صحيفة المثقف

سامي عبد العال: ما هو نقيض المقدس؟!

سامي عبد العالبأضَّدادِها تتمايز الأشياءُ.. وعلى هذا المنوال ستُعْرف بماهيتها وخصائصها إزاء أشياءٍ أخرى. الضّدُ في العادة يكشفُ غيره إلى درجة بعيدةٍ، أي يبرز ما يناقضه تماماً مثل اختلاف الطبائع والألوان. فاللون الأبيض مختلفٌ تماماً عن الأسود، وكذا الأحمر متباين عن الأصفر، وتباعاً الأخضر لا يماثل اللون الأزرق.. وهكذا. ولكن إذا حَدَثَ ذلك ثقافياً في إطار المفاهيم والمعاني والرؤى، فلأننا نفكر بتصوراتٍ حدِّية قاطعةٍ تحكمها مرجعيةٌ لا يوجد بديل عنها، حيث نترقب مستويات بائنة لحد الظهور بين الأفكار.

 وهذا المعطى قد يمثل سقفاً (عقلياً وايمانياً) يحدد آفاق القول في مجالات الدين والسياسة والأخلاق والمعرفة بالإجمال. إذ ذاك نؤكد داخل مواقف الحياة على ذلك الصراع الدرامي: "نحن أو هم"..." أنا أو هو". وبالتالي نظن أنه يوجد هناك هذا المعنى: " كلُّ شيء أو لا شيء"، مثلما يُقال في السياسة: " أنا ومن بعدي الطوفان " أو كما قال أبو جعفر المنصور ذات خطبة " إنما أنا سلطان الله في أرضه "!! وهكذا بات الصراع المقُّوليconflict categorical نمطاً لكيفية التفكير وخطاب التواصل في بعض المجتمعات العربية الإسلامية، نتيجة أنَّ (التنوع الأفقي) ليس راسخاً إلى حد كبيرٍ. والشيء الأبعد أنَّه بتلك الطريقة يبثُ عنفاً مؤسَّساً على قضايا الدين (خلال مجالاتٍ ثقافية متباينةٍ).

إذن يبدو منطقياً (بهذا التاريخ أو ذاك من الفكر) التساؤل عن نقيض المقدس (معتقد- نص- مرجعية – أيديولوجيا- سلطة) طالما يتكون معناه في سياق ميتافيزيقي- ثقافي. فلرُبَّ قائل هنا إنَّ نقيض المقدس هو: المدَّنس، وآخر قد يزعم أنَّه: الدنيوي، وربما ثالث يؤكد أنَّه: العلماني، ورابع يظن أنَّه: الإنساني... إلى باقي الأطراف الوارد في معادلات الفكر المعاصر (المقدّس / المدّنس، المقدس / الدنيوي، المقدس / العلماني، المقدس / الإنساني...). يترتب على ذلك وجود عبارة رائجة: طالما أننا ننتقد التجليات العنيفة للمقدس بحكم ولادته اعتقادياً في سياق الحياة، فينبغي علينا (أو هكذا يُقول المتعلمنون) تأييد الطرف المقابل له، أو هكذا يجب معرفته حتى نقلل من الغلواء باسمه. يحدث ذلك من قبل البعض المتعلمن دونما أدنى اهتمام بدلالة المقدس نفسه. ولا كيف يحقق وجودّه على صعيد الفكر، ولماذا يتقدَّس أصلاً على نحو مستمر بين الناس؟ وهل كل مقدس يقفز خارج نطاقه فارضّاً معناه كمعتقد ونمط ايمان أم لا؟

استدراكاً لهذا بعد تلك الأسئلة، قد يذهب آخرون أنَّ الطرفَ الآخر لثنائية dualism المقدس وغيره هو (محصلةُ ذلك كلِّه) في الاتجاه المغاير تماماً. ولكن تلك الطريقة في فهم الأمور ترتبط بأحكام خاطئةٍ، مثل اعتبار (الإيمان) خاصاً بموضوعات التقديس ضمن الأديان فقط وأنه سيكون مفهوماً في نطاقها ليس إلاً (كما يقول البعض المتسلِّف). بينما الإيمان في الحقيقة ينتشر بدرجةٍ كبيرةٍ عبر ممارسات إنسانية أخرى مثل: الحب وحميمية العلاقات الاجتماعية والصداقة والضيافة والكرم والتسامح والتقدير والاحترام المتبادل وممارسة الفضائل. كما أنَّ تجاهل مواقعه (أي الإيمان) غير الدينية سيوقعنا في أشكاله الزائفة مرات ومرات.

وعلى الرغم من صحةِ الاستفهام حول ما هو نقيض المقدس؟، إلاَّ أنَّ موضوع الاستفهام المقصود في ذاته ليس صحيحاً (أي المقابل له حصرياً). فهو استفهام مزيف false question من طرفه المفتوح ما لم نتأمل أولاً طبيعة المقدس كمعنى أصلي على نحو مغايرٍ. المسألة الحيوية إذن: أنَّ المقدس ليس طرفاً في نظام منطقي مع أي نقيض له وإلاَّ لفقد مدلوله المتعالي ابتداءً. كل مقدس لا يدخل في أرجوحة التقابل مع سواه، إذ كيف يكون مقدساً مكتفياً بذاته ثمَّ يترك نفسه مع شيء مساوٍ له منطقياً أو أيديولوجياً؟! إنَّ المقدس بحكم مكانته (أو هكذا يجب اتساقاً مع تعريفه) يهيمن على كل الأطراف في لعبة إقصاء وجذب دائراً حول نواتُّه العليا دون سواها.

كما أنَّ (ماهية المقدس النوعية) من الخطورة بمكان لدرجة أنّها قد تُخلّع على الطرف المقابل له كما هو حال لعبة الثنائيات في الميتافيزيقا واللاهوت. فلكي يكون المقدس متفرداً في ذاته، تذهب صفاته على الطرف الثنائي له من باب أن الواقف أمام المقدس يعد مقدَّساً بالمثل ولو كان مناقضاً له. وبالتالي سيكتسب هذا الطرف المقابل أو ذاك قيمته الأصلية نفسها بدرجة متقاربة جداً. فلو تصورنا مثلاً أنَّ معنى الدنيوي (هذا الأمر المؤقت والمعيش) مضاد للمقدس (ذاك المطلق والتام)، وكان الدنيوي محل أيديولوجيا سياسية أو اجتماعية رائجة وغارقة في الشمول والإكراه، فسيكون الطرف الأخير له مكانة التقديس نفسها. وسينصرف الدنيوي الزائل من حينه طارداً الأطراف المغايرة في دورات ثقافية لا تنتهي. فالمقدس إزاء أيِّ طرفٍ (أشبه بالموجب مع الموجب) لا يلتقيان معاً ولا يرتفعان معاً، إنما يتنافران عادةً في أية دائرةٍ تجمعهما. إنَّ معرفة تلك الفكرة البسيطة سيحُول مستقبلاً بيننا بين تقديس الأشياء والأفكار والشخوص والمفاهيم. بل سيكون أيُّ مقدس غير أصيلٍّ موضّع استفهام دائم لمعرفة أبعاده وحيثياته، كما أن البحث عن نقيض المقدس سيستنفد طاقاتنا، بقطع النظر عن سلطته وتضخُمه المتواصلين.

شيءٌ من هذا يوجد في مفهوم (الله بمعناه التوحيدي) ضمن الديانات الإبراهيمية (اليهودية، المسيحية، الاسلام). فدلالة الإله لا تقبل معنى الشرك من قريبٍ أو بعيدٍ بحسب منطلق الإيمان. وكلُّ من ينادي بذلك يعتبره أصحاب أهل الايمان منحرفاً عن أصل الاعتقاد. كما أنَّ الإله لا يسعْه في الكون شيءٌ، وبالتالي سيقف ملء السماوات والأرض خيالاً وايماناً (وسع كرسيُّه السموات والأرض). كما لخصت الفكرة إحدى آيات القرآن بشكل موجز من النهاية (لو كان فيهما آلهةٌ إلاَّ الله لفسدتا). إنه التنافر الأصلي في بذرة القداسة (تلك التي لا تجتمع بغيرها) طالما انطوت على الإمكانية القصوى لموجود واجب الوجود بذاته وبسواه هو الله.

 ومن قدرة المقدس على اعادة انتاج تأثيره: أنْ يستقطب انتباهنا بواسطة الطرف النقيض. على سبيل التوضيح: أليست هناك جوانب في جميع الديانات تخص الشيطان؟ والشيطان هو الطرف النقيض إيمانياً لله، فهناك هذا الصراع الخفي والدؤوب بينه وبين الله على صعيد الحياة البشرية وأمورها. ولهذا سينصرف انتباه البشر إلى ما سيفعله الشيطان بهم لا إلى أي شيء غيره. وكيف سيكون قادراً على تضليلهم ودفعهم إلى طريق الخطايا والأعمال الخبيثة ولذلك أخذوا بالترقب لنفثاته وهمزاته طوال الوقت. مع أن الشيطان خِلْقياً من مخلوقات الله ولم يقل الشيطان نفسه بوضع مقارنه بينه وبين الخالق، بل الأدق أنّ الاسلام نهى عن تأليه الشيطان أو إضفاء صفات القداسة عليه كأنْ يتصرف في الكون أو يشكل أمور الحياة. وعلى المسلمين التحسب من جميع بدائل الشيطان (الطاغوت، الأصنام، الأوثان، الأشرار،...).

من جانبٍ آخر، فإن ثمة ديانات كالمسيحية تبني دراما جدلها الداخلي بين الخير والشر على وجود النقيض (الخطيئة) نتيجة اغواء الشيطان. وهو جدل كوني مرتبط بمسألة الخلق ومسيرة الحياة الإنسانية وعودة المسيح ونهاية الحياة بالمثل. وكانت ميتافيزيقا الصلْب والفداء هي الغلاف المقدس الذي ظل يبرر الاعتقاد، لدرجة أنَّ من يؤمن بالثانية من المسيحيين (عملية الصلب والفداء) لابد أنْ يؤمن بالأولى (الخطيئة). وبذلك كان للشيطان دور واضح في سيناريو الوجود البشري منذ البداية إلى النهاية، وبالطبع هناك موطئ أقدام شيطانية لا يفقدها هؤلاء المؤمنون حيال الحياة وفي التفاصيل التي يمارسونها. وهي ما تجعلهم متمسكين بالمعتقدات والأسرار كما تطرحها الكنيسة كركن من أركان اللاهوت المسيحي.

 كلُّ ذلك دونما مناقشة أنَّ مصدر الكلام هو النصوص المقدسة في الأساس. ومن هنا – وتلك أحدى خواص المقدس- كلما سلَّطنا التفكير تجاهه سيكون النقيض (هذا الشيطان... وأي شيطان آخر) هو الضامن لمعرفته وأهميته وقدرته الفائقة على الوصف. بل النقيض هو الامتداد المقلوب له بدرجة متساويةٍ في كثير من الأحيان. بمعنى إذا كانت كل الصفات الشريرة والخبيثة والماكرة تُنسب إلى كائن غامض اسمه الشيطان، فإنَّ جميع صفات الخير والهداية والرحمة ستنسب بالمقابل إلى الله.

وهذه الفكرة تشكل ميتافيزيقا الاعتقاد الثنائي في تاريخ الديانات طُراً بلا استثناءٍ. فعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم اعتبر أنَّ المقدس فاعل داخل الدين كنظام موحَّد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء ميتافيزيقية حتى ولو كانت متناقضة؛ أي أشياءً يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم واللامساس، لدرجة أن هذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين بها في جماعة أخلاقية واحدةٍ.

على الجانب الآخر، فإنَّ اقصى ما يفعله المؤمنون (على اختلاف حيواتهم الدينية) هو التأكيد على وجود نقيض شبه موضوعيquasi-objective للمقدس (مثل وجود أصحاب المعاصي أو أهل الظلم والجور أو إجمالاً وجود أفعال الشرور والآثام). فهذا سيعطيهم طاقة إضافية لمواصلة الإيمان العملي طالما وجدوا عدواً منظوراً أو متوقعاً في طريقهم. كما أنهم يجنبون إيمانهم شروخاً محتملة في المستقبل، لأنَّ العدو المنظور سيوفر لهم درجةً من التلاحم الذاتي لا تقل عن الاعتقاد نفسهِ. وبذات الوقت، فإنَّ هؤلاء المؤمنين يخطفون تصورات متأرجحة (من جهة الصحة والخطأ) حول الأعمال وتحمل المسؤولية عنها أو لا. فعندما يريد هذا المؤمن أو ذاك الهروب من الإلزام الخلقي بسبب بعض تصرفاته غير المقبولة، يلقي بالمسؤولية على الشيطان ووساوسه. ولعلَّ الشيطان هو أكبر نقيض في تاريخ الأديان الذي يحمل أوزاراً ولعنات ملقاة عليه من هنا وهناك بحجم تاريخ البشرية.

 والآن: طالما لا يوجد نقيض للمقدس بالمفهوم السابق، فهل كلُّ مقدس سيناقض ذاته؟! يبدو أنَّ الإجابة بنعم هو الأمر الأقرب للصحة، لكن هذا التناقض يأتي بصيغة الاتساق المزدوج (أي معنى المقدس وبدائل المعنى نفسه). فكل مقدس من هذا الصنف لن يقبل وجود غيره مستقلاً بسهولة فلسفيةٍ. كما أنه يتمتع بسلطة مطلقة دون شريك ولا مثيل، حتى يأخذ مكانته متفرداً وإلاَّ لما سُمي بهذا الاسم. ولنلاحظ أنه لا توجد وراء هذا الوضع (استحالة إنسانية) تقف بالمقدس ضد منطق العقل (أي أنه من غير المتصور تحقق المقدس هكذا)، بل إنَّ المقدس نفسه يمثل مفارقة ميتافيزيقية metaphysical paradox غير عقلانيةٍ بالأساس.

 وهذا من طبيعة تكوينه المطلق في ذاته وتكوينه النسبي عبر وجودنا وتصوراتنا. فالله مطلق خارج التصور والفكر والوجود وهكذا يؤمن الناس، ولكنه نسبي عبر تفكيرنا تبعاً لما نعتقد (ولذلك سيكون الإيمان هو الرافعة الرمزية والنفسية التي تحل هذا الإحراج المنطقي). لأن الإيمان حب وطاقة نفسية تحقق على صعيد الاعتقاد نزوع التعرف والتيقن الخاصين دون المرور بنظام منطقي يتعلق معطيات الواقع والأشياء ولا هو مطالب بها أصلاً.

وأظن (من ثمَّ هي الفكرة المفترضة هنا) أنَّه لا نقيض للمقدس إلاَّ المقدس نفسه بحكم وضعية المفارقة المشار إليها. وبالتالي ستعارض الفكرة السابقة جميع الثنائيات المطروحة بمعناه أو كيانه في تراثنا العقلي: فثمة مشكلة حقيقية: كيف يقف مقدسٌ إزاء مقدس آخر؟ إنَّ تناطُّح المقدسات كما في حال المذاهب والنحل والملل لا يأتي إلاَّ بفضل النقائض التي تستبطن أفكارنا. تلك النقائض التي نراها بعيدةً عن المقدس وخارج هيمنته، بينما هي مشبعة بوجوده إنْ لم يكن حقيقةً، فعلى منواله وأساليب عمله. وبالتالي: كيف نتتبع المسألة إذن بصورة واضحةٍ؟! هناك عدة مستويات يظهر من خلالها المقدس في معناه البعيد. وهي مستويات تظهر: لماذا لا يوجد نقيض للمقدس وفي حالة لو وجدت صيغ منه، ستجعله مفهوماً ومتداولاً بطريقة أخرى.

* الأصل origin. يحتل المقدس موقع الأصل قصداً، سواء أكان كائناً أم نصاً أم دائرة مرجعية دينية أو أيديولوجية. وطبعاً الأصل لا يترك نفسه كلما اتفق، إنما يُخفي ذاته في رموز وأنشطة ومعارف عديدة داخل الحياة الإنسانية. والفكر العربي الإسلامي يضع الأصل (الأصول) موضع التحريم ويضعه سارياً عبر كل الأشياء والأفعال. وبالتالي تتضاعف معاني الأصل بشكل متواتر دونما مبررات فعلية. بحيث تصبح أية علاقة لا تتوافر على الأصل ضرباً من الإقصاء الحادث بالضرورة. وحتى إذا وُضعت حقيقتها مرهونةً به كان ذات الأقصاء أيضاً. وهنا يظهر التناقض الذي يقع فيه وضع المقدس بالأصل. فكيف يكون أُسّاً ويعد كذلك علاقة، وعرضاً؟!

وربما يزداد هذا التناقض حدةً إذا كان وارداً في مجال الفعل الإنساني. فالأصل المقدس ضمن التاريخ ليس أصلاً، لكونه إمَّا يتعدد، يتنوع، يختلف ويتشذر وهذا شيء طبيعي تماماً، وإما يتكرر ويستنسخ مراراً كما هو وضعه. وفي الحالين لن يغدو معناه مفارقاً خارج التاريخ كما تؤكد فحواه بالنسبة للإنسان. بل سينتج الإنسان إزاء المقدس تجارب متناقضة تمام التناقض به وداخله (تجارب الإيمان والاعتقاد كثيرة ومتناقضة بحسب الأديان). المثال الأبرز حينما يظن أصحاب مفهوم الخلافة الإسلامية (الجماعات الدينية) وجودها على منهاج النبوة كما يقولون. هذا في التاريخ ليس إلا ادعاءً.

فالسؤال المهم: ما المقصود بهذه المقولة السياسية؟! أهي حقبة كان النص الديني فيها نصاً حيّاً ومعيشاً بكافة الجوانب والتفاصيل؟ وهل هي ضمان تاريخي لصحة الأفعال والصورة المقدمة للحياة؟! وعلى افتراض الإجابة بالإثبات، فلن يكون نموذج الحكم صحيحاً ولا مثالياً كما يقال (السلف الصالح والراشد). فهذا إنْ حدث فلن يجري في التاريخ كأحداث وأزمنة من لحم ودم. والوقائع تثبت كون الخلفاء الراشدين كانوا بشراً يخطئون ويصيبون، وتحيطهم الصراعات السياسية والاجتماعية من كل جانب مثلما فعلوا أشياء مقبولة وأخرى غير مقبولة. وبخاصة أن رسول الاسلام نفسه ترك مساحات من الحياة السياسية دون تقرير نظامها وكيف يتصرف فيها الخلفاء والصحابة (مثل نظام الحكم وإدارة المجتمع والسلطة). وبالتالي لم تكن فترات سلطتهم معبرةً تمام التعبير عن النقاء والطهرانية إنْ كان الأمر كذلك لدى المتسلفين!! إذن ثمة استحالة تجدد نفسها لتأصيل الأصل في التاريخ بعبارة محمد أركون. ويصبح المقدس في صورة تاريخ معطى على نحو كامل محل استفهام وراء استفهام. إذن لماذا لا يبدع الإنسان حياة جديدةً في كل عصر من العصور، حيث لن تعود الحياة القديمة (مع استحالة ذلك بالطبع) إلاَّ في بنية مختلفةٍ. ذلك على افتراض التكرار السلفي لحياة الإسلام الأول في أضيق الحدود والبدائل.

* السر secret. الأسرار تلف المقدس بدايةً من وجوده وتأثيره حتى الإيمان به. ربما ليس المقدس مقدساً في ذاته إلاَّ لكونه سراً. وهناك ترادف في المعنى بين التقديس والسرية التامة إبقاءً عليه. وربما لهذا السبب يظل حافظاً مكانته في نفوس المؤمنين والاتباع. فالأقانيم الثلاثة في المسيحية (الآب- الابن – الروح القدس) في تكوينها هي أحد أسرار الايمان. ناهيك عن أنَّ العلاقة بين عناصرها متروكة للغموض على هذا الغرار أيضاً. وسيبدو التناقض ظاهراً مع محاولة التبرير العقلاني Justification rational لهذه الأسرار. وقد حاولت بعض الفلسفات تقديم إنساق تبريرية حول هذه المسائل مثل فلسفة بول تيلش وسورين كيركيجارد ولكنها لم تفعل سوى إنشاء مفاهيم موازية في مجتال التفلسف ومحشوة بكم من المعاني النفسية والإيمانية على طول الخط.

أما لماذا يرتهن المقدس بالسر عموماً، فلأن المقدس ذو عمق شخصي غائر في تكوين الذات، يتشكل من إيمان الأفراد ومن أخيلتهم وتجاربهم الروحية. وبالتالي إذا ما حاول هؤلاء فرض نمط من الإيمان على غيرهم سيكون التناقض جلياً. والمسلمون المؤدلجون لا يقتنعون في قرارة أنفسهم بأن المقدس سر ملغز. فكل جماعة اسلامية هي ضرب من الإعلان الجمعي العنيف- القائم على التناقض- لهذا السر. حت يمكن القول بأن الممارسات الدينية عبارة عن ترويض لهذا النزوع بإخضاع الأخرين لما يعتقدون. إما الأكثر تناقضاً من تلك الجهة فهو تعميم هذا الايمان السري خارج نطاقة في هيئة نظام جمعي.

* الهوية الذاتية self- identity. كل مقدس يتميز بهويته الذاتية المكتملة من أول وهلةٍ. ربما هو المعبر الوحيد عن القضية الأرسطية (قانون الهوية: أ= أ)، الهو هو. جميع الأديان تؤكد على ذلك المعنى. ولا تمل من التأكيد عليه. ويشمل هذا القانون الحقائق والمفاهيم والنتائج أملاً في الوصول إلى الفعل. وإذا كانت أية هوية تستحيل إلى اللاهوية non identity بفضل التراكم التناقضي لعناصرها من واقع تنوع الحياة، فالفكرة السابقة الخاصة بالهوية تبقيه بمنأى عن الانقسام. والدين إجمالاً ضرب من الهوية الذاتية المتخيلة بهذا المدلول.

لكن سيأتي التناقض الخصيب من محاولة التوحُد بتلك الهوية المفارقة من قبيل المختلفين. مرة بالتصوف كحال التوحُد الروحي مع المحبوب. ومرة بممارسة الطقوس استحضاراً لتجربة الأصل. وغيرهما بالمعارف التي ترمي إلى قول الحقيقة الأصلية رأساً.

* الايمان والاعتقاد faith and belief. يترسب المقدس لدى المؤمنين بهاتين الوسيلتين. لكنهما أكثر من وسيلتين. فالفرق بينهما كالفرق بين القول بإمكانية تحريك الشمس بأصبع اليد وبين القطع بكون الأصبع يحركها حقاً. فالتناقض واضحٌ بين الإحساس والرغبة وبين التصور. إنَّ الإيمان عاطفة قوية لدى الشخص بطاقة الامتلاء من المقدس. إنه تجربة ذاتية من الألف إلى الياء وتصاغ بمعطيات التجربة نفسها. وقد تكون بعيدة الدلالة من جهة عدم إمكانية امتلاكها حتى ينجذب المؤمن إليها بكامله. أما الاعتقاد فهو تحول الإيمان إلى معتقد (تصور- مفهوم- فكرة) معقُود عليه وغير قابل للمناقشة.

والتناقض يظهر عندما يغدو الإيمان فاقداً حرارته ليصبح مادة باردةً. لأنه كإيمان حي يجب ألاَّ يتوقف عن الحركة والتعبير عن نفسه كما أنَّه يختلف من شخص لآخر. وبالتالي لن يغدو موضوعياً بحال من الأحوال.

* الحضور presence. فإي مقدس يحضر بطريقةٍ من الطرق حضوراً كاملاً. ولو كف عن الحضور سيكف لدى معتنقيه عن إيصال معاني القداسة. وهذه القضية رغم أنها تبذل الحذر كل الحذر من التناقض سوى أنها تؤدي إليه بالنهاية. فكيف لسر غير متعين أنْ يحضر؟ أليست الكلمات تشيئ المعاني؟ ثم يحاول المؤمن تأكيد معنى الألفاظ دونما الشعور بوقع هذا التعين على نحو ملموس.

وبالتالي تتداعى المفاهيم البشرية للمقدس بوضوح من خلال اللغة وتداولها. لأنَّ أي نقيض محتمل في وجوده لن يقارع هذه العناصر السالفة المكونة له ولا يحققها ولو كانت سالبة (أي في الاتجاه النقيض). فاللغة تحمل لدرجة التنوع صور المقدس وطرائق عمله في ذهنية الإنسان. وكل النصوص الدينة تعتمد على شيء يتجاوزها مثل الإيمان والوحي والعالم الأخروي (سلطة المعنى مع قوة الرغبة والاعتقاد والتجربة الروحية).

 لكن اللغة مع كل هذا لابد أنْ تتمتع باتساقٍ من نوع ما في نظامها الدلالي. إذ ذاك ستترك المقدس يتجلى بمنطق التعبيرات ودلالتها كما هو في النصوص. عندئذ سيتجدد التساؤل الدائم: هل يتسق المقدس مع مواقعه الدلالية المتنوعة بلا تناقض أم لا، وبخاصة أنَّ مواقف الناس متناقضة لدرجة الاختلاف؟! وهذا الباب سيظل مفتوحاً دون نهاية، لأنَّه جزء لا يتجزأ من روحانية الإنسان وتجاربه الحرة القابلة للثراء واحتمال الأسرار.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم