صحيفة المثقف

جمال العتّابي: مقهى سقراط.. مراحل تدمير المعنى في التجربة العراقية

جمال العتابيان هماً ثقافياً يواجهنا ونحن نتبين كتباً على درجة من الوعي والإنفتاح، والوضوح، وعلى مقدرةٍ عاليةٍ في المسؤولية، وأخرى نقيضها مفرغة المحتوى، وهي الرائجة والمتداولة، وإزاء هذا الإنتباه، تبدو مهمة الكتابة بالإتجاه الأول، عسيرة لانها تحفر عميقاً في الارض البور، لإشعال فتيل ضوء الكلمات، لاننا نخاطب الجانب الأدّل في الإنسان، ذلك ان الثقافة سلوك وإرادة ونباهة.

يذكر الكاتب الارجنتيني ما نغويل في (يوميات القراءة): هناك كتب نتصفحها بمتعة، وأخرى نقرأها بخشوع، ونعود لها، وأخرى لا تعطي سوى معلومات، ولا تقبل التعليق، لكن تنتاب القارئ أحياناً الرغبة بإمساك القلم، والتواصل مع الحوار بكتابة الهوامش، هذه الكتابة الظل توسّع من النص وتنقله إلى زمن آخر.

وبناءً على ذلك، خطر لي أن أعيد قراءة (مقهى سقراط، مراحل تدمير المعنى، نقد السسيوثقافي في التجربة العراقية) للكاتب جمال جاسم أمين، الذي صدر عام 2014، لحيوية موضوعاته، وتجدد أهميتها في الوقت الراهن، لما وجدت فيه من علامات جودة في الإختيار، وثراءً وفائدة في الدلالات والمضامين.

عُرف أمين بتجربته الشعرية المتميزة، وله كتابات ودراسات عديدة منشورة، وله حضوره اللافت في الوسط الثقافي، إلا ان أمين إختار منحى آخر ضمن مشروعه في نقد الواقع الثقافي العراقي، فصدر له(أساطير الإستبداد) و(الأزمة المفتوحة)، إذ يرى ان عملية النقد، واحدة من واجبات المثقف، الإجرائي، الذي عليه ان يبتعد عن التنظير.

2493 مقهى سقراطلماذا مقهى سقراط؟ يقول جمال: انها يافطة لمقهى شعبي في مدينته الجنوبية (العمارة)، رواده مربو الطيور، هؤلاء لا متعة لهم سوى التحديق في سماء المدينة بحثاً عن طيورهم المحلقة، ومراقبة صراع الديكة عصر كل يوم، هل كان هؤلاء البسطاء يعرفون ان سقراط مقولة من مقولات (المعرفة)، وماسبيلهم إلى ذلك؟ بل ما علاقة سقراط برهانات الديكة ومعاركها،؟ ليس ثمة قرينة ولا مناسبة، سقراط هنا مقولة أوصلها اللامعنى الى يافطة المقهى، بطريقة أوصلتنا جميعاً فيما بعد إلى كوميديا من هذا النوع.

من هنا يحاول الكاتب الوصول الى جوهر المشكلة في تتبع مراحل تدمير المعنى تاريخياً، ودراستها على أكثر من صعيد، وركّز على مرحلة الخراب والفوضى التي رافقت الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، وما دور المثقف فيما حصل؟ وهو يشير الى عجز المثقف عن تأكيد دوره في ظروف ملتبسة، والعودة الى واقع ومشكلات الثقافة الراهنة، نحتاج الى استبدال  لغة الشكوى، إلى الإنتقال من جاهزية التبرير الى مساءلات نقدية جادة.

ان الحديث عن معطّلات المعنى، يعني اننا مازلنا نعيش تيهاً معرفياً، تدمير المعنى على أيدي اعدائه، وهم لا يجيدون إنتاجه، ان أصل الإشكال العراقي، حاضراً وتاريخاً، كما يصفه الباحث حيدر سعيد، هو: ان العراقيين هم الطرف السلبي في كل ما يدور من أحداث، انهم ينتظرون الفعل، أي فعل، من طرف خارجي، وهكذا كنا (مفعولين)، لا (فاعلين)، ولا نزال كذلك.

والأزمة في أحد وجوهها، تتضح في إستدعاء التاريخ والمكوث فيه، بل والسقوط تحت تأثيره، لم يتجاوزها المجتمع العراقي، إنما إحتفظ بها حد التخمة، على مستوى الظاهر، أغلب أسماء المدن ذات حمولة تاريخية (ذي قار، صلاح الدين، القادسية، المنصور، اليرموك، طارق، الواثق، الرشيد، الخلفاء)، وغيرها الكثير، ولعل الاخطر ان الجدل في التاريخ لا يوفر فرصة لصناعة المعنى، أو الراهن، لذا ستصبح الثقافة ثقافة ذكرى لا ثقافة حضور، من هنا يتعطل الراهن، وتتوفر الفسحة المناسبة لعودة الخرافة، والإنقسامات المذهبية.

ان الجماعات التي تعيش تحت وطأة تاربخها، أو تهرب بإتجاهه، بعد الفشل في صناعة حاضرها، توفر امكانية إنعاش الفكر القومي، بوصفه مفاخرة، والديني التقليدي، الذي يستعيد كل ما هو إشكالوي لينعش الإنقسام، لا أسباب الوحدة، هذان الخياران هما اللذان حكما العراق لمدد طويلة، ما يعني ان فكر التنوير، عانى، ويعاني أزمة حادة في ظل هذا التقابل.

أمام هذا الواقع سقطت الأقنعة، وتعرّت الأنظمة أمام عجزها وهشاشتها، عن تحقيق أي من شعاراتها، لأن هاجسها كان الوصول الى السلطة، والبقاء فيها بأي ثمن كان، ان اخفاق المشروعين القومي والاشتراكي، أمام صعود الأصوليات الدينية، أدى إلى مزيد من التردي والتراجع، لان هذه الاصوليات هي موجات ارتدادية، تحكمها الذاكرة الموتورة، والعقائد الإصطفائية، التي يفكر اصحابها بعقلية الثأر والإنتقام، كما يشير المفكر علي حرب الى جوهر الازمة في (ثورات القمة الناعمة).

ان مصطلحاً أطلقه علي شريعتي أسماه (الغرائزية، اللاوعي الاسود)، يصلح للإنطباق على شرائح واسعة من المجتمع العراقي، شرائح يصفها ب(الأغلبية الصامتة)، أو الكتلة البشرية الجاهزة للإستثمار السياسي، أياً كان نوعه، تتمتع ب(لا إنتباه) غريب تذبل إزاءه أسئلة الوطن  والمصير، ما يميزها انها جماعات ترنو لحاجاتها فقط، هذا السلوك الجمعي، سهّل مهمة تدمير المعنى، فالغرائزي نفعي، ووصولي وانتهازي بالضرورة، وقصير نظر بلاشك، وهو صيد سهل للايديولوجيات المتغالبة لانها تغريه بإشباع غرائزه مقابل صمته وتنازله،حتى لو كان هذا الاشباع بمال حرام، تتلاشى شخصيته بالرمز(الحزب، القائد، الطائفة، الكيان)، يلوذ بها وبحتمي، يتحول العمل لديه الى فعالية لاقيمة لها، لانه  شخص غير منتج، طفيلي، لذا يكره العمل، ويحتقره، وقد لا نحتاج الى برهان ازاء هكذا فساد كالذي يحدث في ظل جماعات دينية، ربما هذه واحدة من صور الرحى التي تطحن المعنى وتحول الحياة برمتها الى ساحة صراع محموم في ظل لا وعي أسود.

ان تتبع آثار الكوميديا السياسية السوداء العراقية، تقودنا الى تشخيص ظاهرتين رئيستين تتمثلان ب:

1-صعود الطبقات الرثّة الى سدّة الحكم.

2-ان مثل هذه الشراذم أصبحت (نخباً) حاكمة، جعلت من تدمير الطبقة الوسطى هدفها الاساس، لان هذه الطبقة هي فضاء صناعة المعنى،وهي تنتعش في ظل قيم مدنية، وان تدميرها،يعد خطوة مدروسة بإتجاه تدمير المعنى، أي  إختفاءالحاضن الذي تتحرك من خلاله ممارسات الثقافة وتمثلاتها،

وسبقت الاشارة الى ثقافة الكسب النفعي، لدى الأفراد، أو الجماعات الحزبية، فذاك يعني تعطيل عقلية الانتاج، وهدر الخبرة، ومثل هذه الثقافة تكون حاضنة للفساد، وتصبح السرقة سلوكاً سياسياً، وهدفاً للوصول الى السلطة، والمفارقة ان الديمقراطية التي بشّر بها النظام الجديد، تحول الى نظام محاصصة ومكونات يذوب فيها الفرد لصالح المكون، والنتيجة استمرار الفوضى بشقيها (فوضى الواقع، وفوضى المفاهيم والأفكار).

ان ما حصل في العراق كان يحمل طابع الصدمة، ولعل أخطر ما في النتائج، تحول الدين بوصفه قيمة متعددة القراءات، إلى ايديولوجيا، وإرتباط الإسلام السياسي الطائفي بالقبلية، مما ادى الى أسلمة التخلف، جرى ذلك بعد ان أفرغ الاسلام من منحاه التنويري، لصالح قبلية جاهلية جديدة، أمام إنتكاس ثقافة التحول والتجديد، ولصالح ظاهرة التطرف، كسلوك عصبوي أحادي مغلق، بالضد من الاعتدال، ولا يقيم وزناً لثقافة الحوار، أو يسمح بالإختلاف.

يعد الاعتدال أعقد الظواهر، وهو أبسطها، ولايمكن الحديث عنه إلا بالإستناد الى معرفة شاملة، هذه التي اشار اليها المفكر هاني فحص بالقول :بقليل من الدين تصبح متطرفاً، ولكنك لا تستطيع ان تصبح معتدلاً إلا اذا فهمت الدين كله، الاعتدال إذاً ينطوي على فهم عميق للحياة، من زاوية الفطرة الانسانية غير المنحازة.

تناول جمال جاسم أمين محاور أخرى، وسلط الضوء على قضايا الاصلاح الديني، والاسلام الديني، وازمة الاصلاح بين الاجتماع والسياسة، وأفق الثقافة ومشكلاتها، بحضورها الأكثر بلاغة، والاصولية الجديدة، صورة الشرق المعاد.

كما سعى الباحث أمين إلى الإنقلاب على ما هو تقليدي، وساكن في الحياة، بإتجاه نحو أفق أفضل للإنسان والمجتمع، بنظرة حداثوية تقود الى نظام يتعايش فيه العقل مع الذات في الكائن الإنساني.

لقد صاغ جمال افكاره بخطى واثقة، إبتعد فيها عن الفنطازيا واللامألوف، والتجريد، انما اعتمد المعرفة العقلانية للقوانين، والإرادة الحرة الواعية، ومن المؤسف القول، ان صناعة (معنى) جادة لكاتب عراقي، تمرّ عابرة دون إنتباه، ودراسة من ذوي الشأن. وأقول دون إنحياز اننا أمام كاتب يسعى لتحقيق حضوره الفاعل في الدراسات السسيولوجيا (العراقية)، وأمامنا ان نراجع بإهتمام ما توفر لديه، ونناقش ما أورد. وجدير بالكتاب، أن يأخذ مكانه من بين أهم الكتب العربية التي صدرت في العقد الاخير من هذا القرن.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم