة أسيوط، بعد أن انتخبه زملاؤه الأساتذة، سنة 2012، لرئاسة القسم، وهو منصب أكاديميٌّ رفيع. وكان في بداية ذلك العام قد ترقّى إلى مرتبة أستاذ في الجامعة.  ولاكنَّه قبل أن يصل هذه المكانة الجامعية المرموقة، كان قد مارس التدريس الجامعي في عدّة جامعات. فبعد حصوله على الدكتوراه سنة 1995، التحق بجامعة حلوان قرب مدينة القاهرة، ليدرِّس المنطق وفلسفة العلوم في قسم الفلسفة في تلك الجامعة حتى أوائل سنة 1997، ثمَّ انتقلَ أستاذاً مساعداً في جامعة أسيوط. وفي سنة 2007، انتُدِب ليتولّى منصبَ رئيسِ قسمِ العلومِ السلوكية في جامعة السابع من أكتوبر في مدينة بني وليد في ليبيا. وعاد إلى جامعته ليتدرَّج في رتب الأستاذية حتّى يُصبح برتبةِ أستاذٍ في أوائل سنة 2012.

إنَّ هذا التنوّع في أماكن العمل الجامعية، وفي الموادِّ التي يضطلع بتدريسها، وفي اللجان الأكاديمية التي يشارك في أعمالها، والرسائل والأطروحات التي يشرف عليها أو يشارك في مناقشتها، والدعوات المختلفة التي تصله من كثير من الجامعات العربية لتقييم أعمال أعضاء الهيئات التدريسية لغرض ترقيتهم، أو من المجلات الأكاديمية لتقييم البحوث المرشحة للنشر فيها؛ جميع تلك الفعاليات التي ينشط فيها بكل اقتدار، وسَّع مجالات عمله واطلاعه على ما يثير اهتمامَ زملائِهِ الجامعيّين وطلابه الباحثين من قضايا ومشكلات.

1ـ6. إنتاجُه المعرفي في مجال تخصُّصه:

يصف الدكتور محمود محمد علي (أبو مصطفى) تخصُّصَهُ العامَّ بـ (الدراسات الفلسفية)، وتخصُّصَهُ الدقيقَ بـ (المنطق وفلسفة العلوم ومناهج البحث والابستمولوجيا).

وهذا الوصف للتخصُّص العامِّ والخاصِّ يصدق على الإنتاج العلمي لأبي مصطفى الذي يغطّي مجالاتٍ معرفيةً عديدةً تشملها عبارة "الدراسات الفلسفية". فالفلسفة مشتقَّة من اللفظ اليوناني φιλοσοφία (فيلو سوفيا) الذي يعني حرفيا (حبَّ الحكمة)[10]، ويشمل البحث في  الوجود والمعرفة والقيم والعقل والاستدلال واللغة؛ وبعبارة أخرى: كلّ شيء. فالوجود يشمل الكون كله، والمعرفة تشمل جميع المجالات التي نعرفها أو نبحث لمعرفتها.

وفي ضوء هذا التعريف للفلسفة، وفي ضوء تنوّع البحوث التي يجريها الدكتور محمود، نستطيع القول إنَّه فيلسوفٌّ حقيقي يعشق الحكمة بكلِّ جوانحه ويبحث في أمورٍ كثيرةٍ في مجالاتٍ مختلفة: من علاقة النحو بالمنطق إلى مفاوضات سدِّ النهضة بين إثيوبيا والسودان ومصر. وتُعدُّ مؤلَّفاته المطبوعةُ المنشورةُ بأكثر من ثمانين كتاباً وبحثاً[11]، وتتوزَّع على جميع مجالاتِ تخصُّصه المذكورة في أعلاه. ولنضرب بعض الأمثلة من كتبه المنشورة على ذلك:

في مجال مناهج البحث :

كتاب " الاتجاه التجريبي عند ليوناردو دافنشي" (1999)

في مجال تاريخ العلوم:

كتاب " الأصول الشرقية للعلم اليوناني" (1998)

في مجال فلسفة العلوم:

كتاب " دراسات في المنطق المتعدِّد القيم وفلسفة العلوم" (2012)

في مجال السياسة قديمها وحديثها:

كتاب " تطور الفكر السياسي الإسلامي منذ الينابيع حتى أواخر القرن التاسع الهجري" (2017)

وكتاب " حروب الجيل الثالث ونظرية تفتيت الوطن العربي" (2017).

وكتاب " أوباماً ونظريته في تغيير الأنظمة العربية تمهيداً للربيع العربي" (2019).

وينبغي الإشارة إلى أنَّ أيَّ كتابٍ من كتبه لا يقتصر على مجالٍ معرفيٍّ واحد، وما ذكرناه مجرَّد أمثلة؛ فالدكتور محمود (عالمٌ مشاركٌ)، كما كان علماؤنا القدماء يسمون الأفذاذ النوادر منهم، أي (عالمٌ موسوعيٌّ)، بالمصطلح المعاصر. فكتابه ليس مثل رافد أنتجه ينبوع واحد، بل مثل بحيرة بين جبال عملاقة تصب فيها روافدُ متعدِّدةٌ قادمةٌ من ينابيعَ وعيونٍ جبليّةٍ مختلفة. فأنتَ تجد في الكتاب الواحد أصولَ الفلسفة، والمنطق، ومناهج البحث، وتاريخ العلم، وفلسفته، وأهدافه، واتجاهاته، وغيرها من المعارف. ففكْرُ الرجلِ زاخرٌ بشتى العلوم النافعة، وينطبق عليه المثل (وكلُّ إناء بالذي فيه ينضح)[12].

وبالإضافة إلى ميزتَي الدقَّة العلمية والتنوُّع المعرفي، فإنَّ الدكتور محمود يتحلّى بغزارة الإبداع والإنتاج والعطاء. ففي بداية سنة 2012 صدرت له خمسة كتب قيِّمة ومن دار نشر واحدة هي:

ـ " منهج البحث في تراثنا العربي"،

ـ " التفكير العلمي ومستجدات الواقع، قضايا وإشكالات"،

ـ " دراسات في المنطق المتعدد القيم وفلسفة العلوم"،

ـ ستيفن تولمان. "البصيرة والفهم: دراسة في أهداف العلم" ترجمة محمود محمد علي.

ولهذا النشاط كله، لا غرو أن ينال الدكتور محمود في أوائل سنة 2012 ترقيته الجامعية من أستاذ مشارك إلى رتبة أستاذ، وينتخبه زملاؤه الأساتذة، بعد بضعة أشهر في تلك السنة، رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة أسيوط، كما مرَّ بنا.

ويلفت الكتابُ الأخير انتباهنا إلى أنَّ الدكتور محمود لا يزاول تأليف الكتب فحسب، وإنَّما يترجم بعض الدراسات الهامَّة لمشاهير الفلاسفة والمفكِّرين كذلك، مثل ترجمته لدراسة " ليوناردو دافنشي: العلم والفن" من تأليف العلّامة البلجيكي الأمريكي المُستعرِب المؤرِّخ الكيميائي الصيدلي الفيلسوف جورج سارتون (1883ـ1956)، صاحب كتاب " تاريخ العلم "[13] الشهير؛ وكذلك ترجمته لدراسة " مكانة ليوناردو دافنشي في ظهور العِلم الحديث" للمؤرِّخ الفيلسوف الأمريكي الشهير جون هيرمان راندال (1899ـ1980)، الذي تصعب ترجمةُ أعماله لغزارة علمه وكثافة المعارف التي يسوقها في أبحاثه. فهو صاحب الكتاب المشهور" تكوين العقل الحديث"[14] الذي تُرجم إلى عدد من اللغات العالمية. ويقول عنه مترجمه إلى اللغة العربية المترجم الكبير الدكتور جورج طعمة (1922ـ20044) الحاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة جورج تاون الشهيرة في واشنطن دي. سي.:

" لقد كان نقلُ هذا الكتاب للغة العربية رحلةً شاقةً في عالَم الفكر والثقافة والحضارة. ولكنّها رحلة ممتعة دون ريب."[15] .

ولهذا يمكن القول إنَّ الدكتور محمود محمد علي هو منطقي، فيلسوف، مؤرِّخ، تربوي، مترجم. بيدَ أنَّ المنطق له مكانته الأثيرة لديه ويحتلُّ الأولوية في دراساته. فنحن نجد أن لفظ " المنطق" ومشتقاته، يظهر في عنوان رسالته للماجستير " المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول في ضوء المنطق الأوربي الحديث" (1992)، وفي عنوان أطروحته للدكتوراه  " المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة" (1995)، وفي عناوين عددٍ من كتبه مثل كتابه " العلاقة بين المنطق والتصوّف في تراثنا الفكري" (1999)، وكتابه "المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية " (2013) ، وكتابه موضوع هذه القراءة " النحو العربي وعلاقته بالمنطق" (2016).

وظهر لفظ المنطق ومشتقاته في عدد من عناوين بحوثه المنشورة، مثلاً: في بحثه " "موقف المناطقة الرياضيّين من القضية الحملية" (1998)، وفي بحثه " الاستدلالات المنطقية في طوبيقا شيشرون" (1999)، وفي بحثه " إرهاصات النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري الرواقي" (2001) ، وفي بحثه " تطور الاستدلال في المنطق الهندي" (2004).

ومَن يُمعِن النظرَ ويُعمِل الفكرَ في عناوين هذه الكتب والبحوث، يكتشف بسهولةٍ أنَّ مؤلِّفها الكريم أحاط بالمنطق إحاطة الخاتم بالإصبع، كما يقولون، فقد تناوله تاريخياً وجغرافياً وموضوعياً.

1ـ7. إنتاجه الفكري في مجال السير والتراجم:

وأخيراً وليس آخراً، للدكتور أبي مصطفى اهتمامٌ خاصٌّ بكتابة السير والتراجم، وهو فنٌّ عربيٌّ  قديم كان في الجاهلية شفويّاً يُعنى بسردِ حياةِ الشعراء المشهورين وذكرِ أشعارهم وأخبارهم ورواية أيام العرب، أي معاركهم وحروبهم. وبعد ظهور الإسلام وانتشار الكتابة دُوِّنت سيرةُ الرسول (ص)، ثمَّ تكاثرت الكُتب التي تتناول تراجم وطبقات الشعراء والمُحدِّثين والفقهاء والأطباء وغيرهم. ومما يؤخَذ على تلك الكتب أنَّ أصحابها لم يتناولوا أفكارَ المُترجَم لهم بالنقد والتحليل والتعليل.  وفي العصر الحديث اهتمَّ بهذا الفنِّ الماتع عددٌ من كبار الأدباء مثل طه حسين في سيرته الذاتية " الأيام"، وعباس محمود العقاد في سِيَره الغيرية "العبقريات"[16] وطوروه.

ونجد هذا الاهتمام لدى الدكتور محمود محمد علي، فقد اطلعتُ مؤخَّراً على عدَّة مقالات له في السيرة الغيرية، نشرها في "صحيفة المثقف"، تناولت عدداً من المفكرين المعاصرين في مختلف المجالات العلمية، ينتمون إلى بلدانٍ عربيةٍ عديدة. وأضرب فيما يأتي أمثلة من الأعلام الذين تناول سيرهم بقلمه الساحر:

الأعلام

التخصُّص الرئيس

القطر

المهدي المنجرة

علم المستقبليات

المغرب

جبرا إبراهيم جبرا

الأدب / الفن

فلسطين ـ العراق

عبد الواحد لؤلؤة

الترجمة / النقد الأدبي

العراق

حسين سرمك حسن

الطب النفسي/ النقد الأدبي

العراق

ميثم الجنابي

الفلسفة/ التاريخ

العراق

علي أسعد وطفة

علم الاجتماع

سورية

جورج طرابيشي

الفلسفة

نسوية

ماجد فخري

الفلسفة

لبنان

سهير عبد السلام

الفلسفة

مصر

إبراهيم بيومي مدكور

الفلسفة

مصر

هاني الجيار

الفن التشكيلي

مصر

نوبي محمد حسن عبد الرحيم

الهندسة المعمارية

مصر

حسن طلب

الشعر

مصر

مصطفى النشار

تاريخ الفلسفة

مصر

عبد العزيز الطنطاوي

الجيولوجيا

مصر

صلاح فضل

النقد الأدبي

مصر

هذه مجرَّد أمثلة من السِيَر التي أطلعتُ عليها شخصياً، ويظهر فيها جلياً تعدَّد المجال المعرفي، وتنوع الانتماء القطري للأعلام الذين تناولهم الباحث الفاضل. وإذا كان يغلب على هؤلاء الأعلام، تخصُّصُهم في الدراسات الفلسفية، وانتماؤهم لمصر، فإنَّ ذلك أمرٌ طبيعيٌّ، لأن جميع الكتّاب يتأثرون بميولهم الوطنية والفكرية، ويسهل عليهم الكتابة عمَّن هم أقرب إليهم مكانياً وموضوعياً.

كما اطلعتُ ـ وأنا أعدّ هذا المقال ـ على رسالة من فالدمير بيلوف رئيس تحرير مجلة الفلسفة التي تصدر باللغة الإنجليزية في " الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب"[17] في موسكو، موجَّهة إلى مَن يهمُّه الأمر، يشير فيها إلى أنَّ مقالة " منصور فهمي، رائد الحركة النسوية الإسلامية في مصر الحديثة" لكاتبها الدكتور محمود محمد علي، ستُنشَر في مجلة الفلسفة، في المجلد 25، العدد 2 لسنة 2021.[18]

1ـ. 8. اهتمام المؤلّف بالقضايا السياسية الراهنة:

للدكتور محمود عشرات المقالات التي تتناول القضايا السياسية الراهنة بالتحليل والنقد وإبداء الرأي، تماماً كتلك التي يكتبها كبارُ المحلِّلين الصحفيّين المتخصِّصين. ولم تجد هذه المقالات طريقها إلى سيرته العلمية المنشورة في موقع أساتذة جامعة أسيوط. وفيما يأتي أمثلة من عناوين هذه المقالات التي نُشِر بعضها في "صحيفة المثقف":

ـ لماذا اختار جو بايدن هاريس نائبة له؟

ـ اقتصاد المعرفة ودوره في تعافي الدولة المصرية،

ـ الإخوان المسلمون والخنزير الأحمر،

ـ حروب المياه والصراعات القادمة في الشرق،

ـ لماذا تصرُّ إسرائيل على التطبيع مع السودان.

ـ حوار الأديان، كيف نفهمه؟

ـ لماذا اندلعت الحرب الأهلية في إثيوبيا؟

ـ الأبعاد الحقيقية بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ.

وعندما كنتُ أقرأ مقالات الدكتور أبي مصطفى السياسية، استولت عليَّ الدهشة وسيطر عليَّ العجب لكثرة المراجع المتنوِّعة، غربيةٍ وعربيةٍ، موضوعةٍ ومترجمةٍ، التي يكدِّسها ببراعةٍ في كلِّ مقال، وتساءلتُ في نفسي: كيف يستطيع هذا الرجل ـ وفقه الله ورعاه ـ الرجوع إلى جميع تلك الكتب والمقالات، وتدوين الاقتباسات منها. بالإضافة إلى إبدائه الرأي الصائب في إشكاليّات الموضوع، مع الحيادية التامة والموضوعية العلمية اللتين يلتزم بهما. كنتُ أتساءل ما إذا كانت الجامعات المصرية قد بلغت شأوا عالياً من الرفاهية الأكاديمية بحيث يستطيع كلُّ أستاذ أن يختار عدداً من طلبة الدراسات العليا فيعيّنهم مساعدِين له للبحث، أو التدريس، أو تصحيح أوراق امتحانات الطلاب، كما هو الحال في الجامعات الأمريكية الكبرى. وقد عملتُ شخصياً مساعدَ بحث لأحد الأساتذة عندما كنتُ طالبَ دكتوراه في جامعة تكساس في أوستن، قبل عصر الشابكة. فكان الأستاذ يخبرني بموضوع البحث الذي يشتغل عليه وخطته، ويوجهني بجمع المصادر له والتأشير على الاقتباسات التي تتعلّق بموضوع بحثه. ثمَّ يتولّى الأستاذُ تحريرَ البحث واختيار الاقتباسات المناسبة وإدراجها في المواضع المناسبة.

1ـ9. أسلوب الكاتب ولغته:

نظراً لتمكُّن الدكتور محمود من المنطق واللغة وممارسته التعليم، فإنَّ إسلوبه يتسم بالوضوح والبلاغة والسلاسة. والوضوح ثمرة تمكُّن الكاتب من ترتيب أفكاره، وتصنيفها وتسلسها بشكل منطقي، وصبّها في تراكيبَ لغويةٍ بعيدةٍ عن التعقيد والغرابة، مؤطَّرةٍ بألفاظ مأنوسة متداولة قريبة من فهم القراء الذين يفترض فيهم أنهم طلابٌ في قسم الفلسفة. والتصنيف هو تقسيم الأشياء والأفكار وترتيبها في مجموعات طبقاً للخواص والصفات المشتركة بين أفراد كلِّ مجموعة، ما ييسّر للقارئ استيعابها وفهمها. وسنضرب أمثلة على التصنيف المنطقي للأفكار المتباينة في الكتاب عندما نناقش مضمونه. أمّا وضوح لغة المؤلِّف وسلاستها، فيمكن أن نضرب المثل عليها من أية فقرة في الكتاب. ولتكن هذه الفقرة الفلسفية الآتية التي تطرح قضية الصلة بين المنطق والنحو، لأنَّها تكمل الفكرة الأساسية في فلسفة اللغة التي طرحناها سابقاً في فقرة التمهيد في أعلاه،  لتوكيدها:

" ويقال إن " أرسطو"(384- 322ق.م) قد توصل إلى كثير من التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني؛ حيث ذهب إلى أن الكلام يعبِّر بدقة عن أحوال الفكر، وأن المرء في وسعه أن يستعين بالقوالب النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر.  فالنحو ينظر إلى الألفاظ من ناحيتين: من ناحية وجودها مفردة، فيقسّمها إلى أسماء، وأفعال، وحروف ؛ ومن ناحية ارتباطها في جملة معينة . ونفس الشيء يُقال عن الفكر الذي ينقسم إلى أفكار مفردة هي التصورات، والأفكار المرتبطة بها وهي القضايا والتصديقات. وعلى هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلى: تصوُّرات وتصديقات، هو تقسيم مأخوذ أصلا من النحو."[19] (ص 2ـ3 من الكتاب).

وخلاصة الفقرة أن أرسطو استدل على تقسيمات الأفكار العقلية، بتقسيمات الألفاظ اللغوية. فهذه الفقرة الصغيرة تطرح فكرة كبيرة معقدة، ولكن الكاتب يسّرها للاستيعاب والفهم بفضل التصنيف المنطقي للأفكار الواردة فيها. فقسّم نحو اللغة إلى كلمات مفردة وجمل مركّبة. وقسم منطق الفكر إلى تصورات مفردة وتصديقات تتعلق بها، بطريقة تناظر نحو اللغة.

 

بقلم: الدكتور علي القاسمي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم